حوارات

حوار في السياسة والثقافة.. لا بل في الثقافة والسياسة لا بل فيهما معا مع الشاعر والكاتب سالم العوكلي

حوار في السياسة والثقافة.. لا بل في الثقافة والسياسة

لا بل فيهما معا مع الشاعر والكاتب سالم العوكلي

 

حاوره: هشام عبد الحميد الشلوي

 الشاعر: سالم العوكلي

شاعر وكاتب وصاحب نشاط بارز في المجتمع المدني،إذ هو أمين اللجنة الشعبية لجمعية بيت درنه الثقافي.لا أكاد أتفق معه كثيرا، لكنني أجد فيه _وكذا كل من عرفه_ نعم الصديق. عادة لا تأنس العامة لمن خالفها في الرأي، وحتى كثير من المثقفين،إلا أن العوكلي لا تملك إلا أن تحترمه إن لم تحبه، لهذا اللقاء قصة، فقد أعددت هذا اللقاء منذ سنة وأكثر تقريبا، أراجعه بين الحين والآخر، فيقول لي مازال! لم أفهم لماذا، إلا أنها طبيعته، وعليك أن تقبله هكذا.، يحمل ليبيا بين حناياه، يجوب بها البلدان شاعرا وكاتبا، حمل معه قريته إلى المدينة،ويحملهما معا إلى فضاءات الشعر.آمن بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان،فالتزم بهذه المقولات فكرا، كتابة، وسلوكا.أيضا يُعد العوكلي من الكتاب القلائل المؤثرين في الحراك الثقافي في ليبيا، كتب ذات مرة مقالا تناول فيه بالنقد قرار اللجنة الشعبية العامة رقم 312 لسنة 2009م بشأن تنظيم إقامة المنتديات والفاعليات تحت عنوان البغددة،فقامت اللجنة الشعبية العامة بإصدار تفسير لقرارها استبعدت فيه الأنشطة الثقافية من هذا القرار. ذات مرة كتب في الملحق الثقافي لصحيفة الجماهيرية مقالا عاب فيه عدم وصول صحف الدولة لمدينة درنه، بعدها بأيام قلائل وصلت صحف الدولة لمدينة درنه. كتب مقالا بعنوان الفولكس الزرقاء.. دعوة للتصالح مع الذاكرة، قد يكون من المصادفة بعدها تصالحت ليبيا ولو جزئيا مع العائلة السنوسية، الملكة فاطمة رحمها الله مثالا. فإلى العوكلي.

ـ أعلم وعلى الصعيد الشخصي أنك من المتضررين إبان حقبة المد الثوري في ثمانينات القرن العشرين، وذلك بأن مُنعت من إكمال الدراسات العليا بطريقة غير مباشرة، كما مُنعت من الحصول على كشف الدرجات الخاص بك، رُغم تفوقك في قسم التربة والمياه التابع لجامعة قاريونس في تلك الفترة. لخص لنا تلك الفترة. وكيف تداخل السياسي مع العلمي وأفضى بالاثنين إلى التخبط ؟

ـ تحدثت وكتبت عن هذا الأمر أكثر من مرة، ولم يكن الموضوع شخصياً بقدر ما شكل ظاهرة خطيرة فيما يخص الإقصاء وتغليب الولاء “المزيف” على الكفاءة، وفي المحصلة هو حالة من الظلم الكبير التي مازلنا نعاني من تداعياتها، وسأجيب هنا بأكثر تفصيل منتهزاً الفرصة للرد على من اعتبروا هذا العنف ضرورياً وان الثورة مازالت في بدايتها ويترصدها الأعداء وغير ذلك من التبريرات التي لا تمت للحقيقة بصلة.

بدأ الأمر في صباح يوم الأحد 11/4/ 1982  حيث كان ذلك اليوم هو موعد انتخابنا لرؤساء الأقسام في كلية الزراعة بالبيضاء، حضرنا في الصباح الباكر، وكل شيء كعادته سوى أن المكان يضج بوجوه غريبة لا نعرفها يتنقلون من مكان إلى مكان، ولأنه عادة ما تجئ إلى الجامعة وفود طلابية اعتبرنا في البداية الأمر هكذا.. كنت جالسا على حافة الرصيف مع بعض الأصدقاء أمام مبنى كلية الزراعة، حين مر مجموعة من الشباب الغرباء وقال أحدهم : أين أبطال الزراعة ؟ وكان يجلس في مكان قربنا مجموعة من الطلاب، رفع أحدهم يده، فانعطفوا باتجاهه وبدأوا في ضربه بعنف هو ورفيقيه، ثم التف عليهم حشد كبير وبدأت الدماء تنفجر من كل جزء فيهم، ثم أخذوا في جرهم على الإسفلت حتى وصلت سيارة شحن صغيرة وألقوا بهم في صندوقها مثل الجثث وانطلقت بهم خارج الجامعة، كان الموقف بالنسبة لنا مربكاً ومرعباً ولم نفهم شيئاً، وعندما التقيت بالطالب الذي رفع يده وهو فرج بوحوش البابا وسألته لماذا، قال أنا سمعتهم يقولون أين طلاب الزراعة فرفعت يدي لأساعدهم باعتبارهم ليسوا من الجامعة، ولا أعرف ماذا حصل حتى أغمي علي وصحوت في معسكر بشحات ذقنا فيه كل ويلات التعذيب.

