النقد

دراسة لجماليات السرد وفعل التأمل في القصة القصيرة.. عيون الورد الميت لهدى محمود أنموذجا

من أعمال التشكيلي سالم التميمي
من أعمال التشكيلي سالم التميمي

أولا. حكاية القصة

تحكي قصة (عيون الورد الميت) قصة شاب تعرض لسقوط إناء فخاري على رأسه وهو ما تسبب في إصابته بالعمى.

يسرد الراوي في قصة عيون الورد الميت أزمة شاب، هذا الشاب تعرض للإصابة بالعمى بعد سقوط مزهرية فوق رأسه وفقدانه الوعي، نتابع قصة هذا الشاب المميز وتصوراته للحياة وهو فاقد لبصره، ثم نتابع تحولاته من السعي إلى النوم باعتباره منفذا إلى العالم القديم زمن الرؤية، إلى الهروب أو الخوف من النوم باعتباره أصبح النوم مصدر شؤم كبير.

تبدأ القصة على أحد أيامه بعد إصابته بالعمى وترسم  كيف يتفاعل مع أمه وأخوته ويحدث تأمل كبير في مفهوم العمى وفي التذكر وتصور الأشياء للإنسان فاقد البصر،  كما نجد في القصة طاقة الحلم عنده وأهمية النوم في حياته. كانت في البداية للنوم والأحلام أثر جيد على الشخصية، لكن مع مرور الوقت بدأ التشاؤم من الذات والنوم بسبب الأحلام السيئة التي يراها ويجدها تتحقق في الواقع.  بنى الراوي حكاية هذه القصة كما سنتابع من أربعة مراحل سردية كما يلي:

1. وضع قائم تمّ تعريفنا به يمثل عقدة القصة حيث شاب في مقتبل العمر تعرض للعمى.

2. مكونات العائلة والتفاعلات بين افردها وكذلك تصورات الساب الأعمى الإيجابية عن النوم والمنام.

2. التحول عندما يصير للنوم والأحلام معنى سلبيا سيئا.

4. نهاية القصة على وضع مفتوح من خلال منام أخير رأي الشخصية فيه زهرة في تابوت.

ثانيا. المرحلة الأولى/ بداية القصة

لنتابع بداية القصة والعواطف التي تم وضعنا فيها ونحن نقرأها، حيث كان ذلك الشاب المصاب بأزمة يتحدث عن انقطاع الكهرباء، والحقيقة انه هو الذي لا يرى:

“(أ) (يا والله حياة سودة، تي هرّبوه في النهار الهم عليش يهربوه في الليل؟ يقعد الواحد يتلمس كيف الأعمى في الظلام؟)

(ب) بدأت أتحسس الطريق بأناملي متجهًا نحو هاتفي الذي وضعته في الشاحن غير أنني لم أجده وهنا بدأت أصرخ وألعن البلد وكلَّ من في البيت، (ت)  لم أنهِ وصلتي حتى احتضنتني أمي بقوة وبدأت تبكي بهستيريا وتردد (نا بيدي عيونك يمّا نا بيدي عيونك)..

في (أ) بدأ الموقف العام للقصة من خلال قلق الشاب الذي قام من النوم متصورا أن الكهرباء مقطوع، ناسيا (فيما يبدو) أنه هو الذي لا يرى، ثم في (ب) يحدثنا عما يقوم به من تصرفات تعبر عن الغضب، ثم في (ث) يتزامن سِبابه وقلقه مع وصول أمه التي قلبت الموقف في لحظة درامية إلى موقف عاطفي جد؛ حيث وضعتنا بشكل غير مباشر في وضع الشخصية (أبنها). المقطع (ت) السابق فيه تقنية الترهين التي تعني ترابط كلام الشاب المتوتر مع احتضان أمه له، ونوضع بذلك ضمن النقطة الأساسية في القصة وهي تقدم في لحظة عاطفية على لسان الأم باللهجة (نا بيدي عيونك يمّا نا بيدي عيونك).

ثالثا. المرحلة الثانية/ تصورات الشاب عن المكان قبل العمى ومكوناته وطاقة الحلم الإيجابية

نتابع البعد التأملي في هذه القصة حيث يدرك الراوي مفهوم الأشياء والألوان بالنسبة للأعمى، الراوي هنا يبحر مع الشخصية ويبرز لنا هواجسها وخوفها من ضياع صورة الأشياء المتذكرة في ذهنها، المقطع الثاني الذي نضعه  فيما يلي يعبر بشكل مميز عن هواجسه؛ حيث كان المقطع السابق الأول يقوم بدور تعريفي بعقدة القصة: أزمة الشاب الذي تعرض للعمى والعواطف بينه وبين أمه، ثم نتابع هنا في المقطع الثاني، البعد التأملي فيها، وهو ما يعبر عن ثراء هذه القصة وقدرة الراوي على الوعي بما يجب ان يكون من أفكار داخل ذهن الشخصية/الأعمى، لنتابع ذلك هنا:

“(أ) عشت في الظلام لأيام وشهور، رغم وحشته إلا أنني كنت لا أخشاه كثر خشيتي من ألَّا أحلم مجددًا، (ب) ما أن أضع رأسي على الوسادة حتى تبتدئ الحياة عندي، كنت أحيا من خلال النوم، لم يراودني أي حلم أكون فيه ضريرًا قط، وكأن عقلي الباطن يرفض قطعًا كوني أصبحت ضريرًا.

(ت) أن تفقد بصرك الذي لم تُبصر به العالم بعد وأنت في مقتبل العمر فهذا أشبه بالحجز الانفرادي، وكان علي أن أطلق سراحي. كبرت لحيتي السوداء التي كلما زادت كثافة زاد شعر رأسي خفة، تلك الوراثة اللعينة لم تنسَ نصيبي من الصلع.”

في المقطع السابق ترابط وحسن سرد، يضاف إلى البعد التأملي الذي نوضع فيه مع وعي ذلك الشاب وهو يحدثنا عما يفكر فيه. سنجد الترابط بين رفض العقل الباطن في (ب) لكونه ضريرا باعتبار أن ذلك أشبه بالحجز الانفرادي، ثم في (ت) يعبر بطريقة مميزة عن سلوك رافض للحجز من خلال إطلاق كل الأشياء ومنها اللحية، ويترابط نمو اللحية مع الصلعة في الشعر وهما حدثين قدما بطريقة الترهين.

في (أ) عبر لنا الراوي/ الشخصية عن حجم الأزمة التي مر بها، ثم في (ب) يستخدم الترهين ليضعنا في إطار عالمه الذي يعيشه، فهو ما أن يضع رأسه على الوسادة حتى تبدأ حياة جديدة

بينما هنا في المقطع التالي يحاور أمه في البداية رغبة في التأكد من وضع الأشياء وأماكنها، ثم ينتقل ليتأمل في معنى النوم عنده.

في المقطع التالي يحاور أمه زهرة في لغة دعابة مميزة،  وهو يريد أن يبرز شعوره بالحب تجاهها:

_ايه بتوقيت زهرنيتش. بس بتوقيتنا العشرة كيف جت، المهم يا زهرة أي تغيير في الدار قوليلي عليه، حتى لو كان غلاف مخدة قوليلي على لونها بالتفصيل بالله عليك”.

يخاطب أمه زهرة باسمها ويسألها أن تخبره عن أوضاع الأشياء في البيت، يسألها عن ذلك بدقة متناهية؛ فهو يخاف من نسيانها، بل ويريد ان يرتبها من جديد في ذهنه في حال حصول اي تغيير:

“لا تعلم أمي بأنني أخشى نسيان الألوان والتفاصيل، كنت أراجع يوميا في ذهني أثاثَ البيت بالكامل بأدق التفاصيل والألوان، حتى أنني أفرط بإسهاب في الأوصاف أثناء الكلام، وهكذا أصبحت أُبصرُ بذاكرتي، يحزنني أولئك المصابون بالعمى منذ الولادة، فهم لا يبصرون حتى في المنام وكل أحلامهم تدور حول التذوق والسمع والشم.”

