النقد

رأي وانطبـاع حول المجموعة القصصية (آخــر التيـــه)*

كانت ليلة شتائية من رمضان 1996… وكان يخلع عليه شالاً وهدوءاً قديمين… وقد دفعني تصوري أنه من عرب الشام… لكنه كان “عمر علي عبـود” وكان ماثلاً أمام منتدى الثقافة، وكان كل شيء مظلماً ورذاذ المطر وبرد الزاوية المتوسطي يقطع تعرفي إليه إلا أن تأخر من بيده مفتاح المنتدى جعلنا على الرصيف صديقين نتبادل الأكاذيب… كان “عمـر” يقف كالحاجب القديم عند باب المنتدى وكنت أنا أحمل معي أعواماً من نبوءة الكشافة…

ما أجمل الكذب في الظلام!!

ما أجمل الكذب في الأقاليم!!

منذ تلك اللحظة صرت أتمتع بصديق مثقف.. ملئ بالأساطير والإخلاص وصفاء نفسي قل نظيره.. كان عمر عبـود وإياي نمزق جراب الوقت بلا رأفة وكأن الملل والنزق المعهودين لدّي يغادراني كلما التقيته..

أجمع هذه الحروف القليلة التاريخ والخاصة بالأحداث والأماني وأمامي مجموعته القصصية الأولى والموسومة بـ “آخر التيه”.

كنت عن كثب أعرف القصة التي يود كتابتها “عمـر” وكنت على الدوام انتظر منه كتابة تنضح بمزيد من العرق والعناء.. لا سيما أنه لا تعوزه اللغة ولا الثقافــة – لكن- “عمـر” ظل يمارس الحد الأدنى من الحرق في الكتابة كأنه زاهد يُرجي سره للحظة أمينة تمارس نفسها برئة واثقة.

قلت –كان– “عمـر”- في أول ليلة لتعارفنا قد ابتدأ مسلسل أوهامه وكنت قادماً أحمل على كتفي أحلاماً تخص الثقافة على ما يبدو.. وكان “عمـر” قد عرض أول حلقة في أول ليلة وكنت أحتاج المشاهدة، وأحتاج أن أعرض بالمثل –ويا له من حظ أعثر.. لقد صرنا واهمين تماماً وسقط جزء يسير هذه المرة من الأماني الممتدة حول المؤسسة التي تصافح شمس العواصم والثغور والكلمات..

الثقافة كذبة لذيذة إنها مثل أي شيء غامض.. مثل الموت.. مثل الحب!!، ومؤسسات الثقافة قد مارست خرقاً كبيراً في الأقاليم.. والثقافة بريئة والأوباش واللصوص كثر.. والأشباه يمكثون في كل ركن..

كلٌ ينتصب متى دُسْتَهُ في العتمة الممتدة عبر فضاء هذه المؤسسات المظلمة والمليئة بالجراد والحزن والغبار وتماثيل من بشر حزين..

– إن الثقافة حالة فردية لا تخص الجراد ولا التماثيل ولا المكتبات العانسة التي تركها الحجاج المغاربة منذ اكتشاف الطائرة على أية حال..

إن الأمر كله يحتاج إلى مزيد من القراءة والتأمل

مزيداً من الغروب والصلاة..

وهذه مجموعة قصصية تحوي ثلاثة عشر قصة قصيرة أو قصيرة جداً في أحيان أخرى.. والقصص بمجملها محاولة عبثية مسكونة بالنوايا الطيبة..

تبدأ المجموعة بقصة “سفر البدء”.. والتي يعالج خلالها القاص مسألة الشروع في الكتابة وما يصاحب ذلك من تردد وخوف، والجميل في هذه القصة بدايتها بفكرة القراءة أولاً..

وفي القصة الثانية والمعنونة بـ “استجواب” يتعرض القاص لأسئلة وجودية ويحاول التصدي لها بترك الاستفهام هنا وهناك..

أما القصة الثالثة “انفراج” يتعسر على القارئ تعشم سؤالها بيسر لأن القاص قد عمد إلى الإبهامية مباشرة مطأطأ لرأس المألوف بفكرة غريبـة!!

أما قصة “براح لُقيا” فهي منولوج من أسطير الخيال، سنّه كاتبه لأسباب مجهولة..

وفي قصة “بندول” ينتهي القاص إلى فكرة يائسة بائسة بطرح فني متواضع الأداء..

وفي قصة “صوت وصورة” يقترب القاص من نقد الواقع بطريقة واقعية وبها يومية موظفة لصالح فكرة يريد بعثها القاص.

وفي قصة “طيران” يقدم القاص بضمير الغائب “هو” – كعادته في قصص هذه المجموعة- عن هذا الـ “هو” معجب بسيارة ذات سرعة صاروخية..

وما أن ينتهي هذا الـ “هو” إلى المرفأ حتى تجتاحه الخيالات الغريبة.. حيث- وهذا على عهدة الراوي- تخطفه نسمة لتحمله فوق سحابة ثم صار يقفز من واحدة لأخرى على اعتبار أنها متجاورة والحدث الذي يلي هذه الخطوة عبَّر عنه القاص بالآتي:

فما من شيء أروع من اللهو بين الربابات.. فكر أن ينزع أجنحته كيما يفكر في الرجوع.. ففعل.. لكن السحب بدأت تدلق أهاليلاً وانفرجت السحب شيئاً فشيئاً.. أحس بخطر يداهم ربابته.. لكنه رمى بأجنحته.. صار الفاصل بينه وبين الـ.. هو تلك المسافة بين السحب والأرض ويا لها من لحظات.. شعر بأنه بين أحضان الفضاء دونما أجنحة ولا مستنداً على أي شيء.. آه.. ما أحلى الطيران دون وسيلة ولا أجنحة.. إن هي إلا لحظات وإذ بقطرات مائية تداعب وجهه.. الأمواج كانت بانتظاره لتحضنه بعنف.. بيد أن القطرات كانت من الموج الذي يهدر أمامه.. ليزيح عنه ذلك الكابوس.. لكنه كابوس جميل..

ما الذي يمكن للقارئ من استنتاجه من هذه القصة؟!! وأين اختفت السيارة التي قدم لها وصفاً مديداً في بداية القصة؟.. لا سيما أن الكابوس لم يدرجها في أحداثها؟

أسئلة كثيرة يمكن أن تتسق في هذه الموضوعة الخاصة في منطقة اشتباك الواقعي بالخيالي!!؟

في قصة “كيت كات” وهي القصة الثامنة في المجموعة يبدو أن القاص قد لجأ مباشرة إلى الواقعي وتحديد سؤال بعينه بنضج جيد وبطرح مقاربة تشويقية للقارئ على ما يبدو على أقل تقدير.. بل أعتقد أن هذه القصة الأكثر نضجاً في تجربة القاص في مجموعته “آخر التيه”..

وأحداث القصة تدور –وكعادة المجموعة- بوصف يختص به ضمير الغائب المستتر “هو” –وهذا الـ “هو” في هذه القصة يكتسب إطاراً حياتياً يومياً حيث يبتدئ يومه بتناول إفطاره مبكراً في الصباح، ثم يشرع في ممارسة حياته في كل المجالات مبتدئاً بإمكانيته في إصلاح سيارته والتزامه في عمله الوظيفي واحتضانه لموهبة أخلاقية تمكنه من إصلاح ذات البين وموهبة تقنية تخوله بالاضطلاع بمهمة صيانة الأجهزة الالكترونية والهواتف و… الخ.

وفضلاً على ذلك ممارسته لكرة القدم.. بل يمنحه القاص بقوله

“فهو لاعب يجيد اللعب في جميع المراكز، فهو مدافع صلب وصانع ألعاب ومهاجم قناص وأحياناً حارس مرمى..!!.”

وكرة القدم ليست الرياضة الوحيدة التي يمارسها هذا، فهو بطبيعته الاجتماعية يقضي مع أصدقاءه السهريات، والتي يلعبون خلالها “الكارطة” ثم “الشطرنج”ن والتي لا تخلو – أي سهرياتهم- من نقاش أمور الدنيا والدين على حد تعبير القاص.

ولعل القاص لم يهادن في إطلاق نعوته المطلقة والكليّة، والتي تكاد من المحال اجتماعها في فرد بعينه بمفارقاتها العجيبة على بطله المعجز.. لاحظ قوله:

“بعدها يعود للبيت ليكمل سهرته، يقرأ ويطلع على الصحف والمجلات والكتب، فهو يجيد اللغة الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والروسية والألمانية والبشتونية والعبرية.. وبعض اللهجات المحلية.. كذلك يكتب الشعر (التقليدي والحديث) والقصة والرواية والمقالة وحتى الشعر الشعبي، “ويرسم اللوحات التشكيلية على مختلف المدارس (الواقعية، التجريدية، السريالية، الضبابية، الإنكسارية) وله عديد الدراسات النقدية”..

