من أعمال التشكيلي الليبي عادل جربوع
المقالة

دونية المرأة في الذاكرة الليبية الجمعية

الذاكرة الجمعية لشعب ما، هي الرصيد الثقافي المتعلق بالهوية، والخصوصية الثقافية لأفراده، ومنشأ اعتبارها رصيداً ثقافياً، هو موافقة الأفراد جيلاً بعد جيل، على التفاسير المشتركة لماضي هذا الشعب، وخبراته وتجاربه الإنسانية في المعيش اليومي بكل أطواره.

والذاكرة الجمعية تُراكِمها أحقابٌ طويلة، تقوم على المعارف وعراك الحياة وتبدلاتها وحوادثها، وتتنقّل الذاكرة الجمعية من عصرٍ إلى عصر، عبر الحِكم والكنايات والأمثال والحكايا والخرافات الشعبية، والفولكلور كالأغاني والرقص وسائر الفنون، وعن طريق المداومة على استعادتها وتكرارها في المناسبات، إنها باختصار رأس مال رمزي يخص الأجداد، والمؤسسين الأوائل للعادات والتقاليد وقواعد التعامل بين الأفراد، يحرص الأحفاد على استدعائه دائماً، حفاظاً على الهوية الاجتماعية والانتماء.

وكأي ذاكرة جمعية آخرى تحضر المرأة بقوة، لتعكس التباس وتوتر العلاقة بينها وبين الرجل، الذي تكلم عنها دائماً في الأمثال الشعبية ومرويات الشعر والحكايا، حين كان هو الفاعل اللغوي، الذي يجوز له التكلم عنها في غيابها، ويجوز له التشهير بها أو الطعن في جنسها دون حساب، فأقحمها في الأمثال الشعبية وجعل منها موضوعاً لخيالاته عنها وعن العالم والعلاقات، لا ذاتاً منفصلة لها كيانها واعتبارها، وإذ تكلّم عنها في غيابها فهو لم يدعُها إلى أن تتكلم عن نفسها أو تصف حالها، أو تعرض أحكامها هي عن الحياة والزواج وسواه من القضايا، وحتى بالحالات التي سُمح لها فيها بالكلام، فكان لإدانة جنسها، وتمجيد جنس الرجال وتعظيم شمائلهم، وإظهار امتنانها لوجودهم بحياتها.

وتأتي الأمثال الشعبية، في صدارة العوامل التي تحفظ الذاكرة الجمعية، وتوثّق للانتماء والهوية، لكثرة ما تجري على ألسنة الكل صغاراً وكباراً، ولشدة قِصرها وجزالة ألفاظها وسهولة حفظها، ولأن قائلها يضعها دائماً في حوادث تلائمها، حتى استقرت على أنها معارف ومسلّمات، ونتاج الحكمة والمعرفة المجرّبة والمعتّقة.

وفي الموروث الشفاهي الليبي (المثل الشعبي تحديداً) تقف المرأة ضد نفسها، وتبخس من قيمة بنات جنسها، إذ تقول “الكنّة كنّة لو كان في الجنة”، “من كبر بختي جت كنّتي بنت أختي”، “مركب السلايف حارت ومركب الضراير سارت”، ”ما همّ إلا همّ السلفة، أما الحما ماشية منتلفة”، “عقربين في غار ولا أختين في دار”، “البنت ضرة أمها”، أما حين يتعلق الأمر بعرض رأيها في الرجل فهو، “الراجل راجل والمرا مرا”، “الراجل رحمة ولو كان فحمة”، “الراجل باب ع لكلاب”، “ظل راجل ولا ظل حيطة”، و”ما بعد البوْ عز”.

