المقالة

ديانا ومارادونا و”ذكرى” الربيع العربي

كثيراً ما تتشبث الذاكرة البصرية بمشاهد لا يمكن الفكاك منها، عصيان هذه المشاهد على النسيان راجع لما تحمله من غموض ساحر وإلهام، ومن شحنة مستفزة للأسئلة المتعلقة بالجوهر الإنساني.. مشهدان وكأنهما قادمان من سحر الأساطير مازالا يلاحقانني بكل ما فيهما من غموض وهالة إنسانية مربكة وملهمة في الوقت نفسه.

مشهد الإنجليز الذين ردموا القصر الملكي بالزهور والدموع في الأيام الأولى من موت أميرتهم المحبوبة ديانا، ومشهد حشود الأرجنتينيين أمام المستشفى الذي يقبع فيه فتاهم المشاكس والمدلل، مارادونا، بعد تعرضه لأزمة قلبية حادة. مشهدان يترجمان ببلاغة قريحة العصر الجديدة، حيث الاتفاق الجمعي تجاه أساطير راهنة، والاندماج التلقائي في طقس إنساني فريد حيال شخصيات تربعت في وجدان جمهور عريض رغم صدامها مع ترسيماته الأخلاقية التقليدية، ما يجعل تلك العيون الدامعة رسالة عصر بدأ ينتقي أبطاله من هامش التاريخ الصلب، ويستقي قدرته على التسامح من فرط الجمال المحيط بالأخطاء أو الخطايا.

ديانا أميرة القصر المارقة التي اعترفت في قلب مجتمع محافظ بخيانتها الزوجية للأمير المعشوق من الشعب، وبخيانتها لسيرة قصر مازال يخيم برخامه الصلد على ضمير ووجدان الإمبراطورية التي غابت عنها شمسها الأخيرة. مارادونا لاعب كرة القدم العبقري المشاكس، بقرطه الفضي، وبمثابرته في الخروج عن هالة النجم وعن ضغط القدوة، زير النساء، مدمن المخدرات، الذي مثلما كان لا يتردد في إطلاق كراته المخادعة إلى الشِبَاك المصدومة، لا يتردد في إطلاق رصاصه على حشود الصحفيين الحاجين إلى أسطورته… ماذا كان يجمع بينهما؟ ولماذا تخترق الجموع كل هذه الحدود المُرَسَّمة، لتزدحم حول حالات مربكة تطعن المفهوم التقليدي للقدوة في الصميم؟.. المشهد لا يخلو من روح شعبية ملحمية، مفعمة بالشعرية والتودد إلى ضرب مغاير من القيم الجمالية، حتى وإن كانت تنشز عن نظريات الأخلاق السائدة منذ القدم. ما يوحدهما هذا الجنوح الرواقي إلى مقارعة السلطة بكل تجلياتها، والرغبة المضمرة في “إسقاط النظام”، والتهكم العفوي على شروط الصفوة ومعاييرها، ضرب المهابة الارستقراطية في الصميم، والعناد موقفاً إذ يسلط عينيه بقوة على نبض الهامش المهمَل، متغنياً بالإنسان في أقصى درجات تحققه، وبيقظة الحس النبيل بمن يدفعون هناك ثمن أخلاق التخمة ومناسك التاريخ، وحيث الإبر تتهاطل على أورام السلطة التي لا تفتأ تسعى لاحتكار العبقرية والجمال كإحدى أدوات مزادها العلني الذي لا يعرف برّاحُهُ لحظةَ صمت.

ديانا أيقونة المستقبل وهي تخترق تعاليم القصر ليحتك جسدها الرشيق بعَرَق الأحياء الفقيرة وحزنِ الطفولة، وهي تجر ساقيها النحيلتين وسط حقول الألغام التي زرعتها أيدي الكراهية في أكبر حملة للقضاء على أقراص الموت المتربصة بالأقدام الحافية، تعلن نزوات الروح على الملأ وتلتحق بفارس أحلامها الشرق أوسطي الذي لا تقوى ملامحه على مغادرة حقل التهم.

مارادونا اليساري في الملعب والسياسة، الراكل أوهام النخبة بقدم حاذقة، الصادح علنا في وجه سلطة الفيفا التي تحولت إلى سوق نخاسة فارِهٍ ، لتحيل الإنسان إلى سلعة في أكثر لحظاته مرحا. المليونير الصعلوك الذي تزوج من جارته القديمة في حيه الفقير، لتخرج أمام الملايين عروساً مرصعة بالماس، لوحته المقترحة من أجل الكائن المنسي، ورسالته إلى محنة العالم المعاصر الذي تحجب الأبراج العالية أحياء البؤس عن عينيه.

