من أعمال التشكيلي الليبي .. الطاهر المغربي (السيدة والحمامة)
قصة

خديجة وزينب

إلى روحيهما….

من أعمال التشكيلي الليبي .. الطاهر المغربي (السيدة والحمامة)

(1) القابلة منى بنت حبال

ما أن غادرت زينب حتى تبعتها خديجة! قبل أن تكونا ابنتي عم، كانتا صديقتين حميميتين. ولدتا في الأسبوع ذاته.. تفصل بينهما أيام. حضرت القابلة على ظهر بغلة الحاج حسين الشهباء في هجوع الليل، لتحمل بين يديها بعد ساعات زينب.. لكن خديجة أقبلت على الحياة نهارًا.. ذات يوم قائظ، لتستقبلها القابلة منى أيضا… كانت القابلة منى بنت حبال شديدة السمرة، نحيلة وقصيرة، عيناها ضيقتان وفمها واسع وابتسامتها ناصعة.. تتكلم بلكنة غريبة وتتكئ على أواخر الكلمات. “بنية يا حاج حسين… بنية يا حاج حسن…” بنتان في الدار ذاتها. كان حسن قد ضمن ولداً قبل خديجة، بينما الحسين ينتظر أن يُقبل.. وحين سمى حسين المولودة زينب لم يخرج الحسن عن تسميات آل البيت فسمى مولودته خديجة.

(2) السانية

اختلطت العلاقة بالدم والعمر والمقام والطباع.. فالأبوان توأم.. استقرا في “سانية” بمقطع الحجر في محلة الظهرة. كانت السانية قطعة أرض رحبة تمتد على ربوة وتفصل بين محلتين: الظهرة وزاوية الدهماني. تحدها “الجبانة” شمالاً، ويقع في خاصرتها الجنوبية “الجامع”. تلاصقت مبانيها الثلاثة كما التصق سكانها، في حين اتسعت حدائقها. تميزها شجرة موز.. بأوراقها العريضة وكأنها تتأهب للطيران خلف المبنى الرئيس، بينما توزعت أشجار النخيل لتعلن أنها من سكان الأرض الأصلية، واقتربت شجرتا توت بأفرعهما المتشابكة من سور “الجبانة” لتعلنا الموت كل خريف، ثم تُبعثان وتورقان في الربيع وتتفتق من فروعهما اليابسة حبيبات فاكهة لزجة حمراء وبيضاء. وإلى جوار مبنى “المربوعة” صممت حديقة صغيرة من الفل والياسمين ومسك الليل وشجيرات الحناء بعناقيد حبيباتها الصلبة تفصل ما بين المربوعة و”الجابية” والبئر بلوازمه ومحيطه: “الدلو” و”الميدة” و”المجر”، وبمحاذاتها تتكئ كراسي مصنوعة من الحجر على سور السانية.

تضم السانية بركتي مياه تعرفان بـ”الجابية” تقعان ما بين الحديقة والبئر، الأولى للسقي، مياهها خضراء، تتكاثر فيها الضفادع التي تنقّ طوال الليل فتهيج خيال الأطفال وتملأ قلوبهم خوفًا. أما الثانية فعصب العائلة الاقتصادي ومصدر رزقها.. بركة مياه مستطيلة، ترتفع على سطح الأرض، تُنقع فيها الجلود لتُصبغ لاحقاً لصناعة الأحذية والنعال.. هي حرفتهم الأساسية التي ولّدت حرفاً أخرى أعلى مقاماً وأوفر مالاً، فولج الحسن إلى التجارة وشراء العقارات، بينما اطمأنّ الحسين لما تدره أعمال الأسرة واتجه إلى ترميم جامع شبه مهدم لصيق “بالسانية”، ليصبح إمامه، أما شقيقهما الأصغر، فكانت مهارته في يديه، تُرك له بالكامل حرفة صناعة الجلود والأحذية. وهكذا اقتسم الأخوة المهن، وتشاركوا فيما تدره من ريع واستثمار. كان الحسن أذكاهم وقد استلم إدارة الأموال، بينما الحسين أحنهم القريب من أهل الدار، أما الأصغر عمر فكان أقواهم جسداً وأبرعهم صنعة.

تفتح السانية بابها على باحة متربة، وزقاق ضيق يؤدي إلى الشارع الرئيس ويعرف بمقطع الحجر..  تحف الزقاق بيوت منخفضة رطبة، يسمع من شقوق نوافذها الضيقة سعال سكانها، وتفوح منها رائحة طبخهم. تفصل أبوابها عن الشارع ستائر قماش مدلاة أو أبواب خشبية ذات “طقاقة” معدنية… كان منهم الشاويش، والأسطى “بنّاي”، وعامل البورط، والموظف الحكومي صاحب الطربوش، والتاجر، وصاحب الصنعة، و”البطّال”… انصهرت معادنهم في ذاك الزقاق المترب الضيق وانتموا إليه.. أما السانية، وإن كانت في نهاية الزقاق، فإنها تُفضي إلى عالمٍ آخر، بيتٍ واسعٍ على شكل مربع، تقطنه عائلات ثلاث: الحسن والحسين وعمر، لكلٍ داره، إضافة الى حجرة لأمهم. أما أبوهم فله حجرة خارج البيت. كان لهم شقيق أكبر غادر الدنيا باكراً، تاركًا في السانية ابنتين وزوجة.

تقابلت حجرتا الحسن والحسين، وتقابلت خديجة وزينب.. رضعتا معا، وتعلمتا الخطو، وركضتا، وذهبتا معا الى “العريفة” تعلمهما بعضاً من كل شيء بما في ذلك ما تيسر من القرآن، وفك طلاسم الخط.

اختبأتا تحت “السِدة”، واقتسمتا كل شيء، الحكايا و”قعمورة الخبزة”، ونسجتا بخيالهما أحلاما من أغصان الشجر وشقشقة العصافير، ونقِّ الضفادع، وخترشة الجراد، وقرقرة الحمام، وحفيف الأوراق، وصياح العم عمر، وطرقعة أقدام الثور وخواره وهو يدور في “المجر” ويسير من خلفه عمي الشريف القائم على السانية يصيح فيه ” دور.. دور”، وخرير مياه السقي، وتلاوات الجنائز في مقبرة سيدي بوكر، وصياح أولاد العم.

كان الذكور في “حوش السانية” أكثر عدداً من إناثه، لكن زينب وخديجة كانتا تتطلعان إلى ما وراء أسوار السانية وما بعد قبور “الجبانة” الملاصقة لها، وإلى حيث يفضي زقاق مقطع الحجر.. إلى المدينة، الجادة الرئيسة في الظهرة، وسوق الظهرة الشعبي، والشوارع المؤدية للبحر، والمباني البيضاء، والدكاكين المتلاصقة، والسيارات القليلة، والمارة.. والحياة الصاخبة من وراء حياتهن الرتيبة.

(3) الجراموفون/ الجهاز الصادح

حتى جاء ذاك اليوم، وأحضر الحاج حسن معه من إحدى زياراته لتونس جهازًا أسود، وضع نهايته في مكبس الكهرباء فتكلم! استقر الجهاز في المربوعة، تصل همهمات الكلمات مبهمة إلى آذان النسوة داخل البيت.. كان هناك إيقاع.. دربوكة.. وأصوات أخرى لم يميزنها.. اختلفت حياة زينب وخديجة منذ ذاك اليوم، تعمق إحساسهما بالعزلة واستحثت في قلبيهما الرغبة في معرفة ما وراء الأسوار.. ويبدو أن هذه الرغبات… وجدت طريقها إلى الحاج حسن، فإذا بالصوت يعلو ويصل صادحًا واضحًا إلى داخل صحن البيت.. ” تحت الياسمينة في الليل، النسمة والورد محاديني.. الأغصان عليا تميل.. تمسحلي في دمعة عيني..”. رقصن معا وتمايلن على أغاني بشير فهمي، والهادي الجويني، ومحمد الجموسي، ومحمد الفرشيشي، وعفيفة جمال… تغلغلت عذوبة الأصوات والألحان في وجدانيهما، وتشذبت روحاهما بثقافة سمعية عالية، دفعت بهما إلى ما أبعد من أقرانهما.

(4) الرحيل عن السانية / الفراق

أما الواقعة الأخرى فكانت، رحيل خديجة عن السانية… سبقت خديجة زينب في الخروج منها. ارتبط كل من الحاج حسين وعمر بزوجتين أخريين، الأول تزوج أرملة شقيقه الأكبر “علي”، أما الأصغر فقد اقترن بامرأة من المدينة القديمة… فكان لابد لزوج الحسن أن تحموه من المغامرة ذاتها، فضغطت عليه بالرحيل.

حين وصلت “الكروسة” إلى السانية، كانت خديجة وزينب في بكاء متواصل منذ أيام.. وطمأنهن الحاج حسن بصوت أجش أقرب إلى نهرهن بأن خديجة وإن انتقلت فإنها ستكون في بيت قريب يطل على الجادة الرئيسة، وإنهما ستلتقيان في بيت العيلة في السانية.

كان بيت الحسن الجديد يطل على الشارع الرئيس مباشرة، بابه مقفل، له حديقة خلفية صغيرة بها “دالية” تتسلق الحائط وكأنها تلتف نحو نفسها، ونافذتاه تطلان على الشارع، يحجبهما عنه قطعتا خشب مليئة بالثقوب المتساوية تعرف “بعين الزرزور” تحجب الرؤية نحو الداخل، وباحته مفتوحة للسماء. استقلت الأسرة عن العائلة وبات يفصلهما شارع رئيس شبه معبد لا يبتعد كثيراً عن السوق. تتكئ خديجة على حافة النافذة وتقرّب وجهها نحو الثقوب الخشبية وتراقب… ترى المارة من الرجال، وبعض الإيطاليات و”المطلينات” واليهوديات والمالطيات.. ترى الخيول الهزيلة تجر عربات، وترى “الكراريس” تجرها الأحصنة تحمل نساء يلتحفن “الفراريش” كوالدتها.. ترى بعض السكارى أحيانا، وعراكاً ينشب من حين لآخر.. كما أنها رأت السيارات السوداء لأول مرة في حياتها.. الحياة رتيبة داخل البيت لكنّ الصخب خارجه، لم تعد هناك زينب ولا أولاد العمومة ولا مناوشات الضرائر، ولا ضحكات مكبوتة ولا أغاني ولا رقص.. فالحياة كلها خارج الدار، حياة فيها من البؤس الكثير ومن الحركة المثير.

تذهب مع أمها بين الحين والآخر إلى السانية، تلتحف بالفراشية، تجتازان الشارع، تسيران في الزقاق المترب… “إيه يا مقطع الحجر.. ياما صار فيك”، تردد أمها، ثم تدفعان الباب الكبير الموارب وتدخلان السانية.. تجري خديجة نحو البيت، وهي تصيح.. “زينب يا زينب”، تخرج زينب بضفيرتيها المفتولتين، حافية القدمين.. تتعانقان وأحيانا تبكيان وهما تضحكان.. تنزويان في ركن الساحة، تحكي خديجة عن صخب الشارع، وتحكي زينب عن صخب الداخل.

حكت خديجة عن رحيل إخوتها الواحد تلو الآخر إلى مصر للدراسة.. قالت لزينب إنها بلاد بعيدة تخرج فيها النسوة دون “فراشية” ويتعلمن في المدارس، ويُعلّمن! إنها رأت صورًا لنساء مغنجات على أغلفة الكتب.. ورجالاً يعانقون نساء.. كانت زينب  تبهت وتغطي رأسها بردائها في كل مرة وهي تسمع ذلك…وأنهم يتحدثون بكلام شبيه بكلامنا لكنه ليس مثله.. تساءلت زينب، وهل هو شبيه بكلمات الأغاني التي تصدح من المربوعة، تهز خديجة رأسها بالنفي بقوة.. حدثتها عن أن وسيلة الذهاب إلى “مصر” سفينة تمخر البحر أو سيارة يركبها الناس تسير بعجلات وتنهب المسافات.. كان حاجبا زينب يعلوان كأقواس مبنى البيت الخارجي.. حكت زينب لخديجة عن حمل زوجة أبيها، وبكاء أمها كل ليلة، فهم يتوقعون إخوة.

كانت المناسبة المقبلة “أسبوع” خليفة أول مولود ذكر للحاج حسين.. كان الجميع فرحا بما في ذلك زينب وأمها.. وسرت همهمة في السانية بأن لحية الحاج حسين البيضاء بللتها الدموع.. وهو يقول “خليفي توا يشد الجامع”.. كبرتا.. أينع جسداهما في انتظار من يقطف ثماره.. هكذا هما.. تينعان كقرنفلتين، و تنضجان كحبات التوت، وتفيضان كرغى القهوة في “السزوة”.. ثم يأتي من يتمتع بهما حتى تذبلان .. ثم ترحلان.. سنة الحياة التي يشهدانها كل يوم.

(5) زواج زينب

تذكر خديجة ذاك اليوم الذي كانت فيه أمها غاضبة.. تردد ” لازم نمشي لحليمة.. هيا خديجة نوضي معاي.. زينب بيفضوا فيها” لم تعِ خديجة هذا الغضب في وضع مفرح هكذا.. فما تفعلانه سوى انتظار الرجل القادم إليهما، ولمَ الغضب وقد جاء لزينب قبلها؟…لم تجرؤ خديجة أن تفتح فمها حول الأمر، وتبعت خطوات أمها حتى السانية.. كانت تقاطيع حليمة تنبئ عن غضب، ورعشة فمها تنم عن رغبة عارمة في الحديث تحت السيطرة. أما زينب، فقد انزوت في الحجرة وألقت برأسها بين كفيها وهي تجهش بالبكاء…” خيرك.. زينب خيرك”، “خيرني.. عمي بيعطيني لراجل هجّال.. وعنده صغار”، كان والدها الحاج حسين قد توفي.. ولم تبك زينب في وداعه كما بكت في ذلك اليوم.

سمعتا خديجة وزينب حواراً ساخناً بين الكنتين.. “وكان بوها حي راهو مارضاش بيه…هجّال وصاحب صغار”، أحرجت زوجة الحاج حسن، وأسقطت خديجة رأسها.. واقعة لا يمكن ردها. سارعت أمها الخطا نحو الشارع ثم دلفت بسرعة للبيت، تدور كالدجاجة التي تحمل بيضًا وتبحث عن زاوية في مكان ما لوضعه. وحين عاد الحاج حسن، وبعد أن تناول غذائه، أسرّت له زوجته بما قالته زوجة أخيه.

بعد صلاة المغرب، اتجه الحاج حسن إلى السانية، قرع الباب مرات بكفه وبقوة حتى خال لقاطنيه أن فرائصه ترتعد.. نادى على زوجة أخيه “حليمة”، التي غطت وجهها وانزوت وراء الباب.. “يا حليمة أنا عطيت كلمة، والراجل جي يطلب زينب وسمى عيلتك كيف نعطيه خديجة .. وكان مش عاجبك خودي طاقيتي واعطيني تستمالك”.. خرجت كلماته كقذائف الحلفاء على السانية أثناء الحرب العالمية الثانية.. لم يمت أيٌّ من سكان السانية، لكنها كادت أن تميت حليمة في تلك اللحظات.. رأت طاقية الحاج حسن تمتد إليها من خلف الباب، فتراجعت ثم توارت وهي تمسك “بتستمالها” خشية هربه.. بكت في تلك الليلة وقد اجتاحها حرج وندم.. وانتظرت حضور سلفتها حتى الصباح وكانت متأكدة من حضورها، ما أن دخلت ورأتها حتى زغردت واحتضنتها.. وهكذا تزوجت زينب قبل خديجة ببوزيد.