وهذه التفصيلات يغدقها القاص أيضاً على بطله في الموسيقى والمجالات الأكاديمية وبنفس الوهج والتدقيق.. وبهذا لابد للقاص أن يستدرك بقوله:

“رغم ذلك فهو متواضع جداً، يقف في طابور الجمعية، ويزاحم في سوق الخضرة.. له معارف في سوق السيارات حيث يعتبر من أكبر (بزناسي) السيارات”.

ثم يتساءل القاص نفسه بقوله:

 “فماذا ترك لغيره هذا العبقري؟” .. يقول القاص عندما وجه هذا السؤال إلى العبقري قال: “إنني أحاول هذه الأيام أتعلم طريقة صنع الكيت كات”.

وقد توقفت إزاء هذا الإنفاق الهادر والمكثف الذي خلعه القاص على بطل القصة وتساءلت لماذا كل هذا؟!!

ولم أجد من مبرر سوى أن القاص يريد أن يقول حتى وإن كان هذا الشخص يعيش بين ظهرانينا، فإنه سوف لن يحظى بأية ميزة اجتماعية.. إنه سيسهر مع الجماعة للعب الكارطة وإنه “سيداعك” الطابور المحتشد أمام الجمعية الاستهلاكية للمؤن الغذائية، وإنه.. الخ.

وفوق هذا أنه لا يجيد صناعة حتى نوع من الشيكولاتة!! ما دام مواطناً ليبياً!! .. أليس كذلك!!.

والإنفاق هذا جاء كأداة تهكمية مطوقة باللامبالاة في حشر المتناقضات في عباءة واحدة..

وهي –على أية حال- وسيلة تدفق إليها الكاتب لشحذ انتباه القارئ في محاولة شبه موفقة لإيجاد طرح فني لإنقاذ فكرته..

في القصص الخمس الأخيرة “كأس القرنفل، فرح آخر، روضة رابض، موعـد، تيه أخير“.. يمزج القاص فيها التهكم بالخيالي ويبلغ النص مداه الفنتازي ويتجرع القارئ قدراً من اللامعقول بالمثل إذا ابتدأ المجموعة من سفر بدئها، وتنال اللغة حظها من الزمن وتتفاضل الأفكار الصغيرة ولا تتكامل أبداً في فكرة موحدة..

والمجموعة بأسرها محاولة مبدئية للقاص ستجعله يتصبّب عرقاً في قادم الأيام لخلق ما هو أهم.. هكذا يحدث للكتاب في ناموس الثقافة.. أقصد عادة ما يحدث هذا!!

أما بالنسبة للقاص في هذه المجموعة فقد تحاشى بناء قصته على تعددية الشخوص وحضورها بفاعلية.. بل اكتفى ببطل فرد وروى عنه بضمير المستتر (هو) وهذا في حد ذاته سؤال يمكن أن يقدمه القاص للقارئ، أو على نقيض ذلك يمكن أن يقدمه القارئ للقاص..

أما اللغة فتبدو جيدة لولا حضور بعض الكلمات المحنطة التي عفا عليها الزمن وجانبتها الذاكرة.. ومن الملاحظ أيضاً بخصوص لغة القصة لديه أن يجنح في أحيان معينة لجعل لغة النص مفتوحة على مصراعيها بطريقة قاصمة لتتبع القارئ لسيرة السرد حيث يأتي وزرها في لحظات تفصيله للسرد كأساليب مثل

“إنه هناك يعارك البعيد، يناطح الموج.. يلاطم الطوفان، تسنده الريح حيناً، تصده حينا”.

وإن كان ثمة من كلمة تقال في هذا الشأن أن القاص عمر عبـود قد كتب قصصه الأولى ليختبر نفسه أولاً والقارئ ثانياً، ويستوعب أمام الملأ ودون جلل سؤاله وهمومه معلناً عن بداية تشكل قاص.. وفي البدايات يبزغ الخجل شمساً بذا سيقول عمر علي عبـود أسئلته بفصاحة وبيان أكبر ريثما ترتاده طمأنة الكتابة ولعل ذلك ليس ببعيد!!

02/12/2003 ف

 

 

 

* عمر علي عبـود – آخـر التيه – مجموعة قصصية، منشورات الجمعية الوطنية الليبية لرعاية الشباب – الزاوية – 2003 ف

مقالات ذات علاقة

من ومضات المبدع جمعة الفاخري ـ (كأكأة)

عادل بشير الصاري

إضاءاتٌ حولَ أدبِ المصراتي

نورا إبراهيم

الكلامُ نبيٌ أخرس .. بين ليونة النون و صلابة الألف

مفتاح العماري

اترك تعليق