من أعمال فنان الجرافيتي بوفا.
استطلاعات

خطوط الافلات

ليبيا المحلية :: إنتصار البرعصي.

كفنان غير قانوني في أحد الشوارع أو الأزقة الخلفية لن يكون لديك كثير من الوقت لتنجز جداريتك، ستخرج بعدتك أصباغ الرش والفرش وقطعا من الإسفنج، على الأغلب في وقت متأخر من الليل، أو في شارع ناء تحت أحد الجسور بعيداً عن الحركة ودوريات الشرطة، لتترك خلفك إن حالفك الحظ جدارية معروضة للجمهور، أو أن يكون السجن أو التوقيف مصيرك إن تم القبض عليك.

بوفا، البوهلي، إي جاي، حمزاوي، بوشكا، أسماء متمردة ترتبط بلغة الشارع البسيطة وأقرب لروح الشباب الخارجين عن المألوف، هؤلاء فنانون اختاروا حوائط الشوارع مرسما لهم، دافعوا عن فنهم الذي رآه كثيرون تخريبا وتشويها لشوارع المدينة، فيما اعتبرته السلطات تمردا وخروجا عن القانون.

مصطفى المحرصى 29 سنة من مدينة بنغازي والمعروف بـ “بوفا” يعمل مصمم رسوم متحركة بإحدى الشركات بتركيا، بدأ احتراف التصميم منذ كان عمره 16 عاماً إنطلاقا من ممارسته الجرافيتي.

خطة الانجاز

يصف بوفا التكتيك الجرافيتي لإنجاز جدارية بعيداً عن أعين الشرطة ووفق شروط بقية فناني الجرافيتي قائلاً “عليك أن تختار الشارع بعناية، كأن يكون قريباً من بيتك في منطقة نفوذ تتبعها، إذ لا يحق لرسام العمل في منطقة رسامين آخرين دون موافقتهم ليكون ضيف شرف لدى جرافيتي تلك المنطقة”.

إختيار الجدار لا يكون عشوائيا سيكون إما ملكا خاصا أو بناء مهجورا أو منشآت للدولة لا يوجد بها موظفون كمضخات المياه وغرف الكهرباء، ويتفق كل الجرافيتيين أن المساس بجدران الأماكن العامة قد يكلف المغامر حريته.

قبل الثورة لم يكن بوفا يرسم في الشارع خوفا من الملاحقة الأمنية والشرطة، كان مقلا في ممارسة هوايته بسبب إنشغاله بين العمل والدراسة، في أملاك أشخاص يعرفهم، أو أماكن تخصه.

عن مشهد الجرافيتي في الشوارع يقول بوفا: “كثيرا ما كنا نرى جدارايات دون أن نعرف من رسمها، أذكر إحدى اللوحات على غرفة كهرباء قرب جامعة بنغازي. كانت جدارية كبيرة وجميلة بألوان مشعة، وكذلك أسوار الطريق السريع كانت معرضاً لفناني الشوارع غير أن السلطات في عهد القذافي كانت تمحو باستمرار تلك اللوحات”.

نقص المعدات وجهل الناس بما يقوم به من فن وقف حاجزا أمام حماس بوفا الذي كان عرضة للسخرية أغلب الوقت، وبسفره لتركيا للعمل وجد دافعا ليبدأ مسيرته مع الكاليجرافيتي “فن الرسم بالحروف”، وبعيداً عن المتاعب وجد طريقة للقيام بما يحب، يقول: “بقائي في تركيا حرمني إمكانية الرسم في الشوارع، وبدأت إنتاج لوحاتي بالحروف العربية بأسلوب تجريدي، وقد ولاقت أعمالي إقبالا كبيرا في تركيا لأهمية الحرف العربي في ثقافتهم”.

من أعمال فنان الجرافيتي بوفا.
من أعمال فنان الجرافيتي بوفا.
الصورة: ليبيا المحلية.

فن متمرد

فنان الكاليجرافيتي المعروف بـ “البُوهلي” إختار في العام 2012 أن يستخدم الحروف في الجرافيتي بعد فترة قضاها كفنان شارع يرسم على الجدران في طرابلس.

في حديثنا مع البوهلي وبداياته قال: “احترفت الكاليجرافيتي لأنه فن لا تقيده قواعد، بإمكان الفنان أن يطوع الحروف ليرسم ما يناسبه من لوحات، أراه فن شارع متمرد، ولأني أعيش في الدنمارك أجدني متمسكاً بالتعبير بهوية تشير لأصولي العربية، وبشيء يربطني بالتاريخ الاسلامي الزاخر بفن الحروف”.

تعبر اللوحات التي يرسمها البوهلي عن قضايا أخلاقية تحمل فلسفة عن السلام والتسامح في الدين الاسلامي باقتباسات لكتاب معروفين كي يدمج رسالتهم الفكرية في فنه البصري.

عن تفاعل الناس مع الجداريات علق البوهلي “الناس في أغلب الأحيان لا يروقهم ما نرسم في الشارع، وكثيرا ما نسمع تعليقات محبطة من نوع “علاش اتخربوا في الحيوط”، “لو كان خليتوه أبيض خير”، لكن في زيارتي الأخيرة لليبيا قبل أشهر لاحظت إعجاب الناس بعملي في الجداريات، وتشجيعهم خصوصا من الصغار في السن”.

أنجز البوهلي بعض اللوحات السريالية منها جمهورية الخرفان، كما عبرت إحدى لوحاته عن ظاهرة ارتبطت بتردي الوضع الإقتصادي برسمه قنينة مياه بداخلها أغطية بلاستيكية انتشرت هذه الحملة المزيفة على الفيس بوك لبيع الأغطية والانتفاع بثمنها، معقباً يقول “الفن ينقل الحقيقة مهما كانت بشعة وغريبة، كما أنه يؤرخ محطات حياتنا وتفاصيلها”.

يجزم البوهلي أن فن الجرافيتي لازال ناشئاً مستدلاً بأن أغلب فناني الجرافيتي في ليبيا عشرينيون، في حين أن مشاهير الجرافيتي في العالم المتقدم تصل أعمارهم للسبعينات.

فنان الكولوجرافيك البوهلي.
فنان الكولوجرافيك البوهلي.
الصورة: ليبيا المحلية.

بحث عن إعتراف

يقول “إي جاي” إسلام جعفر وعمره 23 عاماً من بنغازي أن الرسم في الشوارع في الوقت الحالي أمرٌ صعبٌ للغاية وأنه بالكاد تمكن من رسم 5 لوحات تم مسح بعضها، لذا لجأ لاستخدام حوائط منزله لتجريب رسومات وتصاميم لتطوير مهاراته.

شارك إي جاي في العام 2013 في إنجاز جدارية مشتركة في طرابلس لعدد من فناني الجرافيتي الليبيين، والتي شكلت إنطلاقته المحترفة، غير أن الحرب في بنغازي عام 2014 أوقفت حلمه.

تركز اهتمام إي جاي على قضايا الحريات “أغلب الجداريات التي رسمتها كانت لمناهضة ورفض التعذيب في السجون، كما تناولت السلام في العالم، ومحاربة الإرهاب، غير أن الظروف التي نعيشها اليوم، والاضطرابات التي نمر بها تمنعنا من التعمق في طرح القضايا السياسية”.

مفوضية المجتمع المدني كانت لديها الرغبة في مساعدة الجرافيتيين ويقول إي جاي أن ذلك العرض لم تتبعه إجراءات عملية “لم يكن هناك حماس كاف لمنحنا الفرصة كفناني شوارع فعددنا لا يتجاوز ستة رسامين، لابد من وجود منظمة تدعم رغبتنا في أن نصبح جرافيتيين، بتوفير مكان نرسم به جداريات تعرض للعامة، ويتم تغييرها بشكل سنوي مثلا”. يقوم إي جاي بمجهود ذاتي لتوضيح فن الجرافيتي للناس، كونه ليس مجدر خربشات أو تخريب للجدران، بإنجازه وثائقيات تثقيفية، وورش رسم للمهتمين.

إي جاي كغيره من الشباب يبحث عن بيئة تتفهم طموحاته وإهتمامته وعبر عن هذا بقوله: “من حالفهم الحظ غادروا البلاد، كثيرون ممن أعرفهم يعيشون الآن في أوروبا، أتمنى أن تتاح لي فرصة العمل في بيئة تقدر الجرافيتي، ولن أتوقف عن شد الانتباه لما نقوم به مادمت هنا”، ويتمنى إي جاي أن ينجح في إبراز قيمة هذا الفن الذي لا يفهمه العامة، ولا يشجعة المتخصصون، ولا تقدره الدولة.

فنان الجرافيتي إي جي.
فنان الجرافيتي إي جي.
الصورة: ليبيا المحلية.

فن المجازفة

فنان الجرافيتي حمزاوي وهو شاب من بنغازي احترف الرسم في الشوارع فترة نظام القذافي في وقت كان فيه الجرافيتي جريمة يعاقب عليها القانون، عن مخاطر تلك الفترة يقول: “كل من يقبض عليه متلبسا يواجه تهماً لا تُعقل، تبدأ من تشويه المنظر العام، وتصل إلى معاداة النظام والتمرد والعمالة للغرب، لم يكن هناك مجال لإبداء رأي أو طرح فكرة”.

بالنسبة لحمزة التاجوري ولفناني الجرافيتي وقتها كانت الفرص لرسم أو كتابة او التلميح لفكرة معينة قليلة جداً وسط مجازفة كبيرة، ويعتقد أن الجرافيتي أثناء وبعد الثورة تطور بشكل كبير جداً، وأكد حمزاوي أن معظم فئات المجتمع الليبي أصبحت تقدّر وتحترم ماهية فن الجرافيتي والقضايا اللي يطرحها.

واجه حمزاوي صعوبة في كيفية وضع كل فكرة في قالب يستوعبه الشباب، دون أن يتمكن النظام من ترجمتها في الوقت نفسه، كما أن إنجاز جداريات كبيرة يتطلب مواداً خاصة وتدريبا متخصصاً وشكل هذا حاجزاً إضافياً.

يعتبر حمزة الهروب من الشرطة أو الأمن من أكثر المواقف الصعبة التي واجهته “بعد أن يتم كشفنا أنا وأصدقائي من قبل الأجهزة الأمنية أثناء الرسم، يكون الجري والرغبة الشديدة في إكمال اللوحة أمرا مربكا، ألقي القبض علي أنا واثنين من أصدقائي، ولكن بحكم صغر سننا آنذاك بالإضافة للوساطة تم إسقاط التهم التي وجّهت لنا”.

تاريخ الخربشات

ترجم أستاذ اللغات القديمة محمد الدويب كلمة جرافيتي بأنها “خربشات” ويعود أصلها إلى اللغة اليونانية القديمة، وقد استخدمها العلماء للدلالة على الكتابة والرسومات على الصخور والجدران.

وعبر القدماء بهذا النوع من الكتابة في الأماكن العامة عن أفكارهم ليخلدوا رأياً اجتماعيا أو سياسياً أو ليسجلوا مشاعر عاطفية، أو ليوثقوا صلوات أو طقوس دينية، وبحسب الدويب فقد بقيت هذه النقوش على واجهات المؤسسات العامة والدينية، وفي الساحات كأحد المصادر المهمة في التأريخ.

وعن إستمرار الجرافيتي وسيلة للتعبير بتطور الأدوات والتقنيات يقول الدويب: “لا يزال الجرافيتي وسيلة تعبير في العصر الحديث، بعض الطلاب ينقشون ذكرياتهم على مقاعد الدراسة، أو على جدران القاعات، بعض الأشخاص يتركون كتابات على الجدران، وربما يعد ما يكتبه بعضنا على حوائط صفحات الفيس بوك نوعاً إلكترونياً متطوراً من الجرافيتي”.

فن سياسي

يرى الفنان التشكيلي عدنان معيتيق الجرافيتي فناً سياسياً بامتياز، حيث كان أداة تعبير للناس العاديين في بادئ الأمر فانتشر الرسم والكتابة الرافضين للسلطة على جدران الشوارع الخلفية، وفي السر خوفاً من عقاب السلطات.

استشهد معيتيق بأشهر فناني الجرافيتي في وقتنا الحالي البريطاني بونكسي، وهو مجهول الهوية يرسم في الخفاء، وتظهر أعماله على الجدران في لندن من وقت إلى آخر.

ويعتقد معيتيق أن الرسم على الجدران في ليبيا أدى دوراً فعالاً للتعبير عن أفكار واتجاهات سياسية، غير أنه يعتبرها تجربة لم تنضج بعد “عانى الجرافيتي في ليبيا من العشوائية وعدم التنظيم، كما لم يهتم به الفنانون، لكني مؤمن بأجيال جديدة يمكنها أن تحقق شيئاً، بفضل وفرة المعلومات وسهولة الحصول عليها، بالاضافة لخبرات الغرب كالتقنيات المستعملة والمواد والفكرة والتطبيق”.

مقالات ذات علاقة

أدب ليبي جديد نشأ في حال من الحصار الداخلي

المشرف العام

الشعر والرواية جدلية لا تكاد تنتهي !

مهند سليمان

المثقف الليبي.. نسأل عن غيابه

محمد الأصفر

اترك تعليق