رأينا كيف يتم تصوير وعي الشخصية بالمكان وبالصور وتصوره لحال المساكين الذين ولدوا لا يرون شيء أو يتصورونه بسبب عمماهم. كما أصبحت مساحة الأحلام بالنسبة له مادة يعود بها لبصره، فهو يتذكر في منامه كل ما كان يراه من أشياء، لنتابع ذلك هنا:

“ولأنني أرى في المنام أصبحت أنام كثيراً، ما إن أضع رأسي مُغمضًا عيني المظلمة حتى أفتحها لترى. فجأة جاءتني رسالة على الهاتف (صلوحه عندي في الحوش تعال نلعبوا شوط بيس)، أخذت حمامًا سريعا..”.

فهو يرى في المنام ويعود لرؤيته القديمة، وهنا يتصور مفهوم السمع بديلا عن البصر وهو يحدث نفسه:

“سرحت بتفكيري حيث السبب الذي جعلني ضريرا، يزعجني أن ألوم أمي وأحملها الذنب، ولأطرد التفكير، أسندت رأسي إلى الحائط وأغمضت عيني مستمتعا بالروائح من حولي مستكشفا ماهية كل رائحة.”

وهنا نجد رائحة الشم الحاضرة أداة لتصور الأشياء بديلا عن البعد البصري غير الدقيق، في (أ) نتابع تصوراته عن الألوان التي يراها وطبيعة السواد غير الكامل امامه، ثم في (ب) تحضر الرائحة وتصير أداة لتمييز الأشخاص، لنتابع ذلك في المقطع التالي:

“(أ) مددت يديّ في الهواء لأرى بهما. تحسستْ أناملي الطريق المظلم مع ومضاته التي بدأت تختفي، كنت في السابق أشعر بخطوط شعاع رقيق أحمر وأحيانا أخرى أصفر، لم يكن السواد سوادًا حقيقيًّا. كان مزيجا من ألوان فوضوية.(ب) وصلت لمكان جلوسي أمام (المربوعة) أشم رائحة أوراق شجر التين، ورائحة التراب مع قطرات الندى، كان الجو باردا وهادئا، أصبحت الروائح أكثر وضوحًا من ذي قبل، حتى أنني بتُّ أميز الأشخاص من روائحهم.”

رابعا. المرحلة الثالثة/ التحولات السيئة في جانب النوم والأحلام وأبعادها النفسية العميقة

نتابع هنا كون المنام لم يعد حقيقة مريحا، فقد صار المنام يحتوي على رؤى يتوجس منها؛ حيث صار يتصور أنه يسبب الأذى للأخرين الذين يراهم في المنام، لنتابع في (أ) الحلم الذي عاشه بخصوص جارتهم، ثم في (ب) الحلم وقد تحقق:

” (أ)  اعتقدت أنها ترقص في بركة ماء، من هي تلك المرأة؟ ولماذا ترقص في الظلام؟ تقدّمتُ لأراها عن قرب، وإذ بسلك كهرباء عارٍ ينغمس في الماء، كنت أتكئ على عصا خشبية ولم أستطع أن أمدها لها. (ب) استيقظت فزعًا على صراخ بيت الجيران. هرع حمزة راكضًا حتى كاد أن يسقطني أرضا، تمسكت بي أمي وبدأت تردد (يا ساتر شنو في؟ كنهم؟ كنهم). عاد حمزة بعد دقائق وأخبر أمي أن جارتنا مبروكة قد توفيت، بسبب صاعق كهربائي. يقولون إنها كانت ذاهبة لتغلق مضخة الماء الذي فاض ووصل سلكا عاريا”.

الراوي المحنك خلف ترتيب أحداث هذه القصة يضعنا في عمق وعي ذلك الشاب، فهو يدرك أبعاد تصوراته للأشياء، ويعي جيدا أن من رآهم في المنام وحلم بأحداث سوء تحدث لهم كانوا أشخاص يشعر نحوهم بتحفظ ما أو كراهية:

كثرت أحلامي التي يموت فيها معارفنا واحدا تلو الآخر. وزاد من رعبي أن كل الضحايا كنت غاضبا منهم في موقف ما، إن الأحلام هي مجرد رغبات دفينة، الأحلام تعرينا وتفضح حقيقتنا مهما أنكرناها، لكنني حقًا لم أرغب في أن يموتوا، أعلم أنني عصبي جدًّا ولحظات الغضب أتفوه فيها بأشياء عنيفة، وكل الذين قتلتهم في منامي كان هذا بدافع الغضب من تصرفاتهم ليس أكثر، أنا أندم لاحقًا وأنسى مسامحًا، أنا لست سيئًا، إنني فقط غبي متسرع. وأتمنى الآن لو أن أعود لأغير الحلم وأسامحهم.”

خامسا. علاقة العنوان بنهاية القصة

يتم إقفال هذه القصة على العواطف غير العادية مع حدث مرتبط مع عنوان القصة، حيث نتابع كيف يقوم الراوي بوضعنا في إطار العلاقة بينه وبين أمه التي يحبها وكانت مصدرا دائما لسعادته بعواطفها:

نمت مرغما.. لم أكن أقصد أن أنام صدقوني، لقد أفلتُّني منّي، لقد خرجت من حجزي الانفرادي وما كان عليَّ أن أفعل هذا. رأيت في المنام صندوقا كالتابوت فيه زهرة بيضاء واحدة.. أخذت الزهرة بين يدي لأجد مكتوبا على بتلاتها حرف العين. ثم سمعت صوت أمي تقول (نا بيدي عيونك يـمّا نا بيدي عيونك).

الصورة الأخيرة في القصة كانت مفتوحة من خلال المنام الذي رأي فيه الشاب تابوت فيه زهرة، ونتذكر أن اسم أمه زهرة. لكن في النهاية تم ربط الحدث الأخير بما تقوله الأم من كونها عيونه التي يرى بها. ولعله من جوانب الفعل المهمة في هذه القصة عنوانها نفسه (عيون الورد الميت) الذي قد يحيلنا من جهة إلى قرب موت الأم/زهرة كما يمكن تفسير المنام بنفس الفكرة، وقد يكون من جهة اخرى له من جهة معنى مختلف بأن تكون الإحالة المقصودة بالورد الميت على الشاب نفسه العاطل نتيجة لتعرضه للعمى.

سادسا. خلاصة

قصة مميزة فيها حسن إسقاط للأحداث حيث لاحظنا قدرة الراوي المميزة على إسقاط أحداث الحكاية جزئيا لتصلنا في أخر القصة حكاية عمى ذلك الشاب كاملة، وكان مع ذلك الإسقاط الجزئي للحكاية توظيف ترتيب زمني منظم، كما استعان الراوي باللهجة لرسم عواطف الشخصيات خاصة الأم، مع احتواء القصة على فعل تأملي مميز في شخصية الأعمى ومشاعره، كم كان من الأشياء التي تمّ التأمل فيها: مفهوم الرؤية أو الأحلام ودورها في حياة الأعمى، كما تابعنا تشريحا لشخصية الأعمى وطريقة تفكيره، ومنها تأمله في اللون وإدراك الأعمى له، وكذلك ما تابعناه من محاولة الشخصية البقاء متذكرا لصورة البيت بسؤاله المستمر لأمه عن كل التغييرات التي حصلت فيه.  تمكن الراوي من تحريك الأحداث من خلال التحول الذي حصل للشخصية في المنام الذي صار كابوسا يعاني منه ثم أنهى القصة على وضع مفتوح مع لحظة عاطفية مميزة. تميزت القصة أيضا بقدرة الراوي على تجسيد الأزمة دون الوقوع في المباشرة، كما كان قادرا على رسم عواطف مميزة بين الشخصيات خاصة الشاب الأعمى وأمه.


عيون الورد الميّت

هدى محمود

من أعمال التشكيلية حميدة صقر

(يا والله حياة سودة، تي هرّبوه في النهار الهم عليش يهربوه في الليل؟ يقعد الواحد يتلمس كيف الأعمى في الظلام؟)1)

بدأت أتحسس الطريق بأناملي متجهًا نحو هاتفي الذي وضعته في الشاحن غير أنني لم أجده وهنا بدأت أصرخ وألعن البلد وكلَّ من في البيت، لم أنهِ وصلتي حتى احتضنتني أمي بقوة وبدأت تبكي بهستيريا وتردد (نا بيدي عيونك يمّا نا بيدي عيونك)..