ابتعدت زينب كثيرًا وسكنت في سانية بضاحية “الساحل”، احتفل أهل زوجها بمجيء ابنة المدينة احتفالا بطريقتهم، ومن يومه الأول معها كان بوزيد رجلاً محباً كريماً حنوناً.. رغم بعد المسافة حملها كلما طلبت إلى سانية الظهرة، تأتيها خديجة لتنصت إليها وإلى حكاياها.. “بوزيد راجل باهي يا خديجة.. عقباليك”.. تعود زينب إلى الساحل من حيث أتت، وتترك خديجة تحلم بتفاصيل زينب.

(6) زواج خديجة

كان محمد مدرساً بمدرسة الظهرة، يدرّس أشقاء خديجة، حين طرق باب الحاج حسن وطلب يدها.. انتقلت إلى بيت زوجها القريب في محلة الظهرة لتقطن مع والديه وشقيقاته. كان محمد وحيد أبويه، متعلماً، أنيقاً، قصيرَ القامة، عيناه خضروان، وبصلعة خفيفة تمددت مع الزمن. تكررت القصة وأحب كلاهما الآخر وعاشا مثل زينب وبوزيد قصة حب عاصفة ملؤها الاحترام والحنان.. لكن زينب كانت تنجب كل عام لبوزيد، وخديجة عصية لا تنجب.

لم تطق خديجة وخز النظرات كلما خرجت من عتبة دارها، كانت أم زوجها وشقيقاته يركزن عيونهن على بطنها التي لم تنتفخ أبداً، بل بدا لها وهي تنظر إليها بأنها قد غارت كمقلتيها، هزلت خديجة ووهنت، وبهتت ملامحها كلوحة قديمة نسيت على الحائط ولم يعد أحد يعِرها اهتماماً.. شعرت بأن قوة المرأة في ذلك الجزء من جسدها الذي يجب أن ينتفخ وينكمش ثم ينتفخ مجدداً وهكذا دواليك، وفي كل مرة تنتفخ بطن المرأة يينع وجهها، ويزداد شعرها كثافة، وتزداد غنجاً ودلالاً على زوجها، وتخف حركتها، وتمتد على فراشها وتحتضن وسادتها متى أرادت، ولها أن تتهرب من شغل البيت وأعبائه، تمسح على بطنها بين الفينة والأخرى وتبتسم حين يركلها طفلها، وتجهز نفسها لحضوره، بسلّة من السعف تمتلئ بالفساتين المطرزة بأحد اللونين وردي أو سماوي حسب جنس المتوقع حضوره، وإن كان السّماوي هو الغالب إمعانا في استغلال تلك الفترة إلى منتهاها.. ولما عجزت خديجة على أن تُفرح زوجها وأن يفلت من باب حجرتها صراخ طفل يدغدغ الساكنين، أو أن يمسك بتلابيبها وهي تتمشى وسط الدار، أو أن ينطق بببببب، وأن يُغنى لخطواته “ديدش حب الرمان”، قررت أن تلم ثيابها في الصندوق الخشبي الذي جاءت به إلى بيت أهل زوجها، وأن تترك خلفها كل شيء صنعته بيديها الماهرتين، بما في ذلك رائحة الطبيخ الذي لم يعرف ذاك البيت عذوبته ولا رائحته قبل قدومها. انتصبت في الحجرة ما أن عاد من المدرسة، وضعت فراشيتها وهي تغالب دموعها، وتقول “على سلامتك.. ارفعني لحوش بوي”. كان الصندوق إلى جوارها، دفعته بقدمها حتى أخرجته من باب الحجرة، كان والداه يجلسان وقد أطبق عليهما صمت رهيب وهما يريان الصندوق، تظاهرا بعدم رؤيته. لم يودعاها، إلا شقيقته الصغرى سمعت خديجة شهيقها وهي تغادر بيت زوجها إلى غير عودة.

