قصة

حـكاية جـورب

أنـا.. جورب رخيص، ثمني نصف دينار، أنتجتني تشاركية صناعية، وزع هامش ربحي بالتساوي على عناصر الإنتاج، اشتراني إنسان بسيط، منتج مستور الحال، تزوج هذا المنتج من فتاة بسيطة، سكن بها في شقة صغيرة. كانا فرحين سعداء، كانت العروس لطيفة جداً معي، تغسلني كل يوم بماء دافئ، لا تحرق بشرتي بالصابون، ولا تكويني بالبوتاس،ولتنعشني تنشرني في الشرفة فيجففني نسيم بنغازي العليل،كنت أناجي هبات النسيم وأتذكر دعكات أناملها المخضّبة بالحناء، كانت تدعكني ببطء كعلكة في فمها المسوّك كنت أنظر إلى الجورب اللحمي المركون قرب الباب تحت مرآة (دولاب) المدخل.. وذات يوم مرضت العروس، ربما حملت، فغسلني العريس بماء بارد في عز الشتاء، أوجع أنسجتي بدعكاته الخشنة، كاد أن ينسل أسلاكي، كاد أن يفض مطاط عنقي المصفح، اختبأت منه الله غالب في رغوة الصابون.. عندما نشرني على الحبل نسي أن يشد أذني (بمساكة) فقذفتني الرياح بعيداً لأسقط في فناء دارة أنيقة أخذت الرياح تقلبني داخل الدارة من مكان إلي مكان، وكأنها توضح لي الفرق بين الشقة والقصر.. وفي إحدى الأركان كانت حجرة الغسيل، اقتربت منها حذراً، كان ينبعث من داخلها صوت طنين، نظرت وظهري ملتصق بمقبض الباب، رأيت الخادمة ترمي قطع الملابس في جوف وعاء معدني متصل بخيط يتأرجح من علبة في الجدار، هذا الوعاء الطنان ليس (كلياننا الصغير*) الذي لا يتصل بجسده أي خيط يربطه، خفت أن ترمقني الخادمة فتظنني من العائلة وترميني لأدور بسرعة معهم في هذا القبر، ابتعدت عن الحجرة واقتربت من حبل الغسيل، لمحت جورباً ملوناً من حرير يتمايل كطاووس مقروص بمساكة جميلة، سألته بلغة الجوارب عن الوعاء الملتهـم للملابس، لم يفهمني أول مرة لأنني لم أنطـق جيداً بسبب ثقب صغير عند موضع إبهـام القدم.. كررت عليه السؤال فأجابني بجوربية مكسرة: هذه غسالة (إلكتريك) مستورد شكرتـه دون ابتسامة، استغربت لعدم وجود مثل هذه الغسالة في بيت صاحبي العريس ثم عزوت السبب لارتفاع ثمنها، ولكنني سعيد لعدم وجودها، فالملابس داخلها تدور بسرعة كاتفاقات سلام ممرر !، أنا سعيد بغسالة العشرة أصابع الطبيعية ذات الرائحة الجميلة والملمس الناعم، والدعك ببطء والنظر إلى دولاب المدخل حيث الجورب اللحمي الخجول، آه كم هي جميلة الشقة، وأنا في متعة استرجاع ذكرياتي الجميلـة فاجأني هجوم خرطوم حلزوني يتلوى كثعبان يلقف كل شيء، تراب، غبار، أوراق شجر، قصاصات ورق، جذبني بعنف إلي جوفه، وجدت نفسي داخل ظلامه،احتميت بورقة شجرة وابتعدت عن أسلاك مكهربة داخله، فرحت لأنني لست مبللاً وإلا صعقت..في المساء أفرغوا جوف (المكنسة الكهربائية) في برميل كبير للقمامة مرابط أمام الباب الفولاذي الحصين أمضيت ليلتي في جوف هذا البرميل المقزز تذرعت للأوساخ ورائحتها النتنة بكل ما أسعفتني به ذاكرتي من روائح العروس ومطبخها ومن عرق المنتجين وروائح المنتجات حتى الزيوت المنبعثة من آلات تصنيعي تذكرتها فدافعت عني.. في الصباح كانت إجازة العريس قد اكتملت، وتبصل شهر العسل سعادة وعاد المنتج البسيط إلي عمله في شركة التنظيفات العامة، ما أن سكب البرميل في صندوق سيارة القمامة، حتى لحت له من بين الأكوام رآني تبسم لي،التقطني بحنو ووضعني في جيبه رغم تلوثي.. فأنا قريب من قلبه.. أنا من شهود ليلة دخلته بعد الدوام عاد بي إلي الشقة، ناولني إلي العروس: عرفتني، طارت فرحاً، زغردت،اطمأنت على عريسها من السحر، نفضتني من الغبار، قبلتني، ثم لبستني في يدها قفـازاً..

* الليان: هو طست أو وعاء لغسيل الملابس.

مقالات ذات علاقة

الحنين الي الأراض الخصبة

المشرف العام

ونيس…

أحمد يوسف عقيلة

حين غابت الغولة عن حكايات جدتي!!

زكريا العنقودي

اترك تعليق