من أعمال التشكيلية حميدة صقر.
طيوب النص

حنين ..

هدى القرقني

 
كنت أذهب كل نهاية أسبوع لأتمشى وأعبر تلك الغابة القريبة من بيتي، وعادةً ماكنت أرى تلك السيدة تجلس على إحدى المقاعد الخشبية المنتشرة هناك وبجانبها كرة من السلك وتحيك شيء ما بين يديها وهي منهمكة في عملها وقد لفت نظري لون شعرها الأحمر وبياض بشرتها وطريقة جلوسها ومسحة الحزن على وجهها وكأنها لوحة لبيكاسو ….
في ذلك اليوم من أيام أكتوبر الرطبة ورائحة التراب الممزوج بالأوراق المبللة بمطر البارحة وصوت العصافير أضفى على المكان رومانسية حالمة..
جلست قريباً من تلك السيدة وبدأت أراقبها وهي تحرك أصابعها بمهارة وقد كانت ترتدي معطف أسود وتلف حول عنقها شال بلون البنفسج له تعرقات خضراء وإلى جانبها حقيبة يد كبيرة يخرج منها ذلك الخيط الأبيض وهو يتحرك مع حركة يديها الرشيقتين…
دون ان ترفع رأسها قالت لي بلغتي الأم..
هل تشاركيني الحديث وأفسحت لي مكاناً الى جانبها، وبدت ضعيفة جداً عندما اقتربت منها ولها عينان كزرقة السماء
ثم قالت هل تسمحين لي بأن أدعوك باسم (حنين)
قلت لها ولما؟
نظرت إلى نظرة كلها ألم وقالت
لأنك ِتشبهينها
قلت.. من هي
قالت.. ابنتي الوحيدة
ثم استدركت أنا أتي الى هنا كل نهاية أسبوع لأراك …
قلت لها حقاً كنت أظنك مشغولة بما في يديك ..
ابتسمت وقالت نعم أنا أحيك جوربين لحفيدتي ثم أخرجت من حقيبتها إحداها وقالت انظري كم هو جميل، ثم نظرت إلي وقالت
لقد فارقتني ابنتي منذ عامين وأطلقت تنهيدة وقد شحب وجهها وقالت..
كنا ثلاثون شخص في ذلك القارب المطاطي الصغير كانت تجلس إلى جانبي هي وزوجها وكانت فرِحة بأنها ستغادر ذلك الوطن وأنها ستلد في بلاد الأحلام حيث الأمان والرفاهية …
واصلت حديثها وهي تنظر إلي وقالت
أتدرين لم أنجو إلا أنا؛ أنا الذي كنت أحمل كيس أدويتي في يدي نجوت وهي كانت تحمل روحاً أختارها الموت قبل أن تأتي لقد رحلا معاً..
صمتت وقد بدأت ترتجف؛ أخذت يدها بين يدي حاولت أن أواسيها ورغم اختلاف ظروف مجيئنا لهذا البلد إلا أنه جمعتنا غربتنا القاسية وهذا المكان …
قالت وهي تحاول مسح دموعها بمنديل وضعته في يدها
عندما تشعري بأنك قد أصبحت مجرد جسد وقد غادرت روحك معهم؛ أستعجل ايامي لتمضي سريعاً حتى يتناقص عمري لا أدري لماذا أخبرك بحزني فأنا أحتاج لمن يقول لي
أن صندوقي الأسود لم يعد فيه ما يقال سيظل فقط يفطر قلبي كلما فتحته …
ساد بيننا صمت طويل لم يقطعه سوي هبوب تلك الريح الباردة تنذرنا بأنها ستمطر ؛
نظرت إلى ساعتها ثم إلى بطني المنتفخ وقامت لتودعني
وضعت قبلة على جبيني وقالت.. ولد أم بنت
قلت لها.. لم أعرف بعد
قالت لي ستكون فتاة وهذه لها ووضعت في يدي جوربين صغيرين من الدانتيلا بلون أبيض لهن حواف بلون أزرق كلون البحر …
بدأت قطرات المطر تبلل وجهينا؛
أخرجت مظلتها وحثتني على العودة
سريعاً الي البيت
وغابت بين الأشجار …
تكررت عودتي الى ذلك المكان ولكن لم ألتقي بها ثانية ً..
بعد شهرين من ذلك اللقاء كنت في المستشفى دخل زوجي وهو يحمل طفلتنا وسألني
هل نسميها ما اتفقنا عليه سابقاً ؛
أخذتها بين يدي وألبستها تلك الجوارب الصغيرة وقلت له
سأسميها
(حنين)

مقالات ذات علاقة

عرّتْ قلبي ورحلت

عبدالسلام سنان

ستذروك ريح

مأمون الزائدي

الحلقة 24 من برنامج المكتبة الليبية

المشرف العام

اترك تعليق