طيوب المراجعات

دراسات في الطفولة

ليس هنالك من دليل على مدى تقدم مجتمع ما من المجتمعات البشرية، أو تخلفه أبلغ من المكانة التي يتبوأها من العصر الذي يعيش فيه.
 وفي عصر يتسم بتسارع وتيرة التقدم والتجدد المعرفي والتقني، وبتطور النتاج الفكري والمعرفي في كل مجالات الحياة، فإن مقياس تقدم المجتمعات فيه هو المدى الذي تساهم فيه بنتاجاتها الفكرية والمعرفية، بدل الاكتفاء بموقع المستهلك السلبي والعالة على مبدعي العصر وصانعيه، أو الركون إلى دكة المشاهد المستكين والشاهد الذي لا وزن لشهادته.
 من هنا تحديداً تكتسب الجهود السياسية والثقافية والتربوية التي يبذلها المخلصون وصادقو الانتماء من أبناء تلك المجتمعات، والهادفة إلى إيقاظ مجتمعاتهم، ودعوتها إلى الانخراط في العصر، وتحفيزها على رصد وتنمية قدراتها وامكانياتها ومواهبها الفكرية والبشرية،، والاقدام على الخطوات الارتقائية اللازمة لاجتياز، كل الموانع الحائلة بينها وبين الفعل والتأثير والمشاركة في إثراء الحياة الانسانية، واستحقاق شرعية الانتماء إلى عصرها.
في هذا السياق يجيء كتاب (دراسات في الطفولة) للأديب الأستاذ يوسف الشريف ليقف إلى جانب كتاباته التي خصصها لموضوع الطفولة الذي تفرغ له منذ عام 1975م، (المختار في اللغة والعلوم / لتلاميذ مرحلة التعليم الأساسي) و (المعجم الميسر للأطفال )، (الموسوعة العلمية الميسرة للأطفال)، إضافة إلى كتاباته القصصية للأطفال (من حكايات الشعوب )، (نوافذ )، (طفل يقرأ) وغيرها من الكتابات الخاصة بالطفل، وذلك بعد أن ساهم في إثراء المكتبة الأدبية الليبية، بمجموعة من الاعمال الابداعية من بينها مجموعتيه القصصيتين (الجدار) و (الأقدام العارية).

 في الفصل الأول من الجزء الأول من كتابه (دراسات في الطفولة) يعقد الأديب الأستاذ يوسف الشريف، مقارنة بين الذات والآخر، نحن وهم، نحن العرب الذين لم نحتفظ من تراثنا الثقافي وثرائنا المعرفي إلا بكل ما هو سلبي ومثبط ومحبط، وهم الذين قد يكفينا لتفسير ما هم عليه وما حققوه ويحققونه في مختلف حقول المعرفة والعلم نظرياً وتطبيقياً أن نعزوه إلى تمسكهم بوصية كانط، الذي أوصى في معرض إجابته عن سؤال الأنوار (تجرّأ على أن تعرف، كن جريئاً في استعمال عقلك ” أنت ”) تلك الوصية التي أعلن كانط، بجرأة المثقف الناقد الواثق بنفسه وبعقله أنها (شعار التنوير).
 يقارن إذن الأستاذ يوسف الشريف بيننا وبين الذين جروؤا على استعمال العقل لينجزوا الكثير من التقدم في مختلف حقول المعرفة التي ربما كان آخرها وأهمها ثورة المعلومات، ليرانا ويرينا لأنفسنا، في موقع الغافل عما كان أولئك يستعدون به، ويهيئونه من الأسباب المعرفية والتقنية لولوج، بل وإنجاز هذا العصر، الذي تكتمل صورته بوقوفنا على هامشه، واقتصار موقعنا بإزاءه على دور المستهلك.

 ليخلص من تلك المقارنة إلى السؤال.. أين نحن؟.. و أين هم؟.
 وويستأنف النقاش بالقول: – (السؤال فيه تكرار ممل، ولكن لأن شرط الإجابة عن.. أين سنكون؟ مرهون بالإجابة عن.. أين نحن؟، فلا مفر من أن نعيد السؤال مرة تلو أخرى، وحتى ألف مرة، حتى يقرن القول بالفعل، وهذا لن يتحقق إلّا إذا واجهنا خلفية السؤال التي تقول: – ” أنهم لم يحققوا هذه الثورة، إلّا بعد أن تحققت جملة من الشروط… ).
 يعددها الأستاذ الشريف في، أربع نقاط.
 (1 – ثورة صناعية بدأت في القرن الخامس عشر.
 2 – اختراعات واكتشافات تراكمت عبر السنين.
 3 – فضاء مطلق للعقل أن يفكر دون أن تعيقه موانع مادية أو معنوية.
 4 – تشجيع البحث والابتكار في كافة المجالات العلمية.
 إلى جانب شروط أخرى اقتصادية واجتماعية وسياسية، تكاملت حتى أوصلتهم إلى فضاءات كونية بعيدة…)
 ليسأل من ثَمَّ: – (ماذا امتلكنا، وماذا نمتلك من كل هذا؟، لذلك لا بد من الإجابة عن ” أين نحن؟ ”.
 لماذا؟
 أولاً / لأن الاستفادة من المعلومات، مرهونة بمعدلات النمو بشقيه الاجتماعي والإقتصادي.
 ثانياً / لأن العبرة ليست بتوفر المعلومات، وإنما بتوفر مقومات استثمارها.
 ثالثاً / لأن المعلومات ليست ساكنة، بل هي متفاعلة، متغيرة ومتجددة، مما يفرض الانتباه إلى أن معلومة اليوم قد لا تكون معلومة الغد، ذلك أن الواقع المادي هو أيضاً متغير، أو هكذا يجب أن يكون.
 رابعاً / لأن المعلومات تسبقها حواجز، تول دون وصولها إلى كل من يرغب في الاستفادة منها والتعرف على امكانياتها).
 لأهمية هذا الفصل، التي تنبيء عن أهمية كتاب (دراسات في الطفولة) كان لابد من أن يتضمن هذا المقال، والذي لا أزعم له أنه دراسة تحليلية ولا نقداً لهذه الدراسات، أو حتى عرضاً لها، كل هذه الإستشهادات، التي لم يكن ممكناً المرور عليها مروراً عابراً، ولا أمكن تجاوزها باعتبارها مدخلاً تقليدياً مثل أي تقديم لكتاب يخرج قارئه منه ليس كخروج الشعرة من العجين، بل مثخناً بخيبةِ الأمل،

 فرضت الاستشهادات نفسها علينا بسبب أن دراسات في الطفولة، كتبت من أجل الطفولة فعلاً وتمحورت حولها كهم وشاغل رئيسي،
 وفي هذا الفصل الأول من الجزء الأول من هذه الدراسات، يطرح الاستاذ يوسف الشريف السؤال (أين نحن؟) وهو سؤال سنستشف، إذا ما كنّا جادين فعلاً في تعلم شئ ذا جدوى، أنه صيغة من سؤال الهوية الذي كان دائماً البارق الأول لإنقداح زناد الفكر واضطرام جذوة الوعي بالذات (الفردية أو الجماعية) على السواء، والدافع المحفز على تأكيد تلك الذات.
 فيتحدث عن الحالة العلمية والتعليمية الراهنة للطفل العربي، والتي تمثل جداراً يحول دون ما نبتغي لأطفالنا، ليتوقف عند أهم تلك العقبات فيعددها في ثمانِ نقاط، يخلص منها إلى ضرورة الاقرار، باختلاف أولويات حاجات الطفل العربي وما هو متاح له من وسائل مواجهة تلك الحاجات، عن حاجات ووسائل الطفل في البلدان المتقدمة، على ألّا يفهم من هذا الإقرار أنه دعوة إلى أن نؤجل الاستفادة من المنجز العلمي للدول المتقدمة ريثما نقضي على كل اسباب التخلف، فالمغزى أو (المعنى…) بتعبير الاستاذ يوسف الشريف (أن نواصل وبعقل علمي، القضاء على مثلث الجهل والفقر والمرض، وأن نتجاوز في الوقت نفسه لحظة الانبهار بما أنجزوه، ونحاول وبعقل علمي أيضاً الاستفادة القصوى من هذا المنجز)