عشت في الظلام لأيام وشهور، رغم وحشته إلا أنني كنت لا أخشاه كثر خشيتي من ألَّا أحلم مجددًا، ما أن أضع رأسي على الوسادة حتى تبتدئ الحياة عندي، كنت أحيا من خلال النوم، لم يراودني أي حلم أكون فيه ضريرًا قط، وكأن عقلي الباطن يرفض قطعًا كوني أصبحت ضريرًا.

أن تفقد بصرك الذي لم تُبصر به العالم بعد وأنت في مقتبل العمر فهذا أشبه بالحجز الانفرادي، وكان علي أن أطلق سراحي. كبرت لحيتي السوداء التي كلما زادت كثافة زاد شعر رأسي خفة، تلك الوراثة اللعينة لم تنسَ نصيبي من الصلع. ناديت أخي حمزة عله يساعدني في تشذيب لحيتي المزعجة.

_ خففلي من هَنا شوي وجيهة الحنك اللي قعد عريض كيف الجرة

_هاهاها وزايدها شناباتك المعقوصات عشان تمسك بيهن الجرة

_حاسدني فيه الشناب نا عارف (وأخذت أبرمه يمينا ويسارا متباهيا به)

في تلك الليلة نمت وحلمت حُلما غريبا، رأيتني أقف أمام المرآه أحلق شعري بنفسي. قصصت فروة الشعر لكي أخرج عقلي من رأسي. نزعته، تفحصته بدقة. كان ملمسه رخوا لونه أبيض وبدأ ينزف حبرًا أزرق، بقيت أتأمل عقلي. وبحركة لا إرادية حاولت أن أبرم شاربي الذي لم أجده ففزعت لأن شاربي قد اختفى.

في الصباح الباكر جاءت أمي لتوقظني وما أن سمعتُ صوت سكة الستارة التي تزيحها عن الشمس حتى وضعت يدي على عينَيَّ أزعم أني أُبعد أشعتها عني، ضحكت ثم أخبرتها:

_ عدي دوريلك على طريقة أخرى تنوضني، الشمس طلقتها ومعش نحق فيها

_ نوض يمّا الساعة واحد توا

_ ايه بتوقيت زهرنيتش. بس بتوقيتنا العشرة كيف جت، المهم يا زهرة أي تغيير في الدار قوليلي عليه، حتى لو كان غلاف مخدة قوليلي على لونها بالتفصيل بالله عليك.

لا تعلم أمي بأنني أخشى نسيان الألوان والتفاصيل، كنت أراجع يوميا في ذهني أثاثَ البيت بالكامل بأدق التفاصيل والألوان، حتى أنني أفرط بإسهاب في الأوصاف أثناء الكلام، وهكذا أصبحت أُبصرُ بذاكرتي، يحزنني أولئك المصابون بالعمى منذ الولادة، فهم لا يبصرون حتى في المنام وكل أحلامهم تدور حول التذوق والسمع والشم.

ولأنني أرى في المنام أصبحت أنام كثيراً، ما إن أضع رأسي مُغمضًا عيني المظلمة حتى أفتحها لترى. فجأة جاءتني رسالة على الهاتف (صلوحه عندي في الحوش تعال نلعبوا شوط بيس)، أخذت حمامًا سريعا. ارتديت قميصي الأسود وانطلقت بسيارتي إلى بيت صديقي، في الطريق رأيت مؤشر الحرارة يرتفع تدريجيًّا فأخذت يميني وتوقفت. لكنني استيقظت على صوت حمزة متذمرا من سيارته التي تعطلت، يقول:

(بديت نحس أن السيارة مش جماد، تعرف بخباثة امتى يجني فلوس وتخليني نصرفهن عليها).

تجاهلته ونهضت من السرير. مددت يديّ في الهواء لأرى بهما. تحسستْ أناملي الطريق المظلم مع ومضاته التي بدأت تختفي، كنت في السابق أشعر بخطوط شعاع رقيق أحمر وأحيانا أخرى أصفر، لم يكن السواد سوادًا حقيقيًّا. كان مزيجا من ألوان فوضوية. وصلت لمكان جلوسي أمام (المربوعة) أشم رائحة أوراق شجر التين، ورائحة التراب مع قطرات الندى، كان الجو باردا وهادئا، أصبحت الروائح أكثر وضوحًا من ذي قبل، حتى أنني بتُّ أميز الأشخاص من روائحهم.

سرحت بتفكيري حيث السبب الذي جعلني ضريرا، يزعجني أن ألوم أمي وأحملها الذنب، ولأطرد التفكير، أسندت رأسي إلى الحائط وأغمضت عيني مستمتعا بالروائح من حولي مستكشفا ماهية كل رائحة. غفوت كطفل رضيع شبع بعد جوع.

اعتقدت أنها ترقص في بركة ماء، من هي تلك المرأة؟ ولماذا ترقص في الظلام؟ تقدّمتُ لأراها عن قرب، وإذ بسلك كهرباء عارٍ ينغمس في الماء، كنت أتكئ على عصا خشبية ولم أستطع أن أمدها لها.

استيقظت فزعًا على صراخ بيت الجيران. هرع حمزة راكضًا حتى كاد أن يسقطني أرضا، تمسكت بي أمي وبدأت تردد (يا ساتر شنو في؟ كنهم؟ كنهم). عاد حمزة بعد دقائق وأخبر أمي أن جارتنا مبروكة قد توفيت، بسبب صاعق كهربائي. يقولون إنها كانت ذاهبة لتغلق مضخة الماء الذي فاض ووصل سلكا عاريا.

لم أنم تلك الليلة كنت خائفًا مستغربا. أو ربما كنت أحس بالذنب.. لكن ما علاقتي؟ أنا حلمت فقط.! الحلم يحاكي الواقع وليس العكس. أي تطابق يعني أن هناك مصادفة ليس أكثر. لقد حلمت بالمسكينة قبل أن تلقى حتفها، هل فقدت البصر لتحل البصيرة؟ أم ماذا يحدث لي؟

كنت سأدخل غرفتي صامتا قبل أن استشعر حمزة بقربي.. لم أستطع إلا أن أسأله:

_ يوم اللي تعطلت سيارتك وين كنت معدي؟

_ عديت لشباب بنلعبو بلايستيشن، كنك؟ عليش تسأل؟

_ سيارتك ارتفعتلها الحرارة وهذا سبب العطل؟

_ آه، تي كنك وجك مقلوب شنو صاير؟

دفعته برفق وأغلقت الباب.. لم أفكر حتى في تبرير هذا لنفسي.. لقد أخرجت عقلي من رأسي في ذلك الحلم الغريب وكان أبيض كورقة ناصعة، سأكتب فيها بقلم حبر أقدار الناس، وشاربي.. أوه شاربي الذي اختفى دلالة على أنني لم أعد أنا، لم أعد “مُنذر” صاحب الشارب المفتول، أصبحت “مُنذر” نذير شؤم.

قضيت اليوم كاملا في غرفتي لم أخطُ عتبة الباب، فكرت في اليوم الذي دخلت فيه جارتنا عليَّ لتسلم وتذهب قبل أن تزعج أمي بعطفها الزائد:

_ يا نويرتي عليه، في عز شبابه منو يبيه توا. صبايا هالوقت يتشرطن ما يرضن باللي بعيونه، يا نوريتي قعد حطيط..

رغم تكرار هذه الجمل في كل مرة تأتينا إلا أن هذه المرة أرسلت لها صوتي من الغرفة وأخبرتها بأنني فقدت البصر لكنني لم أفقد السمع بعد، وأُحرجت أمي حينها فتداركت:

معليش يا مبروكة شوره سمعك، بعدك منذر هضا عنده عزة نفس وكبرياء، وغالية عليه رويحته واجد، يتحملش من يشفق عليه بكل، ونحنا مش محسسينه بأي نقص عنده.

ورغم أن الأحلام هي الجزئية الوحيدة التي أكون فيها إنسانا حُرا، كامل الأهلية إلا أنني كنت أتمنى أن أفقد بصري وأرجع إلى الحجز الانفرادي حتى في الأحلام بدلًا من أن أكون “منذر” نذير شؤم. كثرت أحلامي التي يموت فيها معارفنا واحدا تلو الآخر. وزاد من رعبي أن كل الضحايا كنت غاضبا منهم في موقف ما، إن الأحلام هي مجرد رغبات دفينة، الأحلام تعرينا وتفضح حقيقتنا مهما أنكرناها، لكنني حقًا لم أرغب في أن يموتوا، أعلم أنني عصبي جدًّا ولحظات الغضب أتفوه فيها بأشياء عنيفة، وكل الذين قتلتهم في منامي كان هذا بدافع الغضب من تصرفاتهم ليس أكثر، أنا أندم لاحقًا وأنسى مسامحًا، أنا لست سيئًا، إنني فقط غبي متسرع. وأتمنى الآن لو أن أعود لأغير الحلم وأسامحهم.

قررت أن أضع حدا لما يحدث، فقمت بزيارة عدد من أطباء العيون حتى وصلت لأفضلهم الذي أخبرني بعد حديث طويل أن شبكية العين لم تنفصل بالكامل وهذا ما يجعل موضوع إمكانية زرع قرنية ناجحا جدا.

رجعت إلى البيت أنا والأمل الذي يغمرني، وسرعان ما تبدد بعد بحثي في تكاليف العملية الباهظة وعن عدم إمكانية توفر متبرع، لعنت اليوم الذي لعبت فيه البابجي ولعنت الزرع ولعنت السجاد ولعنت.. لعنت أمي، أجل لعنت أمي!

تلك الفترة ازدادت أحلامي الدامية حدة، وكانت الأحداث تأتيني في حُلم واضح وأحيانًا رموزا تتضح بعد الحادثة، حتى أنني هجرت النوم، وأصبحت كلما غفوت رغمًا عني، أستيقظ مفزوعًا لأرتاح عند علمي أنني لم ألعب البابجي في منامي. زاد الأرق عندي وزادت عصبيتي معه، كانت الساعة الثالثة فجرًا وكنت أضع سماعات هاتفي أستمع إلى موسيقا صاخبة وأحرس حجزي الانفرادي كي لا أفلتَ منّي، أدندن وأفكر في ذلك اليوم المشؤوم، كنت غارقا ومنسجما في لعبة البابجي. لم يبق في فريقي سوى أنا وصديق آخر كان علي أن أسعفه، كنت ألعب وأمشي دون انتباه حتى جلست على طرف سجادة كانت أمي تضعها على سور السطح وتثبتها بصندوق خشبي مزروع فيه ورد قد أذبله قيظ الصيف الماضي. ورد ميت لا قيمة له يرقد في تراب هذا التابوت الثقيل الذي انسحب مع السجاد وسقط على رأسي من الخلف، أحسست بقوة الضربة التي أفقدتني وعيي، وبدلًا عن صديقي الذي سأسعفه في عالم البابجي، أسعفوني أنا في عالم الواقع لأقرب مستشفى، تم تطبيب الجرح، واستدعاء طبيب عيون لفحصي جيدًا، حيث أخبر الطبيب أمي بأن شبكية العين تعرضت لاهتزاز قوي مما سيسبب عمى العينين بعد فترة قصيرة. أخفت الأمر عني، حتى جاء يوم انقطاع الكهرباء المزعوم حيث لم تستغرب بل حضنتني بقوة وبكت، بكت كثيرا يومها.. أكثر مني حتى. وبكت أمي ونمت أنا!

نمت مرغما.. لم أكن أقصد أن أنام صدقوني، لقد أفلتُّني منّي، لقد خرجت من حجزي الانفرادي وما كان عليَّ أن أفعل هذا. رأيت في المنام صندوقا كالتابوت فيه زهرة بيضاء واحدة.. أخذت الزهرة بين يدي لأجد مكتوبا على بتلاتها حرف العين. ثم سمعت صوت أمي تقول (نا بيدي عيونك يـمّا نا بيدي عيونك).

مقالات ذات علاقة

ق ق ج في منزلة بين المنزلتين.. قصص الفاخري أنموذجًا

المشرف العام

المقهور .. الذاكرة في نثر المدينة

عبدالسلام الفقهي

الضمير اللقيط يُحرِّر الكتابة من إكراهية النصِّ

المشرف العام

اترك تعليق