انتقلنا بعد هذه الحادثة إلى المدرج العام للجامعة بالمكتبة المركزية حيث من المفترض أن نقوم بتصعيد رؤساء الأقسام، لكن جيشاً دخل علينا المدرج وهم يهتفون بالسابع من إبريل الذي احتفلت به الجامعة برمتها منذ أربعة أيام دون مشاكل، ومع الهتاف بدءوا في ضرب عشوائي للطلاب والطالبات وأساتذة الجامعة، ومن لا يهتف يتم حمله بقوة إلى غرفة مجاورة ليأتي مغطى بالدم وهو يهتف، ضرب الدكتور عبدالله لعيرج عميد كلية الزراعة بجانبي وهو أحد أهم الكفاءات العلمية والإدارية بالجامعة والذي جعل من كلية الزراعة كلية نموذجية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، كما ضرب أمامي داخل المدرج الدكتور عبد المولى الحرير.

خرجنا بعد ذلك في مسيرة تغطيها الدماء إلى ساحات الجامعة، وكان الضرب في كل مكان، طالبات يجرجرن على الرصيف وطلاب يضربون دون هوادة، ومسدسات في كل مكان تلوح تحت السترات والقمصان، رأيت الطالب محمد الإسكندراني وهو يجر على الرصيف من لحيته، وهو طالب معاق وفقير إلى أبعد حد لا حلم له إلا أن يحصل على شهادة ليعيل عائلته.

بعدها تم سوقنا كالقطيع إلى مبنى كلية الزراعة، وكان معلقاً بصالة المدخل قائمة بإثني عشر اسماً وهم الطلاب المتفوقون على أقسام الكلية في إعلان عن بعثهم في الصيف في دورة تتبع منظمة الفاو وكنت من بينهم عن قسم التربة والمياه، وقام أحدهم بتمزيق تلك القائمة، ثم دعينا نحن الاثني عشر إلى غرفة في الطابق الثاني، ووضعنا في محكمة فورية، وسمعنا كل الكلمات النابية والمذلة، رجعيون حمير حثالة المجتمع ونعوت أخرى لا أستطيع كتابتها، وكان المتحدث الأساسي سعد الدين بن عامر وسط حصار من مجموعة تومض المسدسات في ثنايا ملابسهم، وفي اليوم التالي علقت قائمة جديدة لطلاب من آخر القائمة العلمية وبعضهم قريب من الفصل من الكلية بسبب نتائجهم السيئة، وكانوا هم مجموعة المثابة الذين لا يحضرون إلى المحاضرات ولا إلى المعامل، وذهبوا جميعاً لتمثيل ليبيا في منظمة الفاو.

حرمنا جراء ذلك من الدراسات العليا ومنعنا من الحصول على كشف الدرجات، وتحولت الجامعة إلى مؤسسة بائسة يديرها الطلاب الفاشلون علمياً ويفرضون شروطهم على الإداريين وعلى الأساتذة الأجانب خصوصاً.. نقلت كلية التربية من البيضاء إلى بنغازي ومن ثم نقلت بعض الكليات من جامعة قاريونس إلى معسكرات من طبرق إلى المرج تحيطها الأسلاك الشائكة وينقل إليها الأساتذة بطائرات الهليكوبتر.. أحببت سرد جزء من التفاصيل كرد على الأكاذيب التي سمعتها من بعض دعاة الثورية الذين يبررون لهذا العنف المجاني، الذي في حصيلته عزل الناس الذين استقبلوا الثورة في بدايتها بحماس عن ثورتهم وعن وطنهم.. لم تكن في جامعة البيضاء لا قوى سياسية ولا أحزاب ولا تظاهرات.. طلاب يعقدون مؤتمرهم الطلابي دورياً ويحتفلون كل عام بالأعياد الوطنية ويدرسون باجتهاد في كليتين عرف عنهما الالتزام الأكاديمي والأداء العلمي المميز، والمسألة باختصار أن بعض الطلاب المتأخرين علمياً والمهددين بالفصل قدموا مذكرة إلى مكتب الاتصال باللجان الثورية تقول أن جامعة البيضاء تشكل وكراً للرجعيين وهي وشاية كاذبة لأنني كنت شاهداً على هذه المرحلة ومحتكاً بالنشاط الثقافي والنشاط الرياضي ومقيماً في القسم الداخلي ولم اسمع بأي حوار له علاقة بالسياسة، حيث كنا نتقاضى منحة شهرية مجزية وتتوفر مراجع رخيصة، ونتمتع بخدمات إقامة معقولة وبنظام مواصلات مرتب وبأداء علمي وإداري على مستوى عالٍ بفضل قيادة الدكتورين عبدالله لعيرج وشعيب المنصوري اللذين كانا لهما مشروع علمي وأكاديمي مميز يخططان له بعيداً عن أية صراعات أخرى. وفي الحصيلة نجحت هذه الوشاية وتحكم الطلاب الفاشلون في الجامعة وانتدبوا فيما بعد إلى الدراسات العليا، معظهم فشل ولم يكمل ومن أكمل يشكل الآن مأساة التدريس في جامعاتنا. ومازلنا ندفع هذا الخلط بين الكفاءة وبين الولاء وأقول الولاء المزيف لأني أعرف معظمهم كانوا مجرد انتهازيين وأساءوا لأصدقائهم الطلاب وللثورة التي تشدقوا بها وللوطن الذي مازال يدفع ثمن تلك المغامرات.