تحررت خديجة من كل الوخزات واستبدلتها بوخزات من نوع آخر لا تؤثر فيها، كانت وخزات إبر الخياطة. تفننت خديجة في الخياطة، واشترى لها والدها الحاج حسن آلة من نوع سنجر من وكيل الدار مباشرة. كانت بنية اللون، لامعة، لها باب خشبي به أدراج تخزن فيها عدة الخياطة، وتحركها دواسة مطاطية تضغط عليها خديجة بقدميها فتتحرك الآلة من أعلى وتسقط الإبر على القماش.. كان يرتسم على ظفر إبهام خديجة شق خفيف، تتفاخر به أمام بنات عمها وتقول “أني صاحبة صنعة”. وخزات الإبر غير مؤلمة كوخزات أهل زوجها سواء كانت نظرات أو كلمات.. تعايشت مع الإبر ووخزاتها ولم تستطع أن تتعايش معهم.

(7) التكاثر والوحدة

أنجبت زينب صِبية وصبيات، ولم تعاود خديجة الكرة ولم تتزوج، كانت زينب تقطر حنانًا كقطرات العسل يلعقه أبناؤها من ثدييها، ويديها وشفتيها. تحلق حول خديجة أولاد أشقائها وشقيقاتها، فتحت شقتها للجميع، وخدمت الجميع، كانت عجلة ماكينتها تدور أغلب النهار، وهي منكبة عليها تفصّل وتخيط لهم الملابس قبل قدومهم، وعند قدومهم، وحتى دخولهم المدرسة، “القرمبوليات يا خديجة.. المدرسة قريب”. كان الرابط بينها وبين الصغار ماكينتها التي تبدو لهم صندوقاً سحرياً يصنع الملابس الجديدة الأنيقة ويشعل مشاعر الفرح والغبطة.

سكنت ابنة أحد أشقائها معها، وارتبطت بها، كانت تنام إلى جوارها، وتشاركها اللقمة.. التصقت بها حتى ظن كثيرون أنها من نسلها.. حملتا اللقب ذاته، وشاركت عمتها طقوسها.. كانت تلعب ببكرات الخيوط إلى جوارها، تخزن الحكايا والمواقف، حكت لها عن “السانية” وعن “محمد” وعن الحب الذي ذاقته ولن تذوق بعده.. وتردد أغنية شادية ” القلب يحب مرة ما يحبش مرتين” في كل مرة يأتي من يطلب يدها وكانوا كثر.

أحب أولاد زينب خديجة وعدّوها بمثابة الخالة. كانوا ينادونها “خالتي”.. فخامة الخاء والاتكاء عليها بلكنة أهل طرابلس تعطي دفقاً من الحب، كلمات مجردة تحمل زخماً من المشاعر في مدينة تختبئ فيها المشاعر كما تختبئ فيها النساء.. كلتاهما كانتا تحبان السفر، كانت وجهة زينب مع زوجها في أغلبها للدول العربية، كثيرة رحلاتها إلى الحج والعمرة.. كانت تتفاخر وهي تقول “أنا قدّست”، زارت القدس والمسجد الأقصى، حيث قلة من الليبيين سنحت لهم الفرصة. لكن وجهات خديجة كانت مختلفة، زارت باريس ولندن وروما ونيويورك وأتاوا… كان الحج بحاجة إلى رجل، وكان عليها أن تقف لخالها وتغلق ستارة ردائها وتخبئ وجهها وتغمغم ” أرفعني معاك الحج يا خالي..” وتحقق لها ذلك، ثم لحقتها بعمرة مع ابن شقيقها.. تردد “الحمد لله حج وعمرة” وهي تقبل كف يدها. ورغم سفرها لدول عدة، إلا أنها أحبت تونس بشكل خاص، مواظبة على سماع إذاعة “صفاقس” من راديو ترانزستور يصحبها في حركتها داخل شقتها. “رفعني بوي بعد طلقتي لتونس في السيارة، باش مانتغششش”.

كل عام يمتلئ بيت زينب بالأحفاد، في حين يفرغ  بيت خديجة شيئا فشيئا، حتى ظلت وحيدة بعد أن فارقتها أمها، تاركة لها شقة واسعة في قلب المدينة… “الحمد لله حوشي ست ديار وزوز حمّامات وثلاث فيراندات”… كانت لخديجة طقوس منعت عنها تسلل الوحدة.. الراديو وماكينة الخياطة وأخوتها وأخواتها وأولادهم والجيران والأهم خروجها كل صباح لتشتري خضارها وفاكهتها وخبزها. تنظم أوقاتها فلا وقت لها لكي تغشاها الوحدة، إلا في الليل.. ينقبض قلبها وتهاجمها ذكرياتها.. ويعتصر قلبها فراق أحبتها.. تبتهل لله وتدعوه وتنام.

رغم اختلاف الظروف، ظلت خديجة وزينب على علاقة وطيدة… انتقل حب زينب لخديجة ليس لأبنائها فحسب بل امتد لأحفادها… “خالتي… خالتي خديجة.. ما قنينها”.. تسمع خديجة كلمات الإطراء والإعجاب والحب.. فماتزال تهتمان بمظهرهما الأنيق، لم يتغير فيهما إلا وضعهما لنظارات طبية، وآثار العمر على وجهيهما، وثقل الحركة… عدا ذلك ظلت ابتسامتاهما وخطا شفتيهما المتشابهان على حالهما.. وظلت الضحكة المجلجلة.. والكلمة الأنيقة، و”خزرة” العين الضاحكة.. وحب الحياة… كما ظل الحلم ينسج بينهما حكايا لمستقبل يوشك أن ينتهي.. “خديجة.. الجمعة الجاية تجي معانا الحوازة…”.. كان أمنيتهما وهما صغيرتان أن تلتقيا في الهواء الطلق، وقد تحققت حين بلغتا ثمانينات العمر.. تلتقيان كل جمعة.. تجلسان وسط حشد من الأبناء والأحفاد والأقارب.. تأتي خديجة بحفيدة شقيقها معها.. تدفع بها إلى أحضان العائلة الوارفة، وتوصيها.. “هذه عيلتك.. وناسك وأحبابك.. هذه عمتك زينب وهذوا أولادها وصغارهم”… تهز الصغيرة رأسها وتلعب بينهم.. وللحلم نهاية.

(8) الرحيل

غادرت زينب أولاً.. وهنت أطرافها، كانت كالوردة العربية البنفسجية رغم مضي العمر رائحتها زكية حتى بعد ضمورها، كالنجمة تخلف ضوءًا حتى بعد أفولها، كعرجون الفل الذي تعلقه الصدّارات على حاشية “التستمال”، كزهور الياسمين التي تضعها الأمهات تحت مخداتهن. يوم دفنها تحلق حول جثمانها أولادها وأحفادها.. حملوا نعشها بينما وقفت خديجة بينهم تردد ما تيسر من السور .. تضع يداً على كفنها وبالأخرى تكفكف دمعها.

لم تكن الوحدة تعني لخديجة شيئا وهي التي حرمت من نسل يؤنسها، فقد كانت دومًا ملكة تتجمع حولها جماهير من العائلة والجيران والأصدقاء.. متعددة المواهب، ذكية ولماحة، التحقت ببرنامج محو الأمية وفكت طلاسم الحروف، وتعلمت كلمات إيطالية من جارتها، واقتنصت من اللغة الإنجليزية ما أعانها على الترحال، وخاضت في السياسة من خلال مذياعها الذي لا يفارقها.. لبقة الحديث وتعرف متى تلجم لسانها… لم يكن للوحدة من شأن بالنسبة إليها، إلا حينما غادرتها زينب.. حينها توقفت عن الحلم الذي لم يكن إلا معها.. وعندما توقفت المشاهد، لفها صمت عميق واعتصرت الذاكرة حتى آخر قطرة، فلم تعد تدري من الوجوه أحدًا… “خالتي.. أنا نجاة بنت زينب” تبتسم خديجة وتردد” زينب أيه زينب”.

غادرت خديجة بعد عام… أصبحت وحيدة بغياب زينب رغم المحيطين بها والراعين لها… فقدت خديجة القدرة على الحلم والضحك والاتكاء على زينب.. وكما تبعتها نحو الحياة…لحقت بها ورحلت سريعاً.

_______________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

حكاية الصادق النيهوم

رضوان أبوشويشة

القايلة

عائشة إبراهيم

نفحَاتِ البوحِ المٌباح.. هارموني

محمد الزنتاني

اترك تعليق