قراءات

خواطر عن بلدي لحمزاتوف .. الأدب الذي يدجن الجغرافيا

كتاب “بلدي” رواية الشاعر الداغستاني الكبير (رسول حمزاتوف) كتاب يدجن الجغرافيا.. ويبسط أمامك (داغستان) بكل جبالها وسهولها.. أساطيرها وأغانيها الشعبية.. شتائم النسوة فيها.. وقصص الحب التي تدور في أرجائها.. وهو كتاب خاص بكل العالم بقدر ما هو خاص بـ(داغستان) فعند (رسول حمزاتوف) يكون الخاص الغارق في المحلية هو الإنساني الذي يخص كل العالم.. وكثيراً ما ردد الأدباء المشاهير في العالم أن (المحلية هي الطريق إلى العالمية).. وإن لم يقتنع بهذا بعض أدبائنا العرب الذين يسارعون إلى ارتداء كل مذهب غربي يسمعون عنه وإن لم يوافق مقاساتهم بدعوى العالمية.. و(رسول حمزاتوف) لا يكتفي أن يكون واقعه المعيشي (الحاضر, الماضي, المستقبل) هو النبع الذي يغترف منه كل ما يكتبه وإنما يحرص دائماً على أن يغرس حب بلاده (داغستان) في قلوب كل قرائه حتى الذين تفصله عنهم آلاف الكيلو مترات وهو في سبيل ذلك ينفي القطيعة -لازمة بعض الأدباء العرب- بين الماضي والحاضر والمستقبل فكل هذه الأزمنة تشكل في نظره زمناً واحداً هو زمن بلاده مستشهداً في ذلك بقول (أبوطالب) الشاعر الذي ما أنفك (حمزاتوف) يبدي إعجابه به في كل ثنايا الكتاب (بلدي).

إذا أطلقت نيران مسدسك على الماضي

أطلق المستقبل نيران مدافعه عليك

على عكس ما يتشدق به بعض الأدباء الذين يمكن أن نطلق عليهم (أدباء الرائحة) وهم الذين يقول عنهم (حمزاتوف): (الكتّاب الذين يكتبون في موضوع لا عن حب أو عن بغض بل بحسب الرائحة لا يمكن أن يكونوا أبناء زمانهم  بل يومهم).

ولهذا تحس وأنت تقرأ  رواية (بلدي) بتلك الحميمية التي تصل المؤلف بالأرض ليس إحساس الإعجاب فقط بل إحساساً عارماً بجماليات المكان/ كما يرى (باشلار) في كتابه الذي يحمل هذا الاسم ولقد قرأت الكتاب مترجماً -وعذراً لأني نسيت اسم مترجمه- فكنت أحس بحنين جارف إلى بلاد (حمزاتوف) وكأنها بلادي.. وفي هذا دلالة واضحة على أن الكلمة الجميلة الصادقة تستطيع أن تمحو كل الحدود التي تفصل بين كل البشر و(حمزاتوف) في هذا الاعتزاز المفعم بالنشوة لكل ما يتعلق ببلده (داغستان) هو ابن بيئته التي يعتبر أهلها أن اللغة ليست مجرد كلمات للتفاهم فقط وإنما هي من صميم الحياة بحيث يكون فقدانها لعنة تصيب من حلت به..

يقول حمزاتوف:

سمعت في إحدى القرى امرأتين تتبادلان الشتائم

– ليحرم الله أطفالك من يستطيع أن يعلمهم اللغة

– بل ليحرم الله أطفالك من يستطيع أن يعلموه اللغة

وفي هذا بيان لاعتزازهم الكبير بلغتهم وحرصهم على تعلمها بل وعلى تعليمها للآخرين..ويأتي في هذا السياق قول (حمزاتوف):

(الإنسان الذي يقرر كتابة الشعر وهو لا يعرف اللغة; كالمجنون الذي قفز إلى نهر جارف وهو لا يستطيع السباحة).

لهذا ولغيره فإن قارئ رواية (بلدي) لـ(رسول حمزاتوف) منساق إلى إعادة قراءتها مثني وثلاث ورباع بقوة حب جارف لا يفكر في الخلاص منه لأنه أي القارئ قد وجد نفسه فيها بل ووجد ما يفتقده في نفسه ويرى تجاور الإمتاع إلى جانب العبقرية ويحلق في عوالم الخيال وهو يزور أرض الواقع رغم اختلاف الأمكنة.

ولو تمعن بعض الأدباء العرب في قراءة هذه الرواية لأدركوا أن العبقرية ليست حكراً علي الغربيين وحدهم أو كما يقول حمزاتوف: (عندما تقطن العبقرية إنساناً ما.. فهي لا تعبأ إن كل بلد هذا الإنسان كبيراً أو غير كبير ولا تكترث إن كان عدد سكانه كثير وغير كثير)..

وفي كل ما سبق لا أزعم أنني أحاول حتى ولو كتابة مقاربة أولية لعمل (حمزاتوف) الفذ وإنما هي خواطر وجدت نفسي أكتبها بعد أن عدت للمرة المائة أو تزيد إلى قراءة بعض ما كنت قد نقلته منه في إحدى كراساتي الخاصة.

_____________________

نشر: صحيفة الجماهيرية.. العدد:3997.. التاريخ:16-17/05/2003

 

مقالات ذات علاقة

في حضرة الهايكو

ناصر سالم المقرحي

صداقة سرمدية..

إبراهيم بن عثمونة

صُراخُ الطابقِ السُفْـليِ .. بعضُ تاريخِنَا المؤلِم

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق