من أعمال الفنان محمد الشريف.
قصة

ثمانينيات.. !!

“قصة صغيرة لا أهمية لها.. من صميم الصمت والملل والكآبة الميتة”

 

 .

كان ذلك في منتصف ثمانينيات القرن الميت المنصرف، المتسرب من مجرور التاريخ مع ملايين الضحايا التي أخذها معه دونما استئذان من أحد، إلا من هتلر وموسوليني والرفيق يوسف فيساريونوفيتش يوغاشفيلي، أو باختصار (ستالين). كان اليوم أحد.. الجو غائم وقاتم وكاتم على النفس وينذر بالعاصفة والمطر، والوقت بعد الظهر، والمدينة خاوية على عروشها، إلا من بضعة سيارات هاربة من الزمن والمسافات، تمرق مسرعة بين الفينة والأخرى. كنت برفقة صديق عراقي)سابق)، ابتلعته لندن فيما بعد، وليس لدينا أي مخطط للمساء. مررنا بجانب كابينة للتلفون، فتش العراقي جيوبه مليا، ثم اخرج بطاقة تلفون وقال لي:

ـ ما رأيك لو مررنا على فلان إبن علانة، لنشرب عنده قهوة.. ؟!

ـ أنا لا أعرفه.. أعرف فقط أنه صحفي فلسطيني بإحدى جرائد بيروت، وأنه كان في ليبيا لعدة شهور، وهو يقيم حاليا في أثينا.

كان الشخص موضوع الحديث صحفيا فلسطينيا يعمل في إحدى الصحف البيروتية، إلتقيت به مرة واحدة، عندما كنت أمر بالصدفة من أمام فندق البارك هوتيل، فارتفعت عدة ايدي لجذب انتباهي من وراء الزجاج.. فدخلت.. وعرّفني عليه من أعرفهم. شربت قهوة اسبريسو.. وحيّيت.. ثم اختفيت.

كان عائدا من ليبيا بعد عدة شهور قضاها هناك، وقد حشى له ولاة الأمر في طرابلس أو سرت محفظته بشكل جيد، لكي يطبل لهم ـ ربما يزمر ايضا ـ لدى اللبنانيين في بيروت. ولكنه لم يكن مستعجلا على العودة، فاستأجر شقة صغيرة يقضى فيها عدة شهور باليونان.

أغلق صاحبي العراقي سماعة التلفون، وسحب البطاقة ببطء، ثم ابتسم كمن يعتذر.

ـ ماذا.. ؟!

ـ لا شيء.. قلت له بأنني أريد أن أمر عليه لأشرب قهوة عنده فوافق، ولكن فور أن قلت له أنني بصحبة رفيق من ليبيا، قال لي بأنه لا يريد رؤية أي ليبيين.

ـ ولا أنا أريد رؤيته.. دعك من هذه الخطة.. فهي خطة فاشلة ومملة لقضاء المساء. ربما معه حق.. بل معه حق بالتأكيد.. إذ لا بد أنه رأي من رزالاتهم وحماقاتهم وتفاهاتهم ما جعله يقرر أنه لا يريد رؤيتهم مرة أخرى، وأنه لم يتحمل رزالاتهم تلك إلا من أجل محفظته حفظها الله له.

شكرت الفلسطيني في سرّي، وإلا لكنا نجلس الآن في استوديو صغير، نشرب القهوة المرة، ونمضغ احاديث لا طعم لها.

تلكأت وصاحبي العراقي طويلا أمام الفترينات، حدّقنا في سيقان الصبايا المسرعات وأنوفهن المحمرّة بسبب البرد وسوء الحالة الإقتصادية. حدقنا حتى خرجت مقلنا من محاجرها، فمشينا بمحاجر دون مقل. أعمى يقود أعمى، حتى وجدنا نفسينا في آخر المطاف في جادة آخرنون.

ـ آآه.. صاح صاحبي العراقي فجأة.. هنا مقهي اعرفه.. ما رأيك.. ؟!

ـ جميل.. !!

كان المقهى يقع في آخر زقاق مسدود، ولذلك فأنت لا تسمع به اصوات السيارات. كما كان عدد الجالسين به يعد على اصابع اليد. إحتسيت وصاحبي لترا من الرتسينة*، في حين أعدّ لنا صاحب المقهى صحن مازة مضغناها بصمت بقر ابكم يجتر ماضيا مؤلما لا يريد تذكره. رشفنا رتسينتنا بصمت، واستمعنا إلى صمتنا.. بصمت. إذ لم يعد لدينا ما نقوله.. غير الصمت المتوج بالكآبة والملل.