 أمّا كيف؟
 فذلك سؤال يرى الاستاذ يوسف الشريف، أن الإجابة عنه ” وفي وقت واحد ” في منتهى الوضوح، وفي منتهى الغموض , حيث يكمن وضوحها في (استراتيجية للطفولة).
 أما مصدر غموض هذه الإجابة فمن (إنتاج العقلية التي يقع على عاتقها التخطيط لهذه الاستراتيجية وتطبيقها، وهي عقلية تسترخي على ضفاف الجدل الذي تبدأ به ولا تنتهي منه )، ومستشهداً على حال هذه العقلية بنوم المشروع العربي للنهوض بالطفولة في أدراج الجامعة العربية، يعلن الاستاذ الشريف أن ليس في نيته ولا في مقدوره أن يزعم امتلاك تصوُّرٍ بديل لهذه الاستراتيجية، فالأزمة ليست في هذه الاستراتيجية، بل هي كامنة برأيه (وفي بعدها المطلق – في هذا المرض المزمن الذي استوطن عقلية تعشق التعامل مع النتائج وتهرب من الأسباب…) إذ أننا (نقول بالمعلوماتية للأطفال، لكن: بمن، ولمن، وبماذا، وكيف، وأين؟).
 ويواصل الاستاذ يوسف الشريف قراءته لعقليتنا ولما أنتجته وتواصل انتاجه من تخلف، وذلك من خلال الوقوف بإزاء الاسئلة التي طرحها لتوه.
 بمن؟.. حيث يتجسد تخلفنا في مجال المعلوماتية في قلة عدد المتخصصين فيها.
 ولمن؟.. لطفل المدينة وحده، أم لكل الأطفال في كل قرية نائية؟.
 بماذا؟.. ما هي الامكانيات العلمية المتاحة لتنفيذ هذا المشروع؟.
 كيف؟.. ماهي الآلية المتاحة التي يمكن بها توفير المعلوماتية؟.
 أين؟.. هل نحيل كل مدرسة وكل مرفق تعليمي إلى فضاءٍ معلوماتي، وهل نجعل من هذه المعلوماتية جزءاً من المقرر التعليمي وبصفة دائمة؟..
 وبملاحظته حول ما يقرره الكاتب السوري محمد قرانيا المتخصص في الكتابة للأطفال، من أنه ” من المدرسة تبدأ الطفولة مسيرتها العلمية ” التي يلفت فيها النظر إلى أن في ذلك القول مع صحته، قدر كبير من تجاهل الواقع، ومذكراً بما أشار إليه في ثنايا النقاش ملامح ذلك الواقع، كمثل المسافة الحضارية بين القرية والمدينة، وما يترتب عنها من فارق في الامكانيات التي يحصل عليها الطفل في المدينة ولا يحظى بها طفل القرية، ناهيك عن أطفال المجموعات المتنقلة في المناطق النائية، إضافة إلى تفشي الأمية بين كثير من أطفال القرى والبوادي، وهو ما توقفنا عليه الارقام، في صيغ تدني نسب مستخدمي الانترنت في الوطن العربي بمقابل ارتفاع نسب الأمية فيه، الأمر الذي يعني، وفق ما يرى الاستاذ يوسف الشريف (أن المستهدف لن يحقق ما نطمح إليه، ويستتبع ذلك أن المكان الذي يجب أن نكون فيه، يصعب تحديد مساحته الحضارية، إلّا بشرط واحد، هو الأخذ بخطة استراتيجية تنفّذ عبر ثلاثة مسارات.

