سرد

ثلاثُ نمْلات تعبرُ كِتابا

من أعمال التشكيلية الليبية .. مريم العباني
من أعمال التشكيلية الليبية .. مريم العباني

1

        بمراجعة بسيطة لحياتي ، أدركت بأنني خارج الكتابة لا أساوي شيئا . اعرف أن هذا الكلام خليق بكاتب قد أنجز كتبا عظيمة ، الأمر الذي لا ينطبق عليّ . لكن يكفيني الاستمتاع بهذا الإحساس كحافز لكي استمر في الحياة ، وان اكتب بغض النظر عن أهمية ما اكتبه . سمعت العجوز التي لا تريد أن تهدأ ، تكرر ” أين أنت أيها الضال ” . فهي لا تحبني ، وفي نفس الوقت لا تطيق غيابي . قلت لها يوما ، ” اتركيني لوجه الله فأنا تعبت ” . قالت  ” من أين لك أن تعرف الله وأنت لا تصلي يا خامل ،   صدق من قال : البطن تنجب الصباغ والدبّاغ ” . هي خرفة ومقعدة ، وأنا مريض بالكاد أمشي . لهذا سأكتب جملتي المستعصية والأصيلة  ، البارقة كالموت ، التي تترك الخراف لمشيئة الذئب . لا تلتفت ، تتركُ الصحراء وتمضي ، كما لو أن السؤال إجابة .

<><>

        أمس ، كنتُ أفضل حالا ، وإن بدوت كسولا كعادتي . لم أحلق ذقني . الصباح رخو ، فيما السماء استحالت غبارا استعار من شمس محجوبة ألوانا دامية وثقيلة ، تصنعُ المزيد من التطيّر والكآبة . اجتزت الدرج بالصعوبة نفسها كلما احتجتُ خبزا أو خضارا أو تخلصت من قمامة . حياني جاري ، القاطن في الطابق نفسه ، فرددت التحية بمثلها . سألني عن حالي وحال العجوز، فتمتمت مقتضبا ، فيما كنت أقطع الشارع بوهن ، حذراً ، متوجّساً .

<><>

      كنت لا أغادر شقتي إلا نادرا، محشورا معظم يومي في غرفة المكتبة ، غير هيّابٍ أن أتعفّن بجوار الجاحظ وابن المقفع و  بورخيس وكافكا وانسي الحاج ولاوتسو  وأغوثا كريستوف وخوان رولفو  وماركيز وكويلو  وآخرين . أن أتعفن بكرامة بين الكتب لهو أكثر شرفاً من الانتماء إلى عصابات القتلة .

     أحيانا أعزّي نفسي ، فأقول : سواء كانت أفكاري  واضحة أو مشوشة ، عليها أن تقترف مادتها بلا تحفّظ ، أن تخرج من كومة رأسي وتستعير ما يليق بها من عبارات . أن تباشر الإعلان عن كونها معنية بي بالقدر الذي يجعلها تشير  بطريقة واضحة ، يُفهم منها دونما لبس ، بان ثمة شخص ما يريد أن يكتب . وان كنت لا أجد  أيما غضاضة في الذهاب بالكتابة إلى فعل الغائط ، طالما لامناص للمرء من أن يتخرأ . هذا ما كان يجعلني اجتر قلقا مضنيا في صباح يوم الاثنين الخامس من نوفمبر 2012 حيث سيتعيّن على الكهل الذي كنته أن يستيقظ مبكرا ، وقد استقر عزمه أخيرا على الذهاب إلى مقر منظمة قدامي المحاربين . كنت مترددا ، أحسب المسافة من بيتي إلى هناك . في البدء كان لا مفر من تهيئة نفسي . تطلب الأمر وقتا إضافيا من العلاج  ، إذ قضيتُ قرابة شهرين وأنا اروز هذا الثقل . لأن مسألة الخروج إلى الشارع باتت تزعجني .  قالت العجوز كن شجاعا وتوكّل على الله ، فلم أعرها اهتماما ، حتى أنني أستغرب كيف  أمكنها سبر ترددي . أمي دائما تتربّص بأفكاري . هذه العجوز الخرفة عليها أن تدعني لحالي ، أنا ميّت منذ زمن ، ولا أريد تكريما أو تعويضا من منظمة المحاربين القدامى . فهم محض شلة متبطلة أقامت تجمعا ونشرت العديد من الإعلانات الدعائية  لجذب البؤساء والخائبين من جنود الجيش القدامى ممن شاركوا في حروب تشاد ولبنان وأوغندا ، وبذا استدرجت عشرات الآلاف منهم للتسجيل في عضويتها  وقد دفعوا لإدارتها  – عن طيبة خاطر –  رسوم اشتراك . بعد أن أغوت أولئك المساكين تلك الأرقام الخيالية بالنسبة لهم ، والمعلن عنها في الصحف المحلية والنشرات والمطويات الملونة ، كنوايا طيبة  لجبر الضرر أو هي بمثابة تعويض مجز عن أضرار الحرب التي خاضوها بأوامر من الطاغية . كنت قبل أن تقتحمني أخبار وحكايات مزاعم تعويض المحاربين القدامى  أؤثث سردا عن جندي – ربما ذلك أنا –  ، لكن ها قد تعذر عليّ العودة لمواصلة السرد . حيث أحاول دونما جدوى استئناف الكتابة في روايتي التي تقطّعت أطرافها . كما لو أن جريمة ما قد ارتكبت داخل مخيلتي لأسباب تتعلق بالعبث وحده حين تتمنّع اللغة  ، وأن قردة أشقياء يلعبون بأعواد ثقاب  داخل مستودع ذخيرة . لهذا :  عندما لا تعثر عَلَيَّ الكلماتُ ، أنا ضائع .

مقