قصة

خَطّ أَحْمَر..!


( خ )

… مَرزوق يلهث.. ينبح.. موجِّهاً نباحه إلى الغراب المرتكز فوق غصن البلُّوطة الأجرد.. فردّ الغراب بإيقاعات من الغاقات: (غاق.. غاق.. غاق).. وهي تعني: (أنت مجرَّد جرو صغير لا يستحق الاهتمام.. عاجز.. جسدك ضامر.. قوائمك قصيرة.. بينما أملك أنا جناحين).. وقد قال كلَّ ذلك في ثلاث غاقات فقط.. فهذه هي بلاغة الغربان..!

يقترب مَرزوق.. يضع قائمتيه الأماميتين على ساق البَلُّوطة الخشن.. يحاول بيأس أن يتسلَّق وهو ينبح.. فطار الغراب وصاح بانزعاج: (غاق.. غاق).. وهي تعني على الأرحج: (تفو على الكلاب..!).. ثمّ مَدَّ جناحيه فوق الريح.

( ط )

… يتطلَّع إلى قطيع الماعز.. الراعي في الخلف.. الكلاب في المقدّمة.. والتيوس في الوسط.. انعطف تجاهه أحد الكلاب بسحنة غاضبة.. فأخذ موقف الدفاع.. دار حوله الكلب وتشمَّمه من الخلف.. ثمّ حرث الأرض بقوائمه الأربع.. ومضى يلهث.

أعجبتْه هيأة الفحل المَهيبة.. لكنّه لم يعرف ماذا يفعل الفحل بالقرنين.. وفكَّر: (يبدو أنّ القرون زائدة عن الحاجة.. فالتيس يظلّ تيساً حتى بدون قرون).

مرَّ بالقُرب من قطيعٍ آخر.. حرص على ألاّ تراه الكلاب.. ألقى نظرة فاحصة.. واستنتج أنّ الراعي وكلابه وتيوسه من لوازم أيّ قطيع..!

تشمَّم الأرض.. فاكتشف أثراً لبول الكلاب على شُجيرات الشبْرق.. فمضى لاهثاً وهو يفكّر: (أينما وضعت أنفك اصطدم برائحة كلب أو تيس .. إنَّ عالماً مزدحماً بالكلاب والتيوس إلى هذا الحدّ هو بلا شك عالم يبعث على…).. قطعت عليه أفكاره عَضَّةٌ في مؤخّرته من أحد الكلاب.. فأطلق عواءً حادًّا.. تلَوَّىَ حول نفسه.. وألْصَق مؤخّرته بالوحل البارد.

( أ )

… أخذ يلعق العشبَ النديّ.. فلسعه نبات الحرِّيق.. وأخذت ذبّابة خضراء تطوف حول أنفه.. ثم التصقت بوجهه.. فنفض أُذنيه بفرقعة.. وشتم العالم الطافِح بالمزعجين.. انتحى جانباً.. أقعى.. وبدأ يفكِّر: (هناك أشياء كثيرة في هذا العالم غير مفهومة.. لماذا لسعني العشب.. ولماذا بقيت وحدي.. ولماذا حشروا إخوتي في كيسٍ وأخذوهم بعيداً.. ومنذ ذلك المساء لم أرهم.. صحيح أنني في تلك الليلة ارتويت من الحليب.. لكنّ أُمِّي لم تنم ليلتَها.. أنا أتذكَّر ذلك جيداً.. كانت تقف من نومها فجأة.. حتى إنني شعرتُ بالبرد.. وفي الصباح ظلَّت مُمدَّدة بلا حراك.. ثمَّ جاءوا في المساء وجرُّوها من ساقيها الخلفيتين.. انتظرتُها طيلة الليل ولم ترجع.. كم أَكْرَه المساءات..!).

( ح )

… مشى على حافّة الطريق الترابي.. مُتحاشياً البِرَك والأماكن الموحلة.. أمالَ رأسه يميناً وشمالاً متأمِّلاً صورته الباهتة في البركة العَكِرة.. تطلَّع إلى الضجيج.. نبح نباحاً متواصلاً على السيارة المسرعة.. فأطلقت نباحها أيضاً.. قذفت في وجهه المياه العَكِرة.. وبقَّعتْه بالوحل قبل أن تختفي وراء المنعطف.