 المسار الأول /
 سد الحاجات الحيوية المباشرة للطفل، فمن المؤكد أن الطفل الجائع يحتاج أولاً إلى الطعام، والطفل المريض يحتاج أولاً إلى العلاج، والطفل الذي ينام على الأرصفة أو في كوخ من الصفيح يحتاج إلى سكن لائق، وهذا يعني أن القضاء على مثلث الفقر والجوع والمرض، يجب أن ينجز دون تراجع أو تأجيل )
 المسار الثاني /
 بالرغم مما تنص عليه القوانين من إلزامية التعليم الاساسي ومجانيته، فإن الواقع يقارع تلك القوانين، ويفقدها نجاعتها وجدواها بمعطيات تناقضها، ومن تلك المعطيات.
 1 – عدد مدارس التعليم الأساسي لا يستوعب الأعداد المتزايدة للأطفال.
 2 – امتناع الأسر عن ارسلل أطفالهم الى المدارس لأسباب مادية أو غيرها.
 3 – مغادرة الأطفال مقاعد الدراسة، وانخراطهم في سوق، خصوصاً بسبب الفقر الذي تعاني منه بعض الأسر.
 وفي هذا السياق يطرح الاستاذ الشريف خطوات يرى ضرورة اتخاذها لمعالجة الأمر، منها.
 ا – تطبيق الزامية التعليم ومعاقبة كل من يمتنع عن ارسال اطفاله إلى المدارس.
 ب – منع استغلال الاطفال في العمل وهم دون سن الرشد.
 ج – توفير العدد الكافي من المدارس لاستيعاب اعداد الاطفال المتزايدة
 د – استخدام التقنيات الحديثة والملائمة، لإيصال خدمات الاتصالات والمعلومات الى المناطق النائية.
 المسار الثالث /
 وفيه يؤكد الاستاذ يوسف الشريف على أن الطفولة تبدأ مسيرتها العلمية من المدرسة، مضيفاً، أن ذلك يعني (أن تتحول المدرسة إلى فضاء علمي رحب وبلا حدود بأوضح ما يكون، وبأيسر ما يكون ).
 ويواصل (إن المسار الثالث كما أراه يمكن أن يمر عبر الشروط الآتية…
 ا – استخدام الكمبيوتر في كل مراحل التعليم الأساسي.
 ب – تأهيل معلمين متخصصين في المعلوماتية.
 ج – الإكثار من مراكز الانترنت في المدارس والمكتبات والنوادي.
 د – إدخال المعلوماتية في المناهج الدراسية.
 ه – توفير المعامل العلمية حسب المراحل الدراسية.
 و – تطوير مناهج التدريس وتجديدها، بما يتلاءم وتطور العلم وتقدمه.
 ز – اللغة الانجليزية صارت هي اللغة الأولى في الانترنت، لذلك لابد أن يتعلمها الطفل من بداية دخوله إلى المدرسة.
 ح – تدريب الأطفال على استعمال الكمبيوتر.
 وإضافه في توضيح الطرح يلحقه الاستاذ الشريف بمجموعة من الارشادات التخصصية التي يمكن من خلالها انجاح العملية التعليمية.

 وليخلص الفصل الأول من كتاب دراسات في الطفولة، للاستاذ يوسف الشريف، إلى أهمية النظر والتناول الشمولي للقضايا الاجتماعية، حيث أن (أي خطة تستهدف قطاعاً من قطاعات المجتمع، لن يتحقق لها النجاح ما لم تكن حلقة في سلسلة من خطط أخرى تستهدف كل قطاعات المجتمع، فطريق المعرفة، مهما تكن وسائطها، ما هي إلّا ممر واحد من شبكة معقدة من الممرات التي، يفرض علينا الخروج منها، تتبع مساراتها وتلمس عوائقها، والتعامل معها بعقل ينيره مصباح العلم، كي لا يكون الخروج منها مستحيلاً )
 بقي القول أن تناول هذا الفصل (رغم ثرائه وأهميته) من كتاب ذي ثلاثة أجزاء تناولت موضوع الطفولة من زوايا عديدة، لن يحيط بهذا الكتاب في جملته ولن يستوعب مادته في تفاصيلها، لكن قد يكون عذر هذا التناول عن قصوره وتقصيره، أنه محاولة في اتجاه البحث عما يمكن أن يكون لنا فيه أمل، و جدوى بكل تأكيد.

مقالات ذات علاقة

دار الرواد للنشر بطرابلس تعلن عن ظهور “محمود أحمد المنتصر ودوره السياسي في ليبيا ” للنور

المشرف العام

الأديب الشاعر الراحلُ (فاروق شوشة) والشعراء الليبيون على صفحات مجلة “العربي” الكويتية

يونس شعبان الفنادي

يوميات مثقف في زنزانة ليبية

خلود الفلاح

اترك تعليق