المقالة

جدلية الفنان والطاغية

 

علاقة عمر ربطت بيني وبين نابغة الرسم الساخر، الفنان الليبي، محمد الزواوي، الذي رحل عن عالمنا منذ ايام قليلة مضت، في بيته بطرابلس، عن خمسة وسبعين عاما.

استطاع الفنان الزواوي، ان يحقق لنفسه مكانة متميزة بين فناني هذا اللون من رسامي الكاريكاتير في الوطن العربي والعالم، وكانت صحف الشرق والغرب تحتفي برسومه وتنقل عن صحافة ليبيا لوحاته التي كانت تعتبرها صحف مثل الهيرالد تربيون، والتايم والنيوزيوك والواشنطون بوست والساندي تايمزوالوول ستريت جنرال تعبيرا بليغا عن وجهة النظر العربية في الاحداث، ومثال ذلك رسما شهيرا يصور فيه الفنان الساخر مستشار الامن القومي الامريكي في السبعينيات السيد هنري كيسينجر، اثناء رحلاته المكوكية للشرق الاوسط، وقد وقف على المسرح يرتدي ملابس ساحر يقدم عروضه التي تبهر المتفرجين، بما يخرجه من قبعته من حمام وارانب، ولكنه في لوحة الزواوي التي نشرتها صحف العام يظهر كيسنجر وقد خرجت يده من قعر القبعة دون ان تستطيع اخراج حمام ولا ارانب فقد افلس الساحر وظهر فشله واضحا امام جمهور القاعة.

وصورة اخرى تم استخدامها في احدى الحملات العالمية لمكافحة المجاعة يظهر فيها مجموعهة من رجال الاعمال الاجانب يرتدون قبعات الكاوبوي ويضعون في ايديهم انواعا من السيجار الفاخر باحجامه العملاقة، وتمتليء اصابعهم بخواتم الذهب وتلمع فصوص الالماس من الساعات المربوطة في معاصمهم، وامامهم مجموعة من الهياكل العظمية البشرية، يمد اصحابها ماعونا يطلبون الاكل، فلا يجد هؤلاء الرأسماليون الغربيون المكتنزون بدانة وشراهة، الا حبات الدموع يسكبونها غزيرة في ذلك الاناء، وكان الاعلان يقول ان الحملة تريد من هؤلاء الناس شيئا اكثر من التعاطف والدموع.

تميزت رسوم الفنان الزواوي بالانتباه للتفاصيل الدقيقة، وحفلت بالزخارف الساخرة الضاحكة وليكن المشهد خناقة تحدث بين زوج وزوجته فلابد ان نرى بجوار الشباشب المرمية وادوات الشاي والصحون المبعثرة فارا موجودا في ركن اللوحة يفتح عينيه في استغراب واندهاش وقد رفع ذيله في حالة تاهب وستنفار على استعداد لان يكون طرفا في المعركة،وهي خصائص تحفل بها اللوحات الاجتماعية التي يستقيها من عمق البيئة الليبية ويصور فيها مفردات هذه البيئة وادوات معيشتها وحياتها ويعبر عن عمق تفاعلها مع الواقع الذي تعيشه، ويتجه فيها دائما للنقد اللاذع الحارق الذي يعري ويفضح الممارسات الخاطئة والمظالم التي يمكن ان تلحق بالمواطن الصغير، كما كان ثائرا من اجل ما تعانية المراة في المجتمع الليبي من مظالم، خاصة في تلك المراحل المبكرة من حياته المهنية عندما كانت المراة تناضل من اجل ضمان الحقوق الاساسية في التعليم والعمل والخروج من سجن الجدران الاربعة للبيت، ومن لوحاته الكلاسيكية التي جسدت اوجه المعاناة التي تعيشها المراة لوحة شهيرة تتكون من عدة مقاطع يبدو في اولها الزوج سائرا في الطريق ومن خلفه زوجته ترتدي الرداء الشعبي التقليدي المسمى الفراشية الذي يغطي كل جسمها ويخفي ملامح وجهها، ويتصادف وجود بالوعة مفتوحة وسط الطريق يتخطاها الزوج ماضيا الى الامام، بينما تعجز الزوجة عن رؤيتها، فتسقط في البالوعة. ينتبه الرجل لما حدث، فيعود الى حيث سقطت الزوجة ويجد غطاء البالوعة مرميا على جانب الطريق، فيأخذ الغطاء ويضعه فوق البالوعة ويستأنف السير في الطريق وكأن شيئا لم يحدث. هكذا باختصار وايجاز وقوة في التعبير الاداء، قدم الزواوي مأساة الاوضاع المتخلفة التي تعيشها المرأة دون شرح ولا تعليق، غير خطوط ريشته العبقرية التي تنتزع البسمة من اكثر الاوضاع بؤسا وتعاسة.

