النقد

دائرة السرد والحوار.. في أدب الكوني

(1)

أودّ التنويه إلى أن هذه القراءة ليست بحثاً بالمعنى المنهجي لمصطلح البحث، وليست دراسة بالمفهوم العلمي للدراسات، وإنما قراءة تطرح أسئلة أكثر من أن تقدم إجابات، ولعل ما تحويه من أسئلة تشكل حافزاً لدى البعض، ودافعاً لدى البعض الآخر، كي يصيغ منها أسئلة أخرى لقراءة جديدة لعالم روائي متميز داخا معمار الرواية العربية.

(2)

أو ثانية أن أحدد بعض المصطلحات التي سترد في هذه القراءة، ما أعنيه بالسرد –هنا- يخرج عن مفاهيم النقد الأكاديمي، فالسرد أعرفه بأنه (طريقة القص)، وبذلك يفارق هذا المعنى التعريف الذي تقدمه لنا البلاغة التقليدية التي تقترح علينا تراتبية رباعية لمفهوم السرد تتمثل في الآتي: الاستهلال- السرد أو عرض الموضوع- البراهين- الختام.

ويفارق تعريفنا للسرد –أيضاً- البلاغة الأوربية الكلاسيكية، التي تنظر للسرد في كونه (الخطاب الذي يعرض فيه المتكلم الأحداث للبرهنة أو المثيرة للجدل).. أو كما يقول “رولان بارت”: (إن القصة ليست حكاية، وإنما خطوة برهانية، وهي لذلك عارية ووظيفية محضة).. أو كما يعبر عن ذلك “كنيتليانو”: (إنني أتفق في الرأي مع من يرون أنه بنفس الترتيب والنظام الذي تحدث به الأشياء، لابد وأن ترى، ولكنها ينبغي أن تري بأفضل الطرق المواتية).

تؤسس البلاغة التقليدية لمفهوم (الاحتمال) للسرد الخطابي، وهو الاحتمال الإقناعي الذي يدور حول الاحتمال على مستوياتٍ أربع:

1- الاحتمال الطبيعي: ويتصل بالعلاقة بين الأدب والواقع.

2- التلاؤم: وينتمي للمظهر الخارجي المتصل بعلاقة الأدب بالواقع من ناحية، وللمظهر الداخلي المتصل بالعلاقة بين الحدث ولغة الشخصيات، وخواصها من ناحية أخرى.

3- ظروف المكان والزمان والكيفية.

4- ظروف حبكة الأحداث نتيجة ذلك.

(3)

التعريف الذي قدمناه للسرد، يتيح من ناحية أن يكون لكل عمل إبداعي (رواية أو قصة قصيرة) قراءة في طريقة إيصال الخطاب الفني، عبر وسائطه الجمالية الخاصة به، ويتيح من ناحية أخرى الحرية لدى المتلقي للوصول إلى المعنى الذي (يقرأه) في النص الإبداعي، وفعل القراءة هنا يرادف (التأويل) الذي يتيح للمخيلة أن تقرأ ما ترغب من قراءة للنص الإبداعي.

(4)

أما المصطلح الثاني فهو (الحوار) والتعريف الذي نقدمه هنا مأخوذ مباشرة بشكل خاص من أعمال “الكوني” الروائية والقصصية، ونعني به (التواصل)، الذي يأخذ الأشكال التالية:

1- الحوار الداخلي: المناجاة أو المنولوج.

2- الحوار الخارجي أو الديالوج.

3- الحوار غير المنطوق: ونعني به التواصل الذي يقيمه الإنسان مع الطبيعة، ويكتسي هذا الخط في أعمال “الكوني” بعداً قدسياً، كما سنبين ذلك في ثنايا هذه القراءة.

4- الحوار السردي: وهو ذلك التواصل بين السارد في الرواية، وبين القارئ دون وسيط المؤلف أو شخصيات الرواية.

(5)

وقبل أن نقدم مفهوم (السرد والحوار)، لابد من الإشارة إلى نقطتين تنويريتين لابد من إيضاحهما:

الأولى.. تكمن في أن ما يقدمه “الكوني” هو (الإنسان في مسيرته الأولى) الإنسان بغرائزه وطموحاته، جنونه وأحلامه، قصوره وضعفه، محاولاته “الدونكيشوتية” في خلق مصيره، أو التحكم فيه، ومن هنا فإن عالم “الكوني” الروائي غني بالدلالات التي تخرج عن نطاق المكان الذي تدور فيه معظم رواياته، وربما شعر “الكوني” بضرورة أن يقرأ ويفهم بالشكل الذي يعني ويقصده، كي لا يؤطِّر في حيز جغرافي كما تفعل بعض القراءات العجْلى، لذلك نجده يضمن أعماله استشهادات متنوعة وبالغة الدلالة، تشكل نافذة للقراءة الواعية، فنجده في مفتتح الروايات أو الفصول داخل الرواية الواحدة يقدم استشهادات من: القرآن الكريم- سفر التكوين- إنجيل يوحنا- ومقاطع لـ”هرمان هيسه”- أرسطو- ابن رشد- المسعودي- الجاحظ- ابن خلدون- يوجين…

وهذه الاستشهادات منتقاة بعناية كإشارات دلالية للقارئ قبل أن يدخل في مغامرة القراءة، كطقس من الطقوس السحرية التي تتخذ في المجهول درباً للاكتشاف.