وبالوقت الذي ترى فيه المرأة الليبية الرجل فارساً، وترى في أبيها العز والكرامة، فإن الرجل الليبي يرى في المرأة كائن لا يستحق حتى مجرد النظر إليه، “من داري بيك يا غماز الليل”، ولا خير في جنسها كله، “ما في النسا طيبة خيم” و”المرا حرفة لو كان جايبها الوادي”، وكائن وضيع القدر “المرا كيف الخنفوسة تشيلها على يدك”، وجنس مشكوك في وفاءه “شبحت ولد السلطان طمعت فى طلاق راجلها”، وهي نمّامة وصاحبة فتن “عافنة النسِي تدوي في الفرح والعزي” وشرٌ لابد منه “لا خير بيهن ولا خير بلاهن”، وسفيهة لا يؤخذ برأيها “لا تاخد رأي المرا ولاتتبع الحمار من ورا” و”الولية أسمعها ما اتبّعها”، أما الأب الليبي فيرى في ابنته شرٌ مطلق، “البنات زريعة إبليس”، “البنات سلعة ذل”، “يا تعس من عنده ابنتّه حارة، بنيّة وحيدة تفيّض المرارة”، ولا تُجيد شيئاً غير الصياح، “فزعة البنات عياط”، وضرورة التخلص منها بسرعة ولأي أحد، “إللي عنده البنات عنده الهم بالحفنات”، “إللي عنده البنات يناسب الكلاب”، “البنت كيف العصيدة وين ما تبرد ما يكلهش حد”.

لكن المفارقة أن زريعة إبليس وسلعة الذل تلك، التي لأجل التخلص منها يُصاهر حتى وضيع القوم، تتبدل إلى أعظم امرأة حين تصير أماً، وتصبح فجأة أرفع مقاماً من الرجل، تقول الأمثال “يا سعد من قال أمي وجاوباته، تاريتها الأم جنة يا تعس من فارقاته”، ”الولدين هي الأم”، “ما يتيم إلا يتيم الأم”، حتى أن الأب ما كان لتكون له قيمة إلا بكونه زوجاً لتلك التي صارت أماً، “ما نك بوي إلا بأمي”، وذهاب الأب من الحياة لا يكاد يعني شيئاً أمام ذهابها هي، “إللي تموت أمه يتوسد العتبة، وإللي يموت بوه يتوسد الركبة”.

هذا التبدل في النظر للمرأة في الموروث الشفاهي الليبي، من كائنٍ وضيعٍ لا أمان له، ولا يُجيد إلا إثارة الفتن، إلى كائنٍ لا تعدل فائدته في الحياة كائنٌ آخر، مردها تكريم الأم على طريقة النظرة الذكورية، التي أثثت الذاكرة الجمعية لقرون طويلة، والتي تختزل المرأة بوظيفتها البيولوجية فحسب، فتحتفل بأمومتها وتضخّم من هذا الدور وحده، ليصبح هو هويتها ومعنى وجودها بالكامل، وتضمحل أمامه كل جوانب الإنسان الأخرى فيها، هذا الاحتفال بأمومتها هو بالوقت نفسه مصافحة عزاء على روح المرأة الإنسانة، التي هي أوسع وأشمل من كونها أماً، هو بالضبط تعويضٌ لما تفقده المرأة من فرص حياة ومن إثبات كيانها وذاتيتها.

لكن!! على المرأة الليبية أن تفهم وتوصل ذلك للرجل والمجتمع، أنها لا تصبح أسمى من الرجل عن طريق الولادة، لأنها حتى بالولادة تظل هي التابعة، ولتبدأ في إجراء محاكمة للإرث الشفاهي الليبي، وإدانة الأمثال الشعبية التي حطّت من مكانتها، ولتعلن أنها تصبح مساويةً للرجل فقط، عندما لا تتحدد هويتها بأمومتها بل بكونها إنسانة، كما أن هوية الرجل لا تتحدد بأبوته، بل بكونه إنساناً، إن كانت جادة في المطالبة بالعدالة والديموقراطية.

 

مقالات ذات علاقة

يوميات العشاق الفقراء 2/1

محمد عقيلة العمامي

مسقط وحكاية «واتس آب»

فاطمة غندور

لو لم يكن رضوان بوشويشة ما كانت طرابلس الغرب*

أحمد الفيتوري

اترك تعليق