– أنتم من المشاركين في مشروع ليبيا 2025 وذلك كعضو بالهيئة العلمية المكلفة بالعلوم والثقافة برئاسة الأستاذ الدكتور نجيب الحصادي، فما هو تحليلكم المبدئي عن مستقبل هذه الرؤية الأستشرافية؟

ـ عندما أُستدعي الدكتور محمود جبريل لتقلد منصب الأمانة العامة لمجلس التخطيط الوطني – وهو كفاءة وطنية نفتخر بها _ أراد أن ينجز في هذا المجال ما هو مقتنع به حتى وإن كان خارج سياق المنظومة الإدارية والتنفيذية في ليبيا، وهو رجل خبير في التخطيط الاستراتيجي وصناعة القرار ويبدو أنه كان يتحاشى أن يتحول إلى ترس في الآلة الإدارية المتخبطة، وتعتبر الرؤى الاستشرافية المستقبلية من أهم مناهج التخطيط الحديث الذي استعانت به مجتمعات يضرب الآن المثل بها في النمو الاقتصادي والتنموي مثل ماليزيا وسنغافورة وقطر والصين وغيرها، حيث أن تخطيطنا التقليدي يتمثل في كتابة خطط قطاعية منفصلة ليس لها علاقة بالواقع ولا تتبنى آليات الحدس المستقبلي، الرؤى الاستشرافية ترصد التجارب السابقة والواقع الراهن وأفق المستقبل عبر كتابة سيناريوهات مرنة تنطلق من طاقات المجتمع الكامنة وتحدس بتغيرات المستقبل المحلية والعالمية والأهم من ذلك إنها تشكل نسيجاً متداخلاً من القطاعات المختلفة التي يؤثر التخطيط في احدها على الآخر.

المهم تم التعاقد بين مجلس التخطيط الوطني ومركز بحوث جامعة قاريونس لإنجاز هذه الرؤية بكفاءات ليبية وطنية لها جهدها المميز في البحث والتحليل، ورأى القائمون على هذا المشروع ضرورة إقحام المثقفين الليبيين في صياغة هذه الرؤية، فتم الاستعانة بي وبالكاتب محمد الفقيه صالح في ما يخص قطاع العلوم والثقافة، كما تم استتكتاب ما لا يقل عن مائة باحث ومثقف في كل تفاصيل هذا المشروع، كما تم إجراء لقاءات متعددة مع المثقفين في بنغازي وطرابلس ودرنة في جلسات نقاش حول منطلقات وآليات هذا المشروع الجديد في الواقع على ثقافتنا التخطيطية، وكان لمتابعة الدكتور محمود جبريل ومشاركته في النقاش في أكثر من جلسة الدافع القوي لتحفيز هذا المشروع وتوضيح كل غامض فيه. أنجزت الرؤية الاستشرافية ونشرت، وتم وضعها في أيدي المتنفذين، وهنا يقف دور فريقها الذي سعدت بالعمل معهم واستفدت على المستوى الشخصي منهم الكثير، وبالتأكيد تحتاج مثل هذه الرؤى إلى ثوابت تشريعية وإدارية وإلى قاعدة اجتماعية عريضة ليتم تفعيلها في الواقع ضمن سياق من نقدها الدائم لأنها بطبيعتها مرنة وقابلة للتحوير في أي وقت حسب المستجدات دون أن تفقد زخم ما أنجزته سابقاً، وبالتالي من المفترض أن ينجز مكتب لإدارة ومتابعة هذه الرؤية، أو تفعيل السيناريو البديل في أية أزمة طارئة دون الرجوع إلى نقطة الصفر، وقد قرأت الكثير من التعليقات النقدية على هذه الرؤية كان بعضها إيجابياً ومهماً، والبعض مازال لا يفرق بين مفهوم الرؤية ومفهوم الخطة، باعتبار الرؤية الاستشرافية تشكل فضاءً استراتيجياً تصاغ من خلاله الخطط العملية الدورية.

ـ يتنازع الراهن السياسي الليبي موجتان من الأفكار السياسية، الأولى لا ترى أملا ولا سبيلا للخروج بليبيا مما هي فيه وعليه، وبالتالي لا تريد أن تشارك في أي عمل سياسي أو اجتماعي يغاير وجهة نظر النظام الرسمي تحت إطار المشروعية وإتباع سياسة فن الممكن. والثانية ترى ضرورة إتباع سياسة ملء الفراغات وضرورة المشاركة الفاعلة لا المنفعلة. من وجهة نظركم النظام الرسمي على من يراهن؟

ـ بالتأكيد يوجد مخاض في ليبيا وأتمنى أن لا يكون مخاضاً كاذباً، ولا أريد أن أحيل هذا المخاض إلى صراع مثنوي، بين ما يمكن أن نسميهم محافظين وإصلاحيين، ففي الواقع الأمور لم تصل إلى هذا النضج، هناك صراع مصالح، ثمة مصالح وطنية ومصالح شخصية يتم التداخل فيما بينها بشكل يشوش الرؤية، البعض يقول إن ما وصلنا إليه هو نهاية المطاف وليس في الإمكان أبدع مما كان، وأنا احترم هذا الرأي شرط أن يكون بعيداً عن الإقصاء والعنف، والبعض يرى أن المجتمع يعاني من مشاكل وأزمات كأي مجتمع آخر في حاجة إلى إصلاح الكثير من البنى، البعض يستمد شرعيته من مفهوم الثورة التي يجب أن لا تتوقف، والبعض يستمد حيويته من مفهوم الدولة التي يجب أن تكون المرحلة الطبيعية بعد الثورة، غير أنه في خضم هذا المخاض يجب أن لا نغيب المتغيرات العالمية، التي تتطلب منا أن نجعل لأقدامنا موقع في هذا العالم المتجدد والعصر سريع الوتيرة.