الثانية.. تتصل بهذه الإحالات، ونعني بها غن الكلمة أو المفردة عند “الكوني” تكتسي في حد ذاتها بقوة طقوسية، وهذا الاستخدام للمفردات وظلالها يتم بوعي وقصدية تحيلنا إلى النصوص ذات الرائحة التراثية، أو بشكل أدق (البدائية) بالمعنى الإيجابي للكلمة.

فاللعبة الروائية عن “الكوني” تنهض على أساس (العالم الطقوسي) بداية من التضمينات المستشهد بها، مروراً بالوقائع والأحداث وكذلك الشخصيات العادية التي تتحول إثر حادثٍ ما إلى شخصية أسطورية تعيد خلق وترتيب عالمها الداخلي والخارجي على حدٍ سواء.

(6)

لنستشهد هنا بمقطع من رواية (السحرة) الجزء الأول، لينير لنا ما نقصده، والفقرات السابقة (يستلقي على قفاه، فينصت لحوار الساحرات، يسمعهن بوضوح، يتمتن يتهامسن.. يرسمن المكيدة بإشارات الضوء، يراهن يتزاورن، يتبادلن الشهب رسلاً.. يسمع تمائم سحرية مختفية.. انسحبت الساحرات وسافرت في رحلة الأفلاك، بقي له وسواس، فكر لو تحققت النبوءة، وغابت الشمس إلى الأبد).

يلخص المقطع النقاط المتعلقة بآلية السرد والإحالات الطقوسية للمفردات، أو للحالة الشعورية في الصورة بأكملها، مع التنويه على أن الاستشهاد بمقطع صغير هو عمل تشويهي، ولكن ما نقصده هو الإشارة لأحد الأمثلة التي تدلك على المعاني التي سبق الإشارة إليها.

(7)

ولكن ما هي طبيعة العلاقة بين السرد (طريقة القص) والحوار (التواصل)، وما هي بنية النص الروائي، كخطاب؟

يشير بعض النقاد إلى أنى هناك ثلاث مقولات:

مقولة زمن القص- مقولة هيئة القص- مقولة نمط القص.

– المقولة الأولى (زمن القص): وترتكز أساساً على مبدأ (الترتيب) فالروائي يحكي عن واقعة ما بأسلوب يجعلنا نعتقد بان هذه الواقعة وقعت في زمنٍ حاضر، ثم يتابع قصته ليحكي لنا عن واقعة أخرى ليشعرنا بأن هذه الواقعة وقعت في زمن سابق، وقد يتفنن الروائي فيداخل بين عدة أزمنة لخلق فضاءاً لقصته وليحقق غايات فنية أخرى منها التشويق والتماسك والإيهام بالحقيقة.. وبفعل هذا اللعب الفني يوهم القص بأن الكلام يتجه إلى الوراء حتى حين الكتابة تبقى في الحقيقة خطوة متقدمة غلى الأمام.

– مقولة (هيئة النص): تختص بمن يروي، وكيف يرى الراوي إلى ما يرويه؟.. وما هي علاقته بمن يروي عنهم؟.

– مقولة (نمط القص): وتتمثل في مستوى الصياغة كأسلوب.

ولكن إذا دمجنا هذا المقولات الثلاث في صيغة واحدة استنتجنا ما أسميناه ب_(طريقة القص)، وإذا تم الفصل بين زمن الروائي وزمن القص، أو بين الرواية والأسلوب الذي تروي به الرواية فإنه من باب التحليل فقط، حيث يستحيل الفصل بين المقولات الثلاث أثناء القراءة، أما من حيث الدلالة السردية، فإن النص الروائي ككل، هو حوار بين الكاتب والقارئ، وليس الروائي بأبسط تعريف، هو ذلك الشخص الذي يحكي لنا حكاية، وبغض النظر عن أهدافه المستترة أو المعلنة، فإن الهدف الأول يكمن في أنه يريدنا أن نصدق ما يحكى، ولكن نصدق الوقائع التي تروي.. فإنه يستخدم تقنيات مختلفة تتلخص في الطريقة التي يسرد بها لنا هذه الوقائع، سواء اعتمد على زمن واحد أو تداخل الأزمنة، سواء رويت الأحداث على لسان إحدى شخصيات الرواية، أو رواها لنا مباشرة.

ولن أستشهد هنا بمقطع ما، إذ أن روايات “الكوني” تشترك جميعها في طريقة تضافر آلية السرد والحوار.

