مختارات

جوانب من الحركة الشعرية في ليبيا

عيسى الناعوري ورحلة الأدب في ليبيا سنة 1966م

سليمان دوغة

” حتى عام 1965 لم يكن لدي من المعلومات عن الحركة الأدبية في ليبيا غير ما كان قد نشر في العدد الخاص من مجلة القلم الجديد” المحتجبة عام 1953م، ولم يكن هذا النذر اليسير كافياً البتة، فهو إلى الجهل أقرب منه إلى المعرفة …. ”

” والواقع أن الأدب الليبي ـ ومثله الأدب التونسي والمغربي عامةً ـ ما يزال إلى اليوم بعيداً عن القارئ المشرقي حتى ليخيل إلينا أنه ليس في المغرب كله أدبٌ يستحق الذكر ، ولا أدباء جديرون بالمعرفة …!!! وهذا فعلاً ما وقع لي أولاً في تونس ثم في ليبيا من بعد ، فقد لمست في البلدين حركة أدبية نشطة، وعرفت أدباء جديرين بأن نعرفهم في المشرق كما يعرفوننا هم في المغرب، ولعل النهضة التي رأيتها بعيني لن تلبث أن تصل قريباً إلى المشرق وتدخل في تاريخ الفكر الحديث بقوة إلى جانب نهضة الفكر المشرقي …. ”

هكذا كان يصف الكاتب والأديب عيسى الناعوري أحد رواد وأعمدة الحركة الأدبية في المشرق والأردن النشاط الثقافي الذي عاشه أثناء تجواله في ليبيا سنة 1966م معبراً عن دهشته لما شاهده من نشاطٍ ثقافي وأدبي تحت رعاية الدولة الليبية وإشراف وزارة الإعلام و الثقافة في تلك الآونة .

الكاتب الليبي الراحل خليفة التليسي
الكاتب الليبي الراحل خليفة التليسي
أرشيفية عن الشبكة

ولئن كان يقف على رأس الجيل الماضي من أدباء ليبيا ثلاثة شعراء هم : الشيخ أحمد الشارف، ورفيق المهدوي ، وإبراهيم الأسطى عمر لدورهم النهضوي والثقافي في دعم حركة الجهاد وحركة الاستقلال ومن ثم قيام دولة ليبيا الحديثة، فإن أرباب القلم والأدب المشرقي يعتبرون أن : خليفة التليسي، وعلي المصراتي، وعبدالله القويري هم من استطاعوا حقا ـ في مرحلة الستينات ـ أن يقفوا على رأس الحركة الأدبية ليس لغزارة الإنتاج والتأليف فحسب بل لما قدموه وأسدلوه للساحة الأدبية الليبية من دور بالغ الأهمية في التعريف برموزها وأدوارهم، هذا فضلاً عن تلك الدراسات النقدية الجادة التي استطاعت أن تقوم بتشريح مراحل الحركة الأدبية المتداخلة بكثير من التفصيل التاريخي الجريء ، والبحث اللغوي الممتع والنافع وتقف بها عند ميزان النقد والتحليل وتحطم جدار العزلة والغموض لتشق الطريق نحو عالم من الأدب أوسع وميدان من الشعر أرحب.

يتحدث عيسى الناعوري عن أدباء وكتاب ليبيين تعرف عليهم في أثناء رحلته فيقول : ” إن أول أديبٍ ليبي عرفته شخصياً، وعرفت مؤلفاته، فهو الأستاذ خليفة محمد التليسي. وقد رافقته مدة ستة أشهر بين عامي 1960 و1961 في إيطاليا، إذ كنا معاً في بعثة أدبية على نفقة منظمة اليونسكو الدولية للتعرف إلى الأدب الإيطالي وأشهر كتابهم عن كثب . وحتى ذلك الحين كان التليسي قد أصدر كتابين : “الشابي وجبران ” و”صوت في الظلام” والأخير مجموعة قصصية للكاتب الإيطالي المشهور “لويجي بيرانديللو ” ترجمها عن الإيطالية مباشرةً ، كما صدر له في هذا العام 1966م كتابه الثالث “رفيق شاعر الوطن”.

الأستاذ فؤاد الكعبازي
الأستاذ فؤاد الكعبازي

وهو بالفعل ـ أي الكتاب ـ يعد توصيفا دقيقا لمراحل الحركة الشعرية الليبية تجلت فيه موهبة التليسي النقدية وبعنف وقسوة أحياناً في حق شاعر الوطن.

ثمة أديبُ ليبي آخر يبدو أن الرحالة الناعوري قد أعجب به إعجابا مشرقيا شديداً فلنستمع إليه وهو يحدثنا عنه قائلاً : “هناك أديب ليبي كبير، متعدد المواهب ، واسع الإطلاع ، يجيد لغات عالمية عدة ، فهو يجيد الإيطالية كما يلوك العربية ويكتب بها باستمرار ذلك هو فؤاد كعبازي ـ وزير البترول في ليبيا 1966م ـ وقد عرفته بأدبه قبل أن أعرفه بشخصه، فقد كنت أطالع أبحاثه الإيطالية النفيسة، ومقارناته الشعرية بين أدباء مسلمين وعرب وشعراء إيطاليين وله كتاب بالإيطالية: ” تصاويرٌ من الشعر العربي المعاصر” ترجم فيه العديد من القصائد العربية إلى الإيطالية، فضلا عن ذلك فهو ينظم الشعر بالإيطالية كما يكتب في الصحف العربية والإيطالية وهو رسام بارع وذو شغف بالموسيقى . والجدير بالذكر هنا أن الطوابع الليبية جميعها من رسومه “.

ومن الشعراء الذين برزوا في تلك المرحلة بلون من ألوان الأدب الحديث الشاعر علي صدقي عبد القادر وهو من عشاق المذهب المستحدث في النظم أو ما يسمى بالنظم المبعثر ذي المداميك المتناثرة ويبدو أنه كان مؤمناً بهذا الفن من الشعر متحمساً له أيما تحمس وقد صدر له في تلك الفترة كتاباً أسماه “الصرخة”، يحتوي على عدد كبير من قصائده الوجدانية. في هذه المجموعة العاطفية المتنوعة لم يخرج الشاعر عن حدود ثلاثة أبحر شعرية أو أربعة ككل الشعر المستحدث الذي يظل يدور حول أربعة بحور: “المتقارب، والرمل، والكامل، والهزج، والرجز”، ولأنه لا يستطيع أن يمد أجنحته إلى حدود أبعد من هذه، ويستفيد من الغنى الموسيقي الوافر الذي تقدمه بحور الشعر العربي العديدة، وفي هذا الكتاب لمحات مشرقة، وخطرات جميلة، إلى جانب صور وخيالات جانحة إلى الإغراق والرمزية المفتعلة والتي لا يخلو منها عادة هذا اللون من الشعر.

الشاعر علي صدقي عبدالقادر.
الشاعر علي صدقي عبدالقادر.

علي عبد القادر وكما يقيمه عيسى الناعوري أحد الذين حطموا جدار العزلة المغاربية عندما خرج عن المحيط الليبي إلى عالم أوسع وأصدر “صرخته” عن مؤسسة المعارف اللبنانية في بيروت.

الدولة الليبية الحديثة والنهضة الثقافية

لقد كان أثر وزارة الإعلام والثقافة تحت رعاية الدولة الليبية في تلك المرحلة كبيراً جداً في انطلاقة هذه الحركة الأدبية وبعث جيل قوى من المثقفين والأدباء فمنذ تولي كلاً من الأستاذ الأديب والعلامة الشيخ عبد اللطيف الشويرف ثم مجيء الأستاذ خليفة التليسي الوزارة والذي شاء أن يحول اسمها من وزارة الإعلام إلى وزارة الإعلام والثقافة لكي يعطيها الصفة الرسمية والقانونية لخلق نهضة ثقافية وفكرية تمثلت في إصدار قوانين ونظم تدعم حركة التأليف والنشر وتأخذ بأيدي النخبة الشبابية الصاعدة في تلك المرحلة وحتى تستطيع الوزارة رعاية النهضة الأدبية على أوسع نطاق ممكن، تألفت فيها لجنة باسم :” اللجنة العليا لرعاية الأدب والفنون ” برئاسة الأستاذ عبد اللطيف الشويرف وهذه اللجنة هي التي تتولى الإشراف على تنظيم حركة المسابقات والتأليف والنشر والنشاطات الثقافية والمواسم الأدبية.

كما ينص النظام الذي أصدرته الدولة برعاية اللجنة العليا للأدب والفنون على مايلي:

• تشتري الوزارة ألف نسخة من كل كتاب ليبي ينشره صاحبه على نفقته الخاصة، وخمسمائة نسخة من كل كتاب تقوم على نشره أحد دور النشر
• إقامة مسابقات سنوية للكتاب والمبدعين تعطى من خلالها جوائز مالية قيمة لكل لون من ألوان الإنتاج الفكري كالشعر والرواية والمجموعات القصصية والدراسات الأدبية على أن تقوم الوزارة بنشر الكتب الفائزة على نفقتها
• فتح مجالات النشر المختلفة من مجلات وجرائد ودور النشر للكتاب والمؤلفين من الشباب الصاعد وتشجيعهم على التأليف والكتابة ونشر ما لديهم ومكافأتهم بالجوائز المالية القيمة

الكاتب علي مصطفى المصراتي
تصوير: فتحي العريبي.

بهذه الروح المشجعة وبهذا النفس المسؤول انطلقت الحركة الثقافية في ليبيا تؤازرها الدولة الليبية ووزارة الإعلام والثقافة يقود خطاها نخبة من الأدباء والمثقفين والعلماء أدركوا معنى الكلمة وعبق الفكر كما أدركوا تماما أن حاجة الأمة الليبية للفكر والثقافة تعادل تماما حاجتها للماء وقطعة الخبز فلا عاشت أمة استبدلت عقولها ببطونها وزجت بمفكريها تحت أقدامها .

بهذه الوسائل السخية من التشجيع والرعاية برز عدد غير قليل من الأدباء والكتاب الشبان وأخذت حركة التأليف والنشر في النمو، فظهرت المؤلفات في كل لون من ألوان الأدب والفكر لعله من المناسب أن ندلل بمجموعة منها صدرت في الفترة الواقعة بين عامي 1965 و1966م وهي من إصدارات الوزارة:

• ديوان “الركب التائه ” للشاعر حسن السوسي
• ” تمرد” مجموعة قصصية للقاص خليفة التكبالي وقد توفي بعد فوزه بجائزة القصة الثانية من وزارة الإعلام والثقافة بأيام قليلة وهو في ريعان شبابه
• ” الجدار ” مجموعة قصصية للأديب يوسف الشريف وقد فاز بالجائزة الثالثة للقصة
• ” بلادك يا صالح ” مجموعة مسرحية للأديب عبد الحميد المجراب
• ” الموسيقى : قواعد وتراث ” دراسة في الموسيقى محمد مرشان
• كما صدر للأستاذ علي المصراتي كتابان عن إبراهيم الأسطى عمر، والشيخ أحمد الشارف في الأول درس فيه شعر إبراهيم وسيرته وقدم نماذج من قصائده ومزايا أسلوبه، وفي الثاني زاد عليه أن قدم ديوان الشارف بشكل يكاد يكون وافيا، والمصراتي حتى عام 1966م كان قد صدرله سبعة عشر كتاباً .
• عبد الله القويري: أديب قصصي ومسرحي صدر له في تلك المرحلة مجموعة قصصية ” حياتهم، العيد في الأرض، قطعة من الخبز، الفرصة والقناص “ومجموعة مسرحية ” عمر المختار، المعاناة من أجل شيء، الجانب الوضيء، الشعاع ” وهو من أبرز الكتاب والأدباء الذين عرفتهم الساحة الأدبية في ليبيا وخارجها.
• كما صدر عن الوزارة عدد من الصحف والمجلات الجادة والعميقة للمساهمة الفعلية في تطوير الحركة الثقافية والأدبية من أهمها مجلة “الرواد” الشهرية، ومجلة “المرأة” ومجلة “الإذاعة” النصف شهرية ومجلة “ليبيا الحديثة” وإذا كانت الأخيرة ذات أهداف إعلامية رسمية فإن المجلات الثلاثة الأخرى خاصة بالأبحاث الفكرية والاجتماعية والدراسات الأدبية وهي تدفع جوائز مالية قيمة ومكافآت سخية عن كل ما ينشر فيها بغية تشجيع الكتاب وتحفيز الأقلام والدفع بحركة الثقافة والفكر نحو بناء نهضة ليبية قوية.

