قصة

جدتي

إلى/ خالتي سامية….

انبعث الحزن من أركان البيت بعد أن رحلت جدتي. حزن لا مرئي استشعره في نظرات جدي العميقة كبئر بلا مياه… في المطبخ حيث تتحرك بخفة، والذي بات خاليا إلا من أدواته المعلق منها أو حبيس الأدراج، في حجرة الصالون ذات القماش المخملي الأحمر حيث تستقبل ضيفاتها وتجلس على الكنبة وهي تضع وشاحا أبيض على شعرها المجعد.

كانت طويلة القامة، ترفع رقبتها وتفرد كتفيها كطائر يهم بالتحليق فتزداد بهاء. شخصيتها في هيئتها، تتكلم بصوت جهوري وتتوالد ضحكاتها كثمار شجرة وارفة.

جدتي لأمي “اسكندرانية”، فخورة بمنشئها، لم تتخيل قط أنها ستقتلع من جذورها وتنقل غربا. لذا، كانت حياتها قصيرة. كانت تسرّي عن نفسها بأن طرابلس تشبه الاسكندرية، وأنها طالما ترى البحر فإنها بخير، لكن شيئا ما في نفسها يقول بغير ذلك… أدخل عليها فأسمعها تدندن.. “ياشط اسكندرية”… تختصر التعريف بنفسها بجملة واحدة تطلقها بكل ثقة وهي ترتفع بهيأتها “أنا اسكندرانية”.

هاجر جدي من بلدته المتربعة على قمة الجبل واستقر في الاسكندرية. اعتمر طربوشا ووضع بدلة افرنجية غامقة. كان كأهل الجبل أبيض البشرة تشوبها حمرة خفيفة، شعره فاتح وعيناه رماديتان تتلونان مع مايرتديه. كان أقصر قامة من جدتي وأخفض صوتا وأقل ابتهاجا.. ينطق اسمها بفرح “عزيزة” فتلبي دعوته مسرعة..

تعايش مع أهل الاسكندر الأكبر وتطبع بطباعهم ولم يعد أحد يسأله عن منشئه، لكنه داخل نفسه كان “مغربيا” وهو لفظ يطلقه أهل مصر على كل من يجاورهم غربا. يذهب الى رواق المغاربة ويختلط بأهله ويُعين المهاجرين والطلبة منهم. يشد من عضلة لسانة وينطق بلهجتهم، ما ان يعود إلى بيته حتى يرخي لسانه ويتحدث بلهجة أهل داره.

خطبها من أهلها وتزوجها وقطن في حيهم، ولم يخيل لها انه من منشأ آخر وانه زائر ينوي الرحيل.

“عزيزة وضبي الشنط “.

بكت حتى تورمت عيناها وانقطعت أنفاسها.. الى أين ولمن؟ لا تعرف عن تلك البلاد الا بقايا صور من حكايات أليمة وحزينة. هل سترى شواطىء لامتناهية وبحراً ملًوناً، هل ستأكل السمك المشوي والكابوريا والمانجا المنشاوي؟

استأجر جدي سيارة أقلته وأسرته الى مدينة لم تعرفها ولم تتخيلها، وبقدر ما انتابتها مشاعر مختلطة ومقلقة وهي تجتاز الصحاري المقفرة، بقدر ما سعدت وهي تلج “طرابلس”، استنشقت ملوحة البحر واستطعمتها. قطنت في وسط ميدان الشهداء قريبة من البحر وجاورت أسر طرابلس العتيقة ممن تقطن المدينة القديمة وشارع ميزران، أحبوها، وسكنوا اليها، وبثوها همومهم ومشاكلهم حتى أصبح بيتها مستقرا لهن. “خالتي اعزيزة…” هكذا نطقوا اسمها وكانت تضحك لذلك.

استعاد جدي علاقاته القديمة بأسرته في غريان وقطعة أرض واشجار زيتون تبقت له من والده.. كان اقاربهم ينزلون من الجبل فتستقبلهم بالترحاب وتكرمهم، بل أن بعض اولادهم اقاموا عندها مع ابنها “نبيل” والتحقوا بالدراسة معه. هكذا هي اسكندرانية في بلاد المغاربة لم تفارق لهجتها ولا زيها المتمثل في البالطو والطرحة ولا ثقافتها، لكنها مثل البهار الطازج اختلطت بمزيج طرابلس بتميز.

امرأة ضاجة بالحركة، مدبرة، ذكية، قوية الشخصية… لكنها اعتزلت الحياة حين فقدت ابنها الرياضي “نبيل”. تغيرت جدتي ولم تعد تلك التي عرفتها، تسع كل غرف بيتها ولا تسعها الدنيا… اعتزلت الحياة، أراها باكية او فرغت منه وهي تمسح دموعها أو تغالبها…انبعث في اركان البيت حزنا تسقيه بدموعها التي تتوالد كالعيون… تبتسم لي حتى وهي تبكي وتعتصرني في حضنها ثم تقبلني بقوة وبصوت مازال يدور في قوقعة اذني وتناديني يا ” وٍزة”.

لم يعد قلب الاسكندرانية يحتمل مذ غادرها “نبيل”، لم تعد التربة الغريبة قادرة على نمائها، ولا تقوى اجواء طرابلس المنعشة على استعادة انفاسها المتلاحقة.. مات نبيل في حادث سير بالجبل حيث مسقط رأس جدي، فرحلت وتركت خلفها فتاة صغيرة حملت جزءاً من اسمها هي أنا.

طرابلس 29. 10. 2012

مقالات ذات علاقة

ظلام الظلام

محمد دربي

نيْزك عذري

المشرف العام

من خطف العيد.. من جعل العودة مستحيلة؟

سالم الكبتي

اترك تعليق