المقالة

حكاية معشوقتي التي لا تحبني!!

من أعمال التشكيلي الليبي محمد البرناوي.
من أعمال التشكيلي الليبي محمد البرناوي.


سأحدثكم عن حبيبتي التي أحبها لدرجة العشق..  فقد طاردتها منذ الصغر.. حيثما وجدت.. كنت أحتضنها.. وأقبلها دونما حياء.. تنام معي.. وأحياناً كثيرة أهيء لها مكاناً على الأرض..  أضعها برفق.. ثم أركلها برجلي.. ألاحقها مرة أخرى.. أخرجها من مخدعها.. أضمها إلى صدري أقبلها.. وأنام وهي بين أحضاني.. صحيح رائحتها غير مقبولة لكنني أعشقها بجنون.. أمي أكدت لي نتانتها مرات عدة..  حذرتني منها وأقسمت ذات صيف قائض ألا تدخل البيت مهما كان مقدار حبك لها..

أعذروني فالأسرار ترهق العشاق.. حبيبتي تنكرت لحبي عندما وقف العمر على حافة الشيخوخة.. أدركت بما لا يدع مجالاً للشك أنها تحب صغار السن.. ورغم ذلك مازلت أحتفظ لها بين ثنايا قلبي الدفيء بوله يردده صدى النبضات الخافتة..

قد تتهموني بالمراهقة المتأخرة.. فلا تذهب أذهانكم إلى أبعد من المستطيل الأخضر.. حبيبتي الملعونة تتقاذفها الأرجل وتتابعها آلاف بل ملايين العيون.. إنها ( كرة القدم) التي عشقتها حتى الثمالة.. لكن العشق كان من طرف واحد كما يقولون..

كنت وزملائي في أعقاب ستينيات القرن العشرين.. لا نعرف لعبة غيرها في قريتنا.. نلعبها أحياناً حفاة من دون أحذية.. وكنت أطمح أن تتوج مسيرتي الكروية بالشهرة على أقل تقدير في محيط المدرسة.. كانت كرة الطائرة هي التجربة الأولى التي ولجت بابها.. لكن قامتي المعقدة حالت دون تحقيق أية نتائج تذكر.. أما كرة القدم وكلاعب فاعل وسط الملعب قتلتها قدراتي الأقل من المتواضعة.. وهزمتها الشوارع والساحات الترابية والإسمنتية التي تعلمت منها حرية اللعب في أي مركز بلا قيد وبعيداً عن صافرة الحكام المزعجة..  كنت الوحيد في قريتنا القادر على اقناع والده بشراء (كورة عشرين قرشا) ولذا كنت ألعب مع أقراني لأني صاحب الكرة.. حتى وإن كانت موهبتي لا تتناسب مع مواهبهم المبهرة.

لم يكن أمامي من مجالات الإبداع إلا أن أقبل بتصنيف معلم التربية الرياضية الذي استطاع أن يفصل على مقاسي مهمة حراسة المرمى تبعاً لشكل جسمي.. كم كنت أمقت هذه المهنة التي انتصرت على تطلعاتي الشرهة..

المهم.. قبلت ارتداء القفازات لحماية مرمى فريق المدرسة والذود عنه وعن شرفها في المحافل الرياضية مع مدارس المحافظة.. لكنني رضيت بها وقلت في ذات نفسي على أقل تقدير أتشرف بمرافقة زملائي واللعب أمام فرق المدارس الأخرى.. وأتخلص أيضاً من حصص الحساب والعلوم والتاريخ الممل..

كنت جاداً في أن أثبت شطارتي لمعلم الرياضة.. طامعاً في رضاه.. كي أكون ضمن الفريق الأساسي.. لكنه كان في كل مرة يبتسم في وجهي الممصوص بامتعاض.. ويلوي عنقه لمهاراتي التي أقل من المتوسط بقليل.. كانت قدراتي الخاملة لا تعد بمستقبل زاهر في مجال كرة القدم..

كانت تواجهني صعوبة بالغة في انتزاع الإعجاب من أيدي المتفرجين الذين كانوا يصفقون لكل أعضاء الفريق.. فقد كانوا يحبسون أنفاسهم عندما تقترب الكرة من مرماي.. تكرر هروبي من المدرسة بحثاً عن ذاتي في هواية لا تحبني كنت أقضي جل وقتي بين الازقة والشوارع.. أمارس الارتماء يميناً ويساراً.. لكنني لم أكن أحسن استقبال الكرات الأرضية الخفيفة فما بالكم بالصاروخية.. كنت أركض بين قوائم المرمى مثل معتوه تائه.. وأيقنت أنني أخطأت اختيار المدرب.. وأن معلم الرياضة أهملني ولم يعد يهتم بصقل موهبتي.. ولم يعرف كيف يوقظ الرغبة التي تعشعش في داخلي وتتأجج في كياني.. ففي كل لقاء ودي يعود فريقنا بهزيمة ثقيلة وبدستة من الأهداف..  كنت أسمع همسهم وأرى أصابعهم تشير نحوي لتحمّل وزر الهزيمة بمفردي.. فقد كنت في كل مواجهة مثل شرطي المرور عند جزيرة دوران مزدحمة..

ذات يوم لا أنساه.. صارحني ذلك المعلم (كاش داون) وأمسك بأرنبة أذني هامساً بها: أنت لا تصلح.. وأردف قائلاً: إلا لإحضار الكرات من خارج الملعب.. ثم التفت إلى تلميذ كان يقف بالقرب من المرمى وأنهمك في تدريبه على حراسة المرمى بدلا عني…!!

منذ ذلك الوقت بدأت أبحث عن مرفئ آخر من مرافئ كرة القدم.. وبعد أن ودعت المستطيل المعشب في مشهد مأساوي وجدت نفسي على مقاعد المتفرجين.. فاندلقت بطني أمامي.. وترهل جسدي.. وتعلمت الرغي.. وأهدرت وقتي فيما لا يجدي نفعاً.. ووصلت إلى مرتبة النقد للرياضيين.. لاعبا لاعباً.. وكذلك انتقدت أخطاء المدربين نكاية بمعلم الرياضة الذي أقصاني من الفريق.. وكنت أتوقع النتائج وأضع النظريات الرياضية وغالباً ما تخونني ظنون التوقعات.. وهكذا وفي فترة وجيزة أصبحت من خيرة المدربين الذين يجلسون فوق المدرجات.. أولئك الذين يعرضون صدورهم لبرد الشتاء.. ورؤوسهم لحرارة شمس يوليو.. ويصابون بمرض في مؤخراتهم من الحياء وصفه أو حتى الشكوى بآلامه.. ولم أنل من (التربونة) إلا التعب والمرض والإرهاق على حساب الصحة وانهيار الأعصاب.. ورسم الخرائط على وجوهنا بأظافرنا القذرة.. خلاف الروائح الكريهة التي تفوح من أجسادنا.. وسحق أعقاب السجائر بأقدامنا الخشنة..  والوقوف مع مئات الخاسرين وأفواهنا مفتوحة على وسعها مثل محال بيع الألبان.. متأسفين لفشلنا الذريع في أن نكون رياضيين يتقبلون الهزيمة كما النصر..

مقالات ذات علاقة

أين ليبيا التي عرفت؟ 1

المشرف العام

شرفاء وخنافس

محمد عقيلة العمامي

من سرق المالوف من أزقة طرابلس .. من قايض هويتنا برخص التراب؟!!

زكريا العنقودي

اترك تعليق