التقيت مع الفنان الزواوي في زوايا صحفية كنت اقوم بتحريرها ويتولي هو رسم لوحات ساخرة ترافقها كما التقينا في صحف توليت مسئوليتها بينما كان هو يتولى رفدها برسومه الساخرة المتميزة التي تساهم في انجاح الصحيفة واقبال الناس عليها كما حدث في تجربة اصدار صحيفة الثورة ثم صحيفة الاسبوع الثقافي، وكنت معه في كثير من المناسبات التي سافر يرافق معارضه التي تلقى الاقبال من الجمهور العربي كما حدث في الرباط وتونس وباريس ولندن، وعديد المدن الاخرى التي كنت اتابع اخبار ما تحصده من نجاح وما تحققه لليبيا من سمعة طيبة تمسح بعض اثار السمعة السيئة التي كانت تصنعها مغامرات النظام السياسية والعسكرية والتي وضعت ليبيا على قائمة الدول التي تدعم الارهاب في العالم، وتقرنها باعمال التخريب وتفرض على الشعب الحظر والعقوبات بسبب المغامرات الرعناء لنظام عسكري تميز بالسفه والحماقة، وكانت رسوم محمد الزواوي تقدم دائما الوجه الاخر، الوجه الحضاري الابداعي الذي يظهر اصالة الشعب الليبي ومعدنه الحقيقي المحب للحياة، الذي يحتفل بالابداع والجمال، ولاشك ان الفنان الكبير كان سيحظى بشهرة اكبر وانتشارا اوسع وجمهورا يشمل الكرة الارضية كلها لو ان وراءه دولة تعرف قيمة النوابغ من ابنائها، ولكنه للاسف الشديد تصادف عند بداية شهرته واعتراف المجتمع الفني بمواهبه ان جاء الحكم العسكري الانقلابي يعلن شعارا غريبا يعادي التفوق والنجاح يقول ” لا نجومية في المجتمع الجماهيري “، وهو الامر الذي استوجب ان تمحى اسماء البشر من الاخبار والاعلانات بما في ذلك اسماء الوزراء والمسئولين التنفيذين، وينادى على اعضاء المؤتمر الشعب الذي يمثل صورة كاريكاتيرية للبرلمان بارقام لوحات يحملونها بل ويمنع ذكر مذيع نشرة الاخبار، كما يمنع في نقل المباريات الرياضية ذكر اسماء الللاعبين وانما يقال رقم كذا من الفريق الفلاني مرر الكرة لرقم كذا، وهكذا، كان على فنان عبقري مثل الزواوي ان يعاني الحصار وتعاني المجلدات التي تحمل رسومه سوء التوزيع وعدم الانتشار ويعاني اسمه من الطمس، ولولا صحف اجنبية كانت تنتبه لرسوماته وسفارات كانت تصر على تنظيم معارض للوحاته في بلدانها لم استطاع هذا النابغة ان يصل الى ابعد من جمهور الصحيفة المحلية التي تنشر لوحاته الساخرة.

نعم كان الطاغية يغطي بظله الثقيل خريطة ليبيا ويحجب نجوم الادب والفن والرياضة والعلوم من الظهور في سمائها، ومع ذلك كان لابد لنجم ساطع مثل الزواوي ان يخترق هذا الحصار المقيت باشعاع الفن والابداع، ومهما هيمن هذا الظل الثقيل اللعين للطاغية فانه زائل لا محالة ليفسح الطريق لاشعاع الفن والابداع ينتشر ويطرد العتمة والظلام، وفي حين سيتلاشى الطاغية ويعود الى كهوف الظلام التي جاء منها تطارده لعنات الضحايا سيظل الفن العظيم الذي أبدعه الفنان الزواوي، خالدا يرسم البسمة على شفاه أجيال كثيرة سوف تأتي.

مقالات ذات علاقة

البنيوية التوليدية وإشكالية التناول التراثي

المشرف العام

من حرية الصحافة إلى صحافة الحرية

علي عبدالله

عادة ليبية قديمة

تهاني دربي

اترك تعليق