لكن يجب أن لا نغيب فئة ثالثة وهي الفئة المتشائمة والتي يسقطها التشاؤم في قعر العدمية، تلك التي خانتها الكثير من الوعود والتي تعتبر الحديث عن الدستور وحرية التعبير وغيرها ترفاً في خضم حاجات يومية ملحة، وهي تعكس ثقافة منتشرة لها أساسها الواقعي ولا يمكن تجاهلها، ولا يمكن بث الأمل فيها إلا بتغييرات حقيقية على أرض الواقع تتعلق بحقوقها وبحياتها اليومية ومستوى معيشتها. وفي النهاية ما يحدث من حراك حتى وإن كان على المستوى النظري مهم.

– كيف تداخل السياسي مع الثقافي، أي الأيدلوجية كيف ساعدت على تحنيط الثقافي وأودت به إلى التعثر، وهل ترون أن عملية الإحياء الثقافي يجب أن تكون بمنأى عن السياسي ؟

ـ من طبيعة السياسي خصوصاً إذا كان يحمل أيديولوجية من طبيعته أن يركز باهتمام كبير على الجانب الثقافي، ومعظم الأيديولوجيات في العالم كان جزء من أجندتها الثورة الثقافية، وكثير ما اتسمت الثورات الثقافية بالعنف، ومن هنا يحدث التصادم بين ثقافة تحاول أن تحمل رؤاها الخاصة، ورؤية سياسية لا بد أن تنظف الطريق كي تمضي، وهو صراع كثير ما انتصر فيه مؤقتا من يملك القوة والإمكانيات، لكن من المهم أن لا نعتبر ما يحدث في ليبيا وكأنه شيء يخصنا ‘ تاريخ الشعوب والثورات والثقافة يحمل كل هذه التفاعلات، والتي غالباً ما تفضي إلى عنف لا يمكن الخروج منه إلا بإرساء مبادئ ديمقراطية حقيقية، تجعل من مشاركة الجميع وتنوعهم أساس التفاعل المثمر للمضي قدماً، وهو أمر لا يتم في يوم وليلة لكن من المهم أن نكون على الطريق.

– كثير من الناس يتشككون في نوايا الإصلاحيين باعتبارهم الوجه الثالث لعملة النظام السياسي الرسمي. ما تعليقكم ؟

ـ أولاً من الموضوعي أن نعتبر إن رغبة الإصلاح في ليبيا ليست جديدة، وبالإمكان أن نقول إنها بدأت فعلياً في أواخر الثمانينات بعد عقد يعتبره الليبيون عقداً قاسياً.. لكن تلك الرغبة أجهضتها الصدامات القوية مع قوى الخارج، وما عقبها من حصار وتوترات، كان لا بد أن تنعكس على الداخل فأصبح كل من يتحدث عن هذه الأمور من الطابور الخامس.

من جانب آخر فإن الإصلاح في الواقع جاء كمطلب من النظام السياسي الرسمي نفسه، وغدا أمراً مجهورا به، ما أطلق الحديث بحرية عن مصطلحات كان الحديث عنها في فترة ما مرتبطاً بالخيانة، وتلقائياً تحول الدكتور سيف الإسلام إلى رأس حربة للإصلاح ورفع سقف مطالب النخب والشارع، وأصبح المظلة الوحيدة التي يستظل بها الإصلاحيون، وهذا أمر لا يمكن نكرانه أو التغاضي عنه، وكان دائماً هو المعبر عن رغبات النظام السياسي الرسمي بشكل غير مباشر، كما انه في الوقت نفسه معبراً عن رغبات الشارع الليبي، غير أن ثقافة التشاؤم ترى في كل ذلك لعبة باعتبار أنها لا ترى شيئاً مهماً على أرض الواقع، وهو رأي وإن كنت أختلف معه إلا أن له ما يبرره، وتغذيه هذه التصريحات المتناقضة بين القيادات العليا، وفي خضم كل ذلك على المثقف الحقيقي أن يجذر لهذه القيم التي يطالب بها وان يبتعد عن لغة الإلغاء والتعميمات وأن يدرك بموضوعية أن كل ما حدث ويحدث في ليبيا هو جزء من تاريخها وله مقوماته الاجتماعية والتاريخية والثقافية، وبهكذا وعي من الممكن بناء حوار حقيقي حول مستقبل ليبيا بعيداً عن المسائل الشخصية وتصفية الحسابات، وبعيداً عن الاتهامات المجانية التي تطلق على كل من يتحدث عن الإصلاح. ويجب أن لا نتحسس من مصطلح الإصلاح الذي أصبح الآن رغبة عالمية، ونحن نعرف أن برنامج أوباما كان شعاره الأساسي الإصلاح والتغيير، لأن هذا هو قدر المجتمعات الإنسانية في كل مكان وزمان والتي تسعى لضمان مستقبلها وتطوير أداءها.