وفي كلتا الحالتين هو الجمال المتمرد من يقف مواجهاً بشعريته لعالم المواصفات والمراتب الأبدية. هو العشق للحياة والتجربة حين تكون سرداً جمالياً للجسد الناتئ عن الكتلة ونقداً عبقريا لحضارة مرعبة تتأسس على وجهة نظر واحدة لمصير الإنسان، وسبابةً مشهرة في وجه سلطة ترسم بأصابع متورمة ملامح الإنسان القادم كما تتوخاه عبداً لسوقها الصاخب.الخوف على شيطنة الفن، على الشعر، على جمال العصيان، وعلى نزق العبقرية، والعشق أيضاً، ما جذب ذلك الزحام والعيون الحزينة إلى تراجيديا (ديانا ـ مارادونا) سارقَي النار من قبضة الآلهة. مشاهد لا أريد نسيانها لأنها تؤثث الذاكرة بكل ما يجعلها متحفا للجمال، وتسعف الروح بملايين العيون القادرة على المغفرة والتسامح في زمن يُقدّسُ فيه العقاب.

“ذكرى” الربيع العربي
حين انبثق الربيع العربي في شوارع تونس كان مركبا لمن كتبوا في مراكز البحوث الاستشراقية تاريخنا في المستقبل، مثلما كان هتافه النثري (الشعب يريد إسقاط النظام) نغما جديدا على الأذن العربية ، ورغم عبقرية الحدث إلا أنه كان يحتاج إلى الانتقال إلى أرض تعرف كيف تصنع الشهرة وكيف تجعل الومضة الشعرية ملحمة.
انتقل من تونس إلى القاهرة كي يتحول إلى كرنفال ثوري يتابعه العالم حيا، وقد شبهت حينها هذا الانتقال بنزوح كل فن أو فنان إلى مصر بحثا عن الشهرة والأضواء، لا يكفي أن تكون فنانا عبقريا لكي تخترق حاجز العزلة إلا عبر مكان وميديا تجيد صناعة النجوم، ومثلما يحدث عادة كان لابد أن يكتمل المثلث التونسي الليبي المصري بزواياه الحادة والمنفرجة، وكل ضلع حسب اختصاصه أو مواهبه.

خطر ببالي رحلة الفنانة التي أحببتها كما أحببت هذا الربيع العربي (ذكرى محمد) التي ولدت في وادي الليل بتونس، وهناك ترعرع صوتها السوبراني الأصيل، وغنت أجمل أغانيها في عزلة قبل أن تنتقل إلى مصر مرورا بليبيا، فالموهبة لا تكفي وحدها إن لم تكن ممولة بأموال تجعل أبواب صناعة النجوم في القاهرة تفتح لها، وكان لابد لها من المرور عبر أرخبيل النفط الليبي كي تدخل الحلم المصري بخزانة من الفساتين، ومفتاح شقة للسكن، وحساب مصرفي قادر على إسالة لعاب الملحنين الكبار.
مثلما نزح صوت ذكرى إلى ميادين مصر المزدحمة، نزح ذلك الهتاف النثري إلى ميدان التحرير، ومثلما تسلل صوت ذكرى إلى أذن ووجدان المنطقة برمتها شاع ذلك الهتاف على جدران المدن الخرساء مخترقا الحدود.
لكن صوت ذكرى أنطفأ فجأة في قلب هذه الأضواء وهذا الزحام حين اخترق رصاص غامض حنجرتها الذهبية ، ليلة 28 نوفمبر 2003. انتهت أسطورتها وهي في ريعان الغناء، وعادت إلى وادي الليل الطويل بحنجرة مثقوبة كم غردت في ليالي الشرق.

فهل سيَقتل الحلم العربي؛ الذي انبثق في تونس وترعرع في مصر، رصاصٌ غامض آخر يجهض أهداف هذا الحلم المؤجلة في المكان نفسه الذي أجهضت فيه الأغاني المؤجلة في ذلك الصوت الساحر.
أخشى المصير نفسه وأنا أرى رصاصا يخترق حنجرة الهتاف الشهير (الشعب يريد إسقاط النظام) بعد أن أصبحت الأنظمة القديمة ترمم نفسها من جديد وهي تحاول أن تعيد جثمان الحلم إلى وادي الليل أو “وادي جهنم” من جديد.
وهل نفسه الرصاص المتهم باغتيال ذكرى يُطلق من جديد على حنجرة الربيع العربي ليصبح ذلك الحلم الكبير ذكرى؟.

_______________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

مسودة أولى

عبدالقادر الفيتوري

أَفْرَقَة الحل بليبيا

رافد علي

القاعة

المشرف العام

اترك تعليق