المقالة

جبروت العقل

“الحضارات هي إرث إنساني، وهي كالهواء والشمس حق للناس جميعا..” هذا الحق يؤكده تداولها منذ أقدم الحضارات وحتى العمل الهمجي الذي قام به أعداء العقل بتفجير أطفال وأبرياء في بنغازي وخلال شهر رمضان 2018. الحضارات ابتدعها عقل الإنسان وحماها وتسبب في سقوطها أيضا.

المفكرون العظماء من سقراط حتى الآن لا ينبتون كالأشجار، وليس بمقدور أعظم عالم سلالات أن يستنسخ لنا عالما واحدا مهما كان تخصصه. التجربة الإنسانية تقول أنه ليس من سبيل إلى ذلك إلاّ التعليم. بل ويعود بعض المفكرين بالتعليم الحقيقي إلى أسلوب أفلاطون وهو طرح المشكلة والتفكير فيها لإيجاد الحل المناسب لها، فيتحقق الهدف، وبالمناسبة هناك الكثير من الجامعات الحديثة اعتمدت منهجا أساسه طرح المشكلة أو الحالة والتفكير في حلولها، منها الجامعة الدولية للعلوم الطبية في بنغازي.

إن الطريقة المثلي للتميز والتفوق هو التعليم عن طريق الامتزاج بالعلماء والعظماء؛ اطلع على أفكارهم اقرأ عنهم ولهم، أكثر مما تقرأ عنهم من أنصارهم ومن مورديهم. إذا أراد الإنسان أن تكون السياسة، مثلا، هدفه عليه أن يقرأ (مكيافيلي) و (بسمارك) و(لنكولن) و (تشرشل) و (عمر بن الخطاب)، و (على بن أبي طالب) و (عمرو بن العاص)، و (عمر بن عبد العزيز)، و (معاوية بن أبي سفيان). وباختصار شديد كل من يصادفه من السياسيين العظماء؛ فليس هناك عالم ولد بعلمه، وإنما برغبة حقيقية في تعلمه. والعلم ليس تلك الشهادات التي تمنح لك عن إجابات حفظت أجوبتها، ولكن العلم هو ما تتوصل إليه عبر تجارب الآخرين وتبدع فيها.

الإنسان يستثمر بتواصل حياته عضلاته كلها، ولكنه لا يستثمر عقله كله، حتى أن العلماء قدروا أن ثلاثي العقل لا يستخدم على الإطلاق، لدرجة أن أبحاثا تقول نتائجها أن الانسان لم يستثمر حتى الآن سوى 10% من قدرة دماغه، ولعل هذا ما جعل فترة التعليم المدرسي الممنهج تنتهي عند الطالب في فترة البلوغ، فبمجرد أن ينتهي من دراسته الجامعية يتوقف عن مواصلة التحصيل، فنسبة من يتوقفون تماما عن التحصيل العلمي مرعبة وما عليك إلاّ أن تنتبه إلى أفراد أسرتك ورفاقك من بعد نيل شهاداتهم مثلا. بل الأدهى من ذلك هو تخليهم تماما عما درسوه خصوصا إن عملوا في مجال لا علاقة له بتخصصهم. وتخلي الإنسان عما تعلمه وامتهان مالم ينفق سنوات في تعلمه، خاصية تميز بها الإنسان، فيما ظلت بقية مخلوقات الله تبدع فيما تخصصت فيه، العسل ما زال النحل يصنعه منذ بدء الخليقة، وبعض إناث العناكب تفترس ذكرها بمجرد أن ينتهي من مهمة التزاوج، ولم ينقرض النمل ولا الذباب، وانقرضت أضخم مخلوقات الله العملاقة مثل الديناصور. لم يتغير من مخلوقات الله إلاّ الإنسان، الذي ميزه الله بالعقل، وذاكرة تحفظ بلايين المعادلات والغرائز والرغبات والطموح والآمال والمخاوف.

الإنسان لم يتطور إلاّ بالعقل؛ عرف نفسه به، وعرف بقية مخلوقاته، وعرف خالقه أيضا. وطور نفسه وروض العالم لمصلحته، كل ذلك حققه بالتعلّم والتعليِم والعلمِ. لقد اكتشف أن العلم الذي يريده لا يحتاج للوصول إليه سوى الإيمان بقدراته، فالفقر ليس عائقا مثلما يدعى الناس على التعلم؛ فنلندا أفقر دول أوروبا ولكنها الأفضل في التعليم، وأراضي سكوتلاند ليست غنية على الإطلاق ومع ذلك تنفق على أربعة من أفضل جامعات أوروبا.

وتجربة أوروبا تؤكد أنها انتبهت منذ خمسة قرون إلى أنه من الخطأ أن تسفه العقول التي لا تنحدر من أعراق وأسر عريقة فالنظام الطبقي الإقطاعي، أبعد النساء، فاقتصر تفكيرهن على إرضاء الرجال وتوظيف عقولهن في هذه المهمة، كذلك تركوا العامة منهم لفلاحة الأرض وخدمة النخب. واقتصرت مهمة التعليم على إعداد الطفل ليقوم بمهمة في نهاية المطاف.

خلاصة ما كتبت استقيته من كتاب (Men’s Unconquerable Mind) الذي صدر منذ أكثر من ستة عقود مؤلفه (Gilbert Highet) وأخطر ما وجدت به ليست نبوته بتقدم العلم سنة 2000 أو أنه سوف يخلق الكثير من المخترعين والباحثين والمفكرين، لأن العقول البشرية سوف تجد لها منافذَ على الرغم من حالة الرفاهية والتشتت، وأن العالم سيكون خاضعا لطغيان شامل وسوف يسيطر عليه الكثير من الطغاة الإقليميين، وإنما وجهة نظر من ناقد عربي اسمه مروان عوض تقول:
“الكتاب محدود في الطرح، وغير مفهوم الهدف … أحداث من التاريخ ومواضيع عشوائية عن الفكر الإنساني المختزل لدى كاتبه عند الغرب على مر العصر: اليونان، والرومان، وعصور أورو المظلمة، النهضة، التنوير، العصر الصناعي، والتكنولوجي، والنزعة القومية الأوروبية تفوح من الكتاب، الذي كتب في الخمسينات. إنه ليس بالكتاب القيم أو المنهجي، ولكن مسلٍ قليلا … “.

مسلٍ؟ أنا لا أعتقد أنه كذلك! تماما مثلما لا أعتقد أنه لا أحد يفجر رؤوس أطفال أبرياء، لو أنه فقط (تسلى) بقراءة مثل هذه الكتب، القريب جدا من كتاب (توطين العلم أولا) الذي نشره الدكتور محمد المفتي من أكثر من حقبتين! نسيت أن أقول لكم أن الكتاب ترجمه إلى اللغة العربية فؤاد صروف وعنونه (جبروت العقل).

_________________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

حقيقة الطريق من مدينة الزاوية الى مدينة جنزور ، أياما مضت  

محمد علي المبروك

ستعلمنا الحرب ..

جمال الزائدي

إجابة عن سؤال فني قائم

زياد العيساوي

اترك تعليق