– حرية الصحافة، المجتمع المدني، الدستور، حقوق الإنسان، الشفافية، الانتخابات. كلها مصطلحات جديدة تم تفعيلها  أخيرا داخل المجال التداولي الثقافي الليبي بعد المد الإصلاحي الجديد. فما هو مستقبل هذه المصطلحات في ظل الخمود والركود الذي استدام لأكثر من عقد؟

ـ هذه الاصطلاحات ليست جديدة لكنها مطالب أساسية ظهرت مع ظهور الكيان الليبي وإن كانت محصورة داخل النخبة الثقافية وبعض السياسيين المستنيرين، دفع البعض ثمن المطالبة بها مبكراً وصدرت قوانين تجرم بعض هذا المطالب أو تلتف عليها أو تفرغها من محتواها، لكن ما حصل أنه بعد طرح مشروع الديمقراطية المباشرة التي انطلقت من نظرية تؤمن بتجاوز مثل هذه الاصطلاحات، تحولت إلى مفاهيم رجعية بدل أن تكون تقدمية، وهنا حدث الارتباك الكبير لدى المطالبين بهذه الثوابت، ووضعت سياسة القفز عليها إمكانية أي حوار بشأنها في حقل الصدام المباشر، وغدت مثل هذه المفردات محرمة في لغتنا السياسية والفكرية باعتبار أن التداول معها يرجعنا إلى الخلف، ومن ثم كان يتم الحديث بشأنها بشكل موارب عبر مفردات أقل حساسية مثل الحوار والاختلاف والتعددية والمشاركة وغيرها، ووقعت لفترة في منطقة التجريد، ومع بداية التسعينات بدأ الحديث بشكل مباشر عن الدستور وقانون الصحافة والمجتمع المدني، حديث متقطع وخجول في بعض الأحيان، لكن هذه المفردات دخلت بشكل أو آخر إلى مجال التداولي في الحوار الثقافي والسياسي الليبي، إلى أن أصبحت مشروعاً رئيسياً لسيف الإسلام نفسه الذي يمثل ظلال الرأي الرسمي بشأن هذه المطالب بل وأضاف إليها خطوات إجرائية عبر الإعلان عن تأسيس المنابر ونشر الدستور وقانون المجتمع المدني في الصحف وتأسيس جمعية أهلية لحقوق الإنسان. ولكنها سرعان ما أجهضت بضغوط الحرس القديم.

 ـ طرح آلان تورين في كتابه نقد الحداثة سؤالا جوهريا ومهما، وهو كيف يكون لبلدان مستعمَرة أو مقهورة  ألا تحذر من عقلانية يطابقون بينها وبين القوة التي تقهرهم؟ كيف لا تضع تاريخها وثقافتها في مواجهة سلطة مهيمنة تتماهى مع الحداثة ومع العقل وتعتبر أن أشكال التنظيم والفكر الملائمة لمصالحها الخاصة أشكال كونية، فهل من حقنا أن نشك في نوايا الحداثة الغربية انطلاقا من سؤال آلان تورين؟

ـ هذا ما كنا نفعله طول سنين طويلة : محاسبة نوايا كل شيء جديد، وكأن الحداثة بدأت فورا وبقرار بعد أن اجتمع أقطابها ووضعوا برنامجهم ونواياهم لاكتساح العالم، الحداثة نتاج حراك تاريخي شاركت فيه كل الأمم، وأفرزت ضمن ما أفرزت منظومة قيمية تمثلت في الديمقراطية وحقوق الإنسان وتطوير مفهوم المواطنة وحرية التعبير، ومحاولة تقليص الخسائر الإنسانية للحروب، وغيرها، ولكن كثيرا ما نختزلها في كل ما يرتبط بوسواس قهري اسمه نظرية المؤامرة، العالم يحركه صراع مصالح ومن لم يستطع المشاركة في هذا الصراع سوف ينزوي على قارعة الطريق وهو يشكو من الاضطهاد والتآمر.. التاريخ يحث خطاه قدما ويلقي على الضفاف كل من لا يشارك في صنعه.

ـ ما رأيكم فيمن يقول أن العقل العربي أصبح منفعلا لا فاعلا  باجتراره للحداثة الغربية ونقل معركة الحداثة لا التحديث إلى أرض ذات خصوصية تاريخية ودينية؟

ـ مقولة عقل عربي وليدة هوسنا باختزال المفاهيم من أجل تسهيل البحث، ومرجعه كسل عقلي يميل إلى التعميمات المريحة، هناك عقول عربية أرتبطت بوحدة الثقافة واللغة، لكنها متغايرة زمانيا ومكانيا، كما أني لا أميل بتوصيف الحداثة كإفراز غربي وهو مفهوم أنتجه الغرب إبان توجهه الكولينالي، لكن مفكرو الغرب المابعد حداثيين إذا صحت التسمية يفندون هذا التوصيف عبر بحثهم العلمي في ثقافات العالم الآخر الثرية والخصبة والتي ألهمت حداثة الغرب في كل المجالات، لكن إرثهم الكولينالي هو الذي بث فيهم روح التعالي هذه، والغريب أننا انسقنا وراء هذا التوصيف وكأنه حقيقة تحت شعورنا القاهر بالاضطهاد والدونية. إن ما وصل إليه العالم اليوم من منجز حضاري بوجهيه، الخيّر والشرير، ساهمت فيه كل الحضارات على الأرض، أما الحداثة كأطروحة أدبية وجمالية كان من جوهر مرسلاتها التأكيد على الخصوصية والهوية ومبدأ التجاور كرد على نهج التراتبية والتعميمات الماقبل حداثية.

– سالم العوكلي.. هناك من يتهمكم كحداثيين عرب بأنكم عجزتم عن تطوير منظومة نقدية وفلسفية عربية تتمتع بخصوصية الزمان والمكان والتاريخ، وبالتالي ارتميتم وتقلبتم في أحضان الحداثة وما بعدها فأحدكم يصبح بنيويا ويمسي تفكيكيا (كمال أبو ديب وعبدالله الغذامي نموذجين) فما هو رأيكم؟

ـ صيغة السؤال بضمير المخاطب تربكني وكأني ساهمت في تطوير منظومة نقدية وفلسفية، أنا أفترض نفسي قارئا عاديا وللأسف بلغة واحدة، وهو أمر يحرجني أمام هذه الأسئلة الكبيرة، لكني أحاول أن أفكر معك أثناء هذا الحوار كشخص محسوب في هذه الأرض القاحلة على الثقافة.

ما يطرحه سؤالك أحكام غير مبرهنة ويمكن تفنيدها من خلال قراءة الكثير من الاجتهادات الفكرية في هذا المجال والتي تعي جيدا هذه الأزمة وقد أنجزت تراثا مهما في هذا الشأن خصوصا في المغرب، ولكن المناهج النقدية التي ذكرتها ما هي إلا أدوات لتحليل النص، مثلما يستخدم باحث جيولوجي أدوات مستعارة لدراسة طبقات أرض لدينا، وكل هذا الخوف من كل نتاجات الغرب مرده للفترات الاستعمارية التي أثقلت وجداننا بوحشية كل ما يأتي من هناك، عندما كان العرب أقوياء جلبوا الكثير من الثقافة والفكر اليوناني وغيره دون أي إحساس بالاستلاب، لكن ضعفنا الآن هو ما يجعلنا موتورين تجاه الآخر.

ومن جانب آخر يشكل هاجسنا تجاه ثقافة الغرب حالة تماه لا واعية مع هاجس السلطة السياسية التي تخاف من انتقال قيم حديثة تهز عروشها، فأصابتنا العدوى وانسقنا وراء هذا الحذر الذي بالتأكيد لا يعني المعرفة والثقافة كحقل للتبادل الإنساني والحضاري.

ـ هل ترون إمكانية التعلم من الآخر الثقافي دون فضيحة الالتحام به والتي قد تهدد بانمحاء الهوية الثقافية؟

ـ اعتقد أني حاولت مع هذا السؤال فيما سبق.. وأضيف بأن الهوية لم تهدد عندما كان هذا الآخر يحتلنا ويدير شؤوننا اليومية، ما بالك اليوم وهاجس الهوية يثار بشكل قوي مخدوما بثورة المعلومات والتقنية وبحلول المصالح محل الأيديولوجيا، وكل هوية لا تصمد فهي غير أصيلة وجديرة بالزوال.

– هل ترون أن تعبئة الماضي والتراث في خدمة المستقبل والحداثة فكرة مناهضة للعولمة حيث أنه هناك من يقول أن الغرب عندما يصدر لنا الكونية والعولمة فإنما يصدر في حقيقة الأمر قوميته هو وعقلانيته هو المرتبطة بمصالحه المباشرة وغير المباشرة؟

ـ أنا لا أحب كلمة تعبئة التي تبعث في الأكلان، لكن العولمة نفسها حاثة بشكل تلقائي على الاهتمام بالتراث ولو من منطلق اقتصادي سياحي، ومشكلتنا أننا نتعامل مع العولمة وكأنها حدث مفاجئ وجديد، ولكن ما أراه أنها كانت تتدرج عبر التاريخ وكثيرا من الأمم الهامشية الآن حاولت عبر التاريخ أن تعمم نموذجها على أكبر قدر من العالم، وفي الواقع هي آلية تشبه الانتشار الإسموزي في الكيمياء فالماء ينتقل تلقائيا من الوسط الأكثر تركيزا أو كثافة إلى الوسط الأقل، وهذا ما يحدث في الثقافة والمعرفة أو في أي شيء آخر، أما ما يخص التراث فما هو قابل للحياة يبقى. وما تيبس ستذروه الرياح.