( م )

… ابتعد عن الطريق.. استلقى باسطاً ذراعيه بالقرب من شُجيرة بَطُّوم.. أغمض عينيه وبدأ يحلم.. حلم بأنّهم بنوا له وِجاراً واسعاً نظيفاً.. بسقف أحمر مُحدَّب.. وأصبح بإمكانه أن يتفرَّج على المطر لأوَّل مرَّة دون أن يُصاب بالبَلَل أو يُلطِّخه الوحل.. ويستطيع أن يستلقي دون أن يركله أحد أو يَنهشه في مؤخِّرته.. وإذا مرُّوا بالقرب من الوِجار مشوا على أمشاط أقدامهم حتى لا يوقظوه..! بل وقدُّموا له حساءً ساخناً يتصاعد منه البخار الحارّ الشَّهيّ.. وتعوم فيه قِطَع اللحم.. وقد كان يعتقد أنّه من غير المعقول أن يُقدِّموا له هَبْرة.. أخذ يلغ الحساءَ على مهل حتى لا ينفد بسرعة.. وترك قِطَع اللحم العائمة تحت غُلالة البخار إلى أن تزدحم في قاع الطبق.. وفجأة.. صَدَمَه شيء بعنف في مؤخّرته.. فنهض مذعوراً.. وقبل أن يتلقَّى اللكزة الثانية من الحذاء قفز عاوياً.. نظر إلى بُقَع الوحل المتيبّسة على سيقانه وجانبيه.. وعبثاً حاول استعادة حلمه الحسائي.. أحسَّ بأنّه كان سلوكاً خالياً من الحكمة.. بل وحماقة.. أن يلغ الحساءَ على مهل.. وينتظر حتى تتراكم قِطَع اللحم في القاع.. وأَسِفَ لأنّه لم يزدرد ولو هَبْرة واحدة صغيرة.. لعق جوانب فمه.. لعلَّه يجد في لعابه أيَّ أثر للحساء.. ثمّ قال مُعزِّياً نفسه: (أكل الهَبْرة على كل حال ليس ممتعاً.. فأنت تزدردها مرَّةً واحدة.. وتبقى صفر الفم واليدين.. أَمّا العظمة فهي تبقى بين أسنانك فترةً طويلة.. وتمنحك مُتعةَ القَرقضة… وإذا استطعتَ أن تكسرها فأنت تجد فيها شيئاً من الداخل يمكن لَعقه.. لكنّ البشر للأسف لا يكتفون بسلخ الهَبْر.. بل يكسرون العِظام أيضاً.. يمصُّونها.. يتركونها مُجرَّد أنفاق خاوية.. وأحياناً يرفعونها بينهم وبين الشمس ويتطلّعون بعينٍ واحدةٍ إلى خَوائها من الداخل..!).

( ر )

… أَقْعَى.. أخذ ينظر إلى غربان المساء تطير مُتأنّية في دوائر.. تعبر بينه وبين الشمس مُنحدرةً إلى الأودية.. أحسّ بالألم في ظهره.. وأدرك أنّ الأحذية التي تركل المؤخِّرات تركل الأحلام أيضاً.. وحدَّثَ نفسه: (تكون سائراً على جانب الطريق أو نائماً في أمان الله.. وفجأة يتشمّم أحدهم مؤخّرتك أو يعضّها أو يركلها.. لا أدري متى يأتي ذلك اليوم الذي تكون فيه المؤخِّرات خَطًّا أحمر..؟!).

تثاءب.. نبح نبحتين في الفراغ.. أحسَّ بأنهما خاليتان من المعنى.. لا تليقان ببلاغة الكلاب.. فينبغي قبل كل شيء أن يُصغي إلى نباحك الآخرون.

كان جائعاً.. مقروراً.. مُلطَّخاً بالوحل.. فاجتاحتْه رغبة في أن ينبح على أحدٍ ما.. تلَفَّتَ في كل الاتجاهات.. نهض.. وأخذ ينبح على لهب الغروب خلف سواد الغابة.

***

(2005)

مقالات ذات علاقة

ورقةٌ واحدة لا تكفي

المشرف العام

السنفــــاز

عزة المقهور

نصريات المولى نصر الدين في المجتمع المدني

محمد دربي

اترك تعليق