(8)

وظيفة السارد في روايات “الكوني” كما ذكرت سابقاً، تكمن قي (تقديم الحدث)، شاهد على الوقائع مثلما هو الحال في 0الجوقة) في المسرح الإغريقي، لنتأمل هذين المقتطعين:

(البارحة مات أماستان.. وجد منتحراً في دورة التظاهرة التي أقامها الأهالي في تلك الليلة لطرد الأرواح الشريرة من وجه القمر عندما أكتسحه خسوف مفاجئ) البشر-رواية الخسوف- ص:7

(مع اختلاف ميزان النهار وانحراف الشمس نحو الغروب، انحسرت ظلال النخلة، وتراجعت إلى الجهة المعاكسة مؤذنة بحلول العشية) أخبار الطوفان الثاني- الخسوف- ص5.

إن السارد في النص الروائي لا ينتمي إلى شخصية الرواية، هو في واقع الأمر صوت الروائي نفسه، إلا أن قواعد اللعبة السردية تنهض أساساً على قانون (التواطؤ) بين المتلقي والمبدع، فكلاهما اتفقا على أن يتقبل القارئ النص الروائي كقطعة من الحياة، حكاية من حكايات هذا العالم، أي يتحول (الوهم) إلى حقيقة، حتى لو كانت الرواية فوق واقعية أو تتجاوز الواقع المألوف.

ومن هنا فإن السارد –بهذا المعنى- يحاور القارئ طالباً منه الدعم طوال زمن السرد، وذلك بتصديق كل ما يروى من وقائع وأحداث.

ويحتفظ السياق السردي باستقلالية صوت السارد عن صوت الروائي أو شخصيات الرواية: لنقرأ هذين المقطعين من رواية الخسوف- ص:17، 280:

(في وادي الآجال ينطلق الطريق العام المترب المرسوم بالتجاعيد مقتفياً أثر الوادي.. يلتصق بالسلسة الجبلية الشرقية المعيبة ذات الرؤوس المتساوية، حيناً، ويقترب حيناً آخر محاذراً أن يتوغل شرقاً حيث تنتصب سلسلة جبلية أخرى تتوعده –دائماً- بالانتقام).

أن الذي يحكي هنا سارد خارج الشخصيات العاملة في الرواية، وهو يتوجه بكلامه إلى القارئ منفصلاً عن صوت الروائي، وهذا الانفصال هو أمر مفهوم ضمناً، والوصف في هذين المقطعين يشكلان وجهة نظر السارد، إذا ربما لا يبدو لنا الطريق مرسوم بالتجاعيد، أو السلسلة الجبلية لا توحي بالانتقام، فهذه الأحاسيس والأحكام المعيارية تخص السارد وحده، على مستوى القول.

إن الصوت الثالث هنا، يتميز عن صوت الروائي، وأصوات شخصيات الرواية، إنه حوار يقيمه السارد مع القارئ مباشرة، وهذا التوظيف السردي ليس غريباً في الأدب العربي، فحكايات (ألف ليلة وليلة) تقدم لنا آلية السرد والحوار في تضافر متطور ومتقدم عن الكثير من الروايات الغربية والعربية، فشخصية “شهرزاد” تتحول مع تنامي الحكايات وتطور زمن السرد إلى سارد يروي حيناً ويعلق حيناً، حتى شخصية وهمية وظف أساساً لتقوم بوظيفة السارد للحكايات.

إن دائرة السرد والحوار تتكامل في أعمال “الكوني” وذلك انطلاقاً من مفهوم الروائي لمعنى القص، من خلال العالم المتخيل الذي يتم استحضاره من المخيلة الشعبية بأساطيرها ومعتقداتها، ومن الطقس البدائي الجمعي والموروث، حيث تتم شخصنة الظواهر الطبيعية وتماهيها مع نوازع ومشاعر الإنسان.. عبر أبيات السرد الذي نكاد فيه نتحاور مع الريح والشجر والقمر والحجر، وأطياف من رحلوا وبتوظيف الشجنة التي تملكها الكلمات التعاويذ السحرية.

إنه عالم يحتاج إلى الكثير من الجرأة والمغامرة تكاد توازي جرأة ومغامرة “الكوني” في إبداعه الروائي والقصصي.. وتظل القراءة النقدية –دائماً- هامشاً على المتن.

____________________

مجلة الفصول الأربعة/ تصدر عن رابطة الأدباء والكتاب الليبيين/ السنة: 25/ العدد: 105/ التاريخ: 7/2003/ تصدر كل ثلاثة أشهر

 

مقالات ذات علاقة

النفيس للأستاذ خليفة التليسي

محمد خليل الزروق

المقهور.. انعطاف في كتابة فن القصة القصيرة

عبدالسلام الفقهي

طفلة الذاكرة وحشود الألفة

سميرة البوزيدي

اترك تعليق