ـ من يدفع أجر العازف، يختر اللحن، مثل إنجليزي كان شقه الأول جزء من دراسة للباحثة الإنجليزية فرانسيس ستونر سوندرز عن دور المخابرات الأمريكية والبريطانية في تمويل الأنشطة الثقافية في العالم. فهل ترون أن الحداثيين العرب كانوا وما زالوا يمثلون لحنا مختارا، وذلك عن طريق الاحتفاء بالإنتاج الثقافي الحداثي العربي في الغرب الأمريكي والأوروبي ترجمةً ونشراً ودعوةً لمؤتمرات وندوات وفاعليات ثقافية، خاصة إذا علمنا أنه في عام 1968م نشبت مظاهرات في الجامعات الأمريكية في أقسام اللغات تحديدا وذلك احتجاجا على دور المخابرات الأمريكية في تمويل تلك الأقسام عن طريق مؤسسات ثقافية حقيقية وموهومة؟

ـ كل ثقافة طامحة تستخدم كل الوسائل لتنتشر. إنه نزوع إنساني حتى على مستوى الأفراد.

وإذا صح أن المخابرات الغربية مولت أنشطة ثقافية فالسبب يرجع إلى الفراغ الذي سببه إهمال أنظمتنا الوطنية للثقافة والفن توجسا منها، وحين تُجوع الأنظمة شعوبها سيرفعون أعينهم لطائرات الهليكوبتر وهي تمطرهم بالطحين.. لكن أعود وأقول أنه نزوع غريزي فحتى نحن كدولة صغيرة حاولنا أن ننشر أفكارنا في أماكن بعيدة ودعمنا حركات في العالم التقت مصالحها بمصالحنا. ونحن الآن نكرم بعض من دعمناهم ونمنحهم الجوائز دون أن يتهموا في بلدانهم بالعمالة لدولة خارجية، ولكن تختلف الوسائل باختلاف أصحاب هذه الرغبة والدول المتخلفة ستصبح وسائلها متخلفة، الغريب أن أنظمة عربية تدعمها الولايات المتحدة بالمليارات سنويا تتهم مؤسسة أهلية صغيرة تدعمها جامعة أمريكية أو جمعية أهلية بقليل من الدراهم بالعمالة والخيانة.. شيء غريب ومضحك.

ـ ما رأيك في من يقول أن الحداثيين العرب أداروا ظهورهم بشكل أو بآخر لفن القص العربي كما جسدته رواية ألف ليلة وليلة والمقامات وفنون الفرجة العربية المختلفة من سير شعبية واحتفاليات وبابات خيال الظل، وذلك من أجل المغامرة بتجريب أنماط حداثية جديدة غريبة، وبالتالي ضاع الإبداع في نفق اجترار النماذج الحداثية وما بعد الحداثية الغربية؟

ـ ألف ليلة وليلة ألهمت السرد الغربي مثل غيرها من كتب التراث العربي، وهم كنتاج للحداثة يعتبرون كل تراث هو تراث إنساني ولا يحسون بأنه غريب عنهم، المشكلة لدينا نحن، مازلنا نخلط بين الثقافة والعسكر، وتدفع الثقافة ثمن ما يقترفه العسكر في حق العلاقات بين الشعوب، إننا ننظر بعين سياسية أو قل عسكرية لوجدان ثقافي إنساني، كما أن هذا التوجس المرضي ناتج عن خلطة غريبة تجمع بين شوفيتنا من ناحية تجاه العالم وإحساسنا في الوقت نفسه بالدونية، وهي خلطة عجيبة من شأنها أن تخلط بين الأمور فيختلط علينا كل شيء.

ـ أزمة الإنسان الحديث في الغرب لم تكن أزمة الشاعر الحداثي وحده، بل كانت أزمة الجماهير بعد حربيين مدمرتين، فكان الشاعر الحداثي الغربي يطمح من خلال التجريب والتغريب والغموض إلى أن يدفع الجماهير إلى مشاركته في البحث عن الصور المهمشة، أي التجريب، أي أن الشاعر الحداثي الغربي كان يبدأ من نقطة انطلاق ثورية مع قرائه. على عكس الحداثة العربية، حيث أن المطالبة بالتغيير بدأت على يد الزعامات الثورية مما أدى في نهاية المطاف إلى أنظمة ديكتاتورية. وهكذا بدأت الحداثة العربية تحالفها المبكر مع السلطة، حيث أنها أيضا طالبت أي الحداثة العربية بالتغيير الإجتماعي والأدبي، إلا أنها كانت معزولة عن الجماهير كما الأنظمة تماما بسبب أمية متفشية خلفتها وراءها عهود استعمار طويلة، أي أن الحداثة العربية جاءت معزولة منذ اليوم الأول. فما هو تعليقكم؟ وهل فقدت الحداثة العربية برءاتها الأولى إن كانت لها براءة؟

ـ ثمة حداثة واحدة في العالم تكتسب صبغة كل مجتمع تدخله، غير أنه رغم إسهامنا التاريخي في الحضارة فإننا طرف في معادلة الحداثة الراهنة كمستهلكين وهذا النزوع الاستهلاكي هو المبرر لهذه الاتهامات.. ثمة لدينا منجز ثقافي لا يستهان به غير أن هذا المنجز لم يتناغم مع نخب سياسية تؤمن بالحداثة في السياسة فصرنا كمن يسير برجل واحدة، وهذه حقيقة مرة، لأن الثقافي لدينا تجاوز السياسي بشكل كبير فتحول إلى ما يشبه الورم، عندما شاركت في مهرجان نواكشوط العالمي للشعر، كانت القصيدة التقليدية مهيمنة وما يحيط بها من ثقافة تقليدية، وقلت في مداخلة أن ما يميز موريتانيا هي أنها عكس الدول العربية الأخرى يتجاوز فيها السياسي الثقافي وهي مفارقة غريبة ريما ترجع إلى أن المجتمع الموريتاني يقترب من كونه مجتمعا أموميا.