وفجأة.. نهض صاحبي، وخرج من المقهى مسرعا دونما استئذان.. غاب خمس دقائق، ربما عشر، ثم جلس يحتسي كأسه كأنه لم يغب لحظة.

لم اسأله أين ذهب، ولا لماذا عاد.. فهذه بيانات شخصية لا تخص احدا غير صاحبها.

بعد ربع ساعة.. وصلت صاحبته اليونانية، سلـّمت، وجلست بهدوء. قام صاحب المقهى يجر شاربيه الثقيلين، واتى بكأس ثالثة.. فطلبنا منه نصف لتر آخر.

وللحقيقة وللتاريخ والجغرافيا وبقية العلوم الإنسانية، فإن المرأة ـ هكذا هي المرأة دائما.. ماء الحياة وملحها وحدّتها ـ قد نفخت نفس الحياة في طاولتنا الميتة. ورغم الهدوء الذي كان يميزها، فقد أخذ الحديث مسارات كثيرة متشعبة، نسيت خلالها أن اشكرها، ونسيت الفلسطيني، وبيروت، وفلوس ولاة الأمر في طرابلس وسرت.

كانت صديقته طالبة في السنة الأخيرة من كلية ما.. وكنت أعرف انها تخطط لاعتقاله مدى الحياة.. بالزواج منه. وذلك قبل أن يقلب عليها الطاولة، ويغطس طويلا، قبل أن يظهر على السطح في لندن، ويتركها وحيدة هي ومخططاتها الخفية في صحراء أثينا بلا خرائط ولا دليل.

عند التاسعة.. ربما العاشرة لا اذكر.. مللنا مجلسنا، أو مل منا المجلس، فخرجنا إلى الشارع.

الجو غائم ومثير للكآبة والحزن، وربما حتى للبكاء عند ذوي النفوس الرقيقة، أما تلك التي رضعت من رمل الصحراء.. !!

ـ هه.. !! دعك منها هذه.. إنها أشبه بجلد التماسيح.. !!

ـ دعك من ماذا.. ؟! قالت

ـ لا شيء.. قصة تمساحية قديمة جافة.. احيانا افكر بصوت عال دون أن أدري.

نظرت إلى مستغربة.. فيما كان العراقي مستغرقا في قراءة إعلان سياسي ما، ملصق على جدار المحطة.

ـ الجو كئيب.. هه.. !!؟

ـ ميلانخوليا.. !!

ـ ما رأيكما لو ذهبنا إلى السينما.. ؟! التذاكر عليّ.

ـ سينما.. ؟!!! ياااااااااااه.. ؟!! ما اقدمك.. ترى من أي عصر ماقبلتاريخي أنت.. !! لقد نسيت أن ثمة شيئا إسمه سينما.. من أين أتيت بهذه الفكرة السيريالية.. لا شك أنك تمزحين.

ـ ماذا تريدان إذن.. ؟!

وفيما ظل العراقي صامتا.. إقترحت أن نذهب إلى مطعم قريب نكمل فيه سكرتنا التي إفتتحنا بها ليلتنا “الصامطة” هذه في المقهى المعتم الكئيب، لأنني أفضل الموسيقى والطعام اليونانيين على هذه الـ”هوليوود”.

عند منتصف الليل.. تطرطشنا.. أو تفرتكنا.. أو أي تعبير آخر تحبه.. أويفضلك هو على غيرك يا عزيزي.. فانا “ما فارقة معاي” مثلما يقول اصدقائي السودانيون.

المهم.. !!

لا بد أننا حكينا كثير، لأنني ما عدت أذكر غير حركات يدي العراقي فوق الصحون والكؤوس، وهو يصب النبيذ، ويضع المازات في الصحون وهو يضحك دونما سبب، ثم وجنتي اليونانية وقد احمرّتا من النبيذ ونار المدفأة والحماس لبعض افكارها السياسية غير المفهومة. هذا كل ما أذكره، لأن المسجل عندي ليلتها كان مقفلا، أو بلا بطارية. فلم يحتفظ بشيء من بقايا تلك الليلة.

العراقي ذهب إلى شقته التي لم تكن تبعد أكثر من خمس دقائق على الأقدام.. اليونانية كان عليها أن تلحق بآخر باص.. حتى لا تدفع أجرة تاكسي.

وأنا.. !!

أنا لم أعد أذكر بالضبط.. إن كنت قد لحقت على آخر باص.. أو على اول تاكسي.. أم أنني لم ألحق على أي شيء بعد.. !!

ليزفوس.. مارس 2011

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الرتسينة.. نبيذ يوناني ابيض مخلوط بالمستكة او اللبان الذي تنتجه جزيرة خيوس.

مقالات ذات علاقة

شوارع الضياع

محمد المغبوب

الجنون

علي فنير

ضباب

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق