من أعمال التشكيلية سعاد اللبة
تراث

حِسَابُ الأَيَّامِ فِي غِيَابِ الأَحِبَّةِ – 2/1

من أعمال التشكيلية سعاد اللبة
من أعمال التشكيلية سعاد اللبة

لِلشُّعَرَاءِ مَذَاهِبُ عِدَّةٌ فِي حِسَابِ أَيَّامِ بُعْدِهِم عَنِ الأَحَبَّةِ بِأَشْهُرٍ وَسَنَوَاتٍ، وَلهم في هذا الشَّأْنِ حِسَابَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ؛ يؤكِّدُ العَالمُ الفيلسوفُ (إينشتاين) في نظريتِهِ (النِّسْبيَّةِ) الَّتِي احتارَ النَّاسُ في فهمِ أبعادِها ومراميها، حَتَّى أَنَّ طُلاَّبَهُ في الجَامِعَةِ طَلَبُوا مِنْهُ مُلَخَّصًا يُوَضِّحُ أَبْعَادَ النَّظَرِيَّةِ، فَقَالَ: ” حينَ تكونُ في مجلسِ من تُحِبُّ تمضي السَّاعَةُ كَأَنَّهَا لحظةٌ، وحينَ تكونُ في مجلسٍ تمضي الدَّقيقةُ كأنَّها ساعةٌ ” وعَلَى هذا القِيَاسِ فإنَّ الشُّعَرَاءَ العشَّاقَ تَتَضَاعَفُ عندهم هَذِهِ المقَاييسِ بناءً عَلَى درجةِ عشقِهِم وشوقِهِم لأحبَّتِهِم، فَهَذَا الْعَاشِقُ يَرَى أَنَّ الأيَّامَ بَعْدَ فِرَاقِ مَحْبُوبِهِ قَدْ أَضَحَتْ طَوِيلَةً طَوِيلَةً؛ فَالْيُومُ – عِنْدَهُ – يَعْدِلُ عَامِينِ كَامِلِينِ:

العين في زمان الموح تمَّا حْسابْ عامين يومها.

أمَّا الغنَّاي المرحوم عبد الكافي البرعصي يرى أَنَّ غيَابَهُ عن محبوبِهِ هو بمثَابَةِ عامٍ كاملٍ وربَّما أكثرَ من ذلكَ:

علي عزيز غيبةْ يَومْ بْحساب عام إن كان ما أكثر.

وهذا الغَنَّاي لِشِدَّةِ اِشْتِيَاقِهِ لِحَبِيبِهِ إِنْ غَابَ نَهَارًا ظَنَّ أَنَّهُ شَهْرٌ:

انرايف علي لولاف نبعد نهار نحساب لي شهر.

بينما لا يصبرُ هذا عَلَى الغِيَابِ عن مَعْشُوقِهِ ولو يومًا واحدًا:

ما بعدي لا دوني بلا عزيز لو يوم نصبره.

وفي رَجَاءِ عَوْدَةِ المحبوبِ يُصَرِّحُ صَاحِبُ هَذِهِ الغنَّاوةِ بقدرتِهِ عَلَى الانتظَارِ عَامينِ كَامِلينِ وفاءً لوعدٍ قَطَعَهُ مَعَ حَبِيبِهِ:

العين من فراق عزيز تمَّا حْساب عامين يومها.

وطولُ مدَّةِ الانتظارِ لا تعني شيئًا للحبيبِ الصَّدُوقِ حَتَّى لو كانت سنينَ طويلةَ كما يُظْهِرُ صَاحِبُ هَذِهِ الغنَّاوةِ زاعِمًا أَنَّ سَنَوَاتِ الانْتِظَارِ (الشَّقَاءِ) مَضَينَ سِرَاعًا كَأَنَّهُنَّ يَوْمَيْنِ فَقَطْ:

اشقيت في غلاك سْنين مشن حْساب يومين يا غني.

أَمَّا صَاحِبُ هَذِهِ الغنَّاوةِ الْمَأْثُورَةِ فَيَعِدُ حَبِيبَهُ بِانْتِظَارِهِ عَامَيَنِ كَامِلَيْنِ وَفَاءً لَهُ، وَسَيَعُدُّهُمَا يَوْمًا وَاحِدًا:

نرجاك عام فوق العام بْحساب يوم في شان الوفاء.

ويعودُ المرحومُ عبد الكافي البرعصي يضربُ رقمًا قياسيًّا يدخلِهُ لموسُوعةِ غينس للأرقامِ القياسيَّةِ بِإِعلانِهِ عن قدرَةٍ عجيبَةٍ عَلَى انتظارِ المحبوبِ مدَّةً تصلُ لمئةٍ وستةٍ وأربعينَ عامًا:

نرجاك عام فوق العام وطناش ضرب في روحه رجاء.

أَمَّا الشَّاعِرُ المرحومُ حمد أبوبكر اهليِّل فيختصِرُ العامَ في شهرٍ واحدٍ؛ ويرى أَنَّ ثمَّةَ نساءً لِرَوْعَتِهِنَّ، وَطِيبَةِ مَعْشَرِهِنَّ يمضي العَامُ مَعَهُنَّ سَرِيعًا لَكَأنَّهُ شَهْرٌ وَاحِدٌ:

لْقيت مِ النَّسَاء وحدات مْعاك عامهن كيف الشهرْ.

ويرى صَاحِبُ هَذِهِ الغنَّاوةِ أَنَّ عينَهُ في غيَابِ أَحبَّتِهِ تمرُّ عليها السَّاعَةُ الواحدَةُ بِحِسَابِ عَامِينِ مُكْتَمِلِينِ:

العينْ في غْيابْ عزيزْ السَّاعةْ بْعامين عندها.

ويَشْعُرُ هَذَا الْغَنَّاي الْعَاشِقُ بِالْمَلَلِ الشَّدِيدِ إِنْ غَابَ يَوْمًا وَاحِدًا عَنْ دِيَارِ الأَحِبَّةِ:

عليْ دْيَارهم لولاف غِيَاب يومْ ونقولوا مَلَل.

والغنَّاي محمَّد البزاري يرى أن قضاءَ دقائقَ مَعَ محبوبِهِ يمكنُهَا أن تطردَ سنينَ الشَّقَاءِ:

دقايق مْعَ لولاف سْنين الشَّقَا طَارَدَتَّا.

وَصَاحِبُ هَذِهِ الْغنَّاوَةِ المأثورةِ يُعْلِنُ أَنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لانْتِظَارِ أَحِبَّتِهِ اثني عشرَ عامًا، وكأنَّها يومٌ واحدٌ وفاءً لهم، وتنفيذًا لِلْعَهْدِ الَّذِي قَطَعَهُ عَلَى نفسِهِ مَعَ أَحَبَّتِهِ:

نرجاهم اطناشر عامْ بْحسابْ يومْ في شانْ الوفاء .

فَأَيُّ وفاءٍ أُسْطُورِيٍّ تَفِيضُ بِهِ نُفُوسُ هَؤْلاءِ العُشَّاقِ المهُووسِينَ بِعِشْقِ أَحِبَّتِهِم، وَأَيُّ حُبٍّ تجودُ بهِ قلوبُهُمُ المسْكُونَةُ بِالْوَجْدِ وَاللَّهَفِ وَالأَشْوَاقِ ..!؟

وفي مُحَاضَرتِهِ المعنونَةِ بـ ( أدبُنَا الشَّعْبِيُّ، أَصَالتُهُ وبلاغتُهُ ) سَاقَ الباحثُ المرحومُ الدكتور علي السَّاحلي؛ جُملَةً من المقارناتِ الطَّريفَةِ حولَ تَوَافُقِ المعاني الَّتِي يتناولُهَا الشِّعْرُ الْعَرَبِيُّ الفصيحُ وَشِعْرُنَا الشَّعْبِيُّ، ومنها قياسُ يومٍ من أيامِ فراقِ الحبيبِ بعامٍ أو أكثرَ، مُبَالَغَةً في شَدَّةِ الْوَجْدِ والتَّلَهُّفِ، قالَ القاضي الأرجَّاني:

يَوْمُ الْمُتَيَّمِ فِيكَ حَوْلٌ كَامِلٌ ** يَتَعَاقَبُ الفصلانِ فيهِ إذا أتى 
ما بَيْنَ حَرِّ جَوًى وَمَاءِ مَدَامِعٍ ** إِنْ حَنَّ صَافَ وَإِنْ بَكَى وَجْدًا شَتَا

من قَصِيدَةٍ مَطْلَعُهَا:

يا مُعْرِضًا قَدْ آنَ أِنْ تَتَلَفَّتَا ** تَعْذِيبُ قَلْبِ الْمُسْتَهَامِ إِلَى مَتَى ..!؟

وللشِّاعِرِ المرحومِ محمَّد المهدي من قصيدتِهِ ( تحت المطر ) :

” ونختزلُ العمرَ في ساعةٍ

لا نحسُّ بها

إذ تمرّْ

فكم من لقاءٍ قصيرٍ

دقائقه الرَّائعاتُ

تساوي جميعَ سنيِّ العمرْ …”

وَالشَّاعِرُ الشَّعْبِيُّ يحسبُ أَيْضًا أَيَّامَ بِعَادِ الحَبِيبِ غَيٍرَ مَا يَحْسُبُهُ البَشَرُ الآخَرُونَ؛ يَقُولُ الشَّاعِرُ الشَّعْبِيُّ الشَّيْخُ حُسِينُ الْحِلافِي:

العينْ في زمَان المَوْحْ تَمَّا حْسَابْ يومينْ يومْهَا.

وَذَلِكَ مِنْ قَصِيدَةٍ من نَوْعِ ( الْمُخَمَّسِ ) يَبَدَأُ مَطْلَعُهَا بِغَنَّاوةِ علمٍ تَقُولُ:

تْقُولْ في الغطَاءْ مكتوبْ، يَخْطِرْ عزيزْ سَاعَاتْ نومْهَا.

لها يَصَوَّرْ .. نظيفْ العضا مول الجبينْ مْدوَّرْ

ناره زَرَتْ عَ العقلْ نينْ تعوَّرْ ..

والنَّارْ يا عزيز عذابْ، إن جارت الله لا يْدومها.

يْهفّ عليها .. مول الحداجة لا ورا سافيها

لا تْذوق قوت ولا النَّوْم ايْجيها

واللِّي مِ الغلا مليوع، العين ع البكا ما يْلومها

يخطر زوله مول الحداجة لا ورا مجدولة

من طول موحها تمَّت تْموج ملوله

والعين في زمان الموح تمَّا حساب عامين يومها.

____________________________

* من مخطوط (مُوَازَنَاتٌ بَيْنَ شِعْرَي الْفُصْحَى وَالْعَامِّيَّةِ) للكاتب.

مقالات ذات علاقة

«عزوزة القايلة» تمنع خروج أطفال ليبيا ظهرًا

أسماء بن سعيد

عــيط وصـرّخ ياحـفــيدى

المشرف العام

نقطة ضعف للشَّاعِرَةِ بدريَّة الأشهب (1 / 2)

جمعة الفاخري

اترك تعليق