من جانب آخر كثيرا ما تفضي الثورات إلى العنف لأنها مشحونة باليقين واليوتوبيا، كثيرا ما أتساءل كيف ينحاز شاعر كبير مثل مايكوفسكي إلى سفاح مثل ستالين، أو شاعر ملهم مثل عزراباوند إلى مشروع موسوليني الفاشي، وفي الواقع هو تناغم يحمل قدرا من الموضوعية فما يجمع الثوري بالشاعر هو العمى الغنائي، وفكرة الحلم وهي تدب أمام أعين الشاعر، وكثيرا ما ينتكس الثوري ويكف أمام إغراء السلطة عن الحلم فيبقى الشاعر وحده عاريا أمام التاريخ.

ـ أنت من القائلين بأن اللغة غير قادرة على التعبير النهائي والحاسم عن كبريات القضايا اللغوية والفلسفية، ولا يخفى أن هذا الرأي أو القول هو ما بعد حداثي غربي بنسبة مائة بالمائة دريدي تفكيكي. إلا أن هناك من يرجع سبب هذه المعضلة في أساليب النقد العربي الحديث، أن هذه المصطلحات اللغوية النقدية والفلسفية لم تستقر بعد في السياقات والحقول المعرفية الغربية فما بالك بنقلها أو استلابها ومحاولة تطويعها قسرا في سياقات عربية، وأن لغة المصطلح النقدي والفلسفي تميل إلى التجريد وتوليه أهمية أكثر من التطبيق، وبالتالي الأزمة ليست مصطلح نقدي بقدر ما هي أزمة استعارة من سياقات معرفية تختلف عن السياقات المعرفية التي كان يتوجب على النقد العربي تأهيل دلالاتها ومصطلحاتها بدلا من الاستعارة والتجريد. فما هو ردكم؟

ـ أنا تحدثت عن سوء الفهم الذي يبدو أنه قدر اللغة، وبغض النظر عن ما بعد الحداثة التي لا أفهمها وتفكيكية دريدا التي أجهلها تماما ـ وأنا أعجب من الكتاب العرب الذين يضمنون مقولات دريدا في ثنايا كتبهم بينما المفكرون الذين يتحدثون بلغته يعتبرونه مبهما وعصيا عن الفهم ـ إلا أننا في الواقع أكثر المجتمعات معاناة من وطأة الألاعيب اللغوية التي أجادها حكامنا وحذاقنا في كل مجال حتى تحولت كل إنجازاتنا إلى إنجازات لغوية فقط، يدبج الحكام العرب خطبا سياسية مليئة بالتجريد والمجاز والاستعارة في قضايا تهم مصيرنا وحياتنا اليومية، بينما يقدم الأدباء نثرا إصلاحيا سياسيا في مظهر غريب من تبادل الأدوار.. راجع خطب عبد الناصر والسادات ومبارك وبشار الأسد وغيرهم وسترى مدى التلاعب باللغة في حين تنهار دولهم باطراد منتظم.. إنها خطب يعجز حتى دريدا عن تفكيكها، لكن ما أعرفه أنها فككت مجتمعاتنا ربما لأنها مجرد تحريك فك لا غير (هذا نوع من التلاعب اللغوي ).أما أزمة المصطلحات فهو ناتج عن الإصرار على تعريبها رغم قابلية اللغة العربية لاستيعاب هذه المصطلحات في لغتها الأصلية، وكثيراً ما يُغرِّب هذا التعريب المصطلح ويحيله إلى مفهوم مختلف.. خذ مثال البحث عن مرادف للديمقراطية في لغتنا أو بالأصح في ثقافتنا، عادة ما يذهبون إلى مرادف حميمي وهو الشورى، وهنا نعود بمصطلح أكتسب خبرته التاريخية والإجرائية – وأصبح على قدر كبير من التحديد – إلى نقطة الصفر، أو تحويل المتعين إلى مجرد، أو بمعنى أصح ترجمة المفهوم إلى لفظ.. أو مثلا تعريب علم الإستاتيسكس إلى علم الإحصاء، وبالتالي تحول علم حدسي عميق إلى مجرد جداول إحصائية مملة… والحديث يطول في هذا الشأن والأمثلة كثيرة أكثر من القمامة في شوارعنا.

  وعدم استقرار المصطلح حتى في لغته الأصلية ناتج عن حراك فكري لا يهدأ وتبدل الكثير من المفاهيم مع فتوحات العقل الإنساني، وحتى النظريات العلمية المبرهنة لا تستقر أمام الدحض المستمر لها، أما نحن فننعم باستقرار مصطلحاتنا ومفاهيمنا لمئات السنين، ونتباهى بذلك لأننا نتحرك ببطء شديد وفق عقل عاقل لا يحب المغامرات.

عن موقع ليبيا اليوم

مقالات ذات علاقة

فتحي نصيب: ليبيا تحوّلت إلى جحيم أرضي

المشرف العام

مشروع أقلامنا يسعى لتعزيز القدرات الكتابية لدى الكتّاب الشباب

المشرف العام

نويمي فيرو: الترجمة كالحب.. ليست خيانة

محمد الأصفر

اترك تعليق