الشاعر حسن السوسي.
الشاعر حسن السوسي.

هذه بعض المؤلفات والدراسات التي صدرت في تلك الفترة الشابة من عمر الدولة الليبية الحديثة وخصوصا بعد صدور القانون الذي يلزم الوزارة بشراء كميات من هذه المؤلفات الأمر الذي يعطي دافعاً قوياً وحافزاً كبيراً للكتابة والتأليف كما يعطي الكتاب ضماناً قانونياً يحفظ لهم الجهد والمال والعقل .
ختاما لعلنا من المناسب في هذا المقام أن نسجل شهادة الناعوري فيما تلمسه بأم عينه فوق الساحة الليبية آن ذاك وهو المشرقي المعتز بنهضته المشرقية، حيث يقول:
” أتراني أعطيت صورة عن الحركة الفكرية في ليبيا ؟ كلا، إنني لم أفعل أكثر من أنني أشرت إلى تباشير نهضة مباركة ترعاها وزارة الإعلام والثقافة، وتقودها اللجنة العليا لرعاية الأدب والفنون، والمستقبل القريب هو الكفيل بأن يجعلها تثمر أطيب الثمار بإذن الله.

غير أن هناك شيئاً ما أود قوله بعد هذا الذي لمسته بنفسي من بوادر النهضة في ليبيا، وما عرفته من نشاطات الأدباء فيها ، ولا أظنني مخطئاً ولا مغالياً فيه:
يبدو لي أن الخطى القادمة في نهضة الفكر الحديث ستقودها ليبيا و بلدان المغرب عموماً ، بعد أن تخلفت طويلاً عن ركب الحضارة في المشرق، وهناك شعور عميق لدى المغاربة بأننا نحن المشرقيين قد تناسيناهم طويلاً أو أهملناهم في مسيرتنا ـ كما يخيل إليهم ـ وهذا الشعور هو الذي يدفعهم بقوة وحماسة إلى أن يبرزوا تفوقهم وجدارتهم بقيادة النهضة.

إنهم مصممون على أن ينتزعوا الراية من يد الشارقة وهذا التصميم لا يعتمد على الأدباء وحدهم ، بل تقوده حكومات المغرب نفسها، وتبذل في سبيله الكثير الكثير من المال والعناية والرعاية ، وسينجحون في هذا ـ أنا واثق من نجاحهم ـ فهم ينتجون بكثير من الحرية، ويعتمدون على ثقافات واسعة تغذت بالثقافات الأصيلة ومزجت بالثقافات الحديثة والإطلاع الواسع على آداب الغرب. وإمكانات النجاح لديهم كثيرة، والشعور بالتخلف الماضي ووجوب التفوق في الحاضر عميق لديهم، وهذه كلها عوامل عظيمة الأهمية في بروزهم قريباً في الصف الأمامي. ” .

______________________

نشر بموقع عرب تايمز.

مقالات ذات علاقة

ذكريات بنغازية.. إذاعة بنغازي.. والزمن الجميل

المشرف العام

النفط في ليبيا

المشرف العام

3 معالم اثرية في بني وليد يجب أن تعرفها

المشرف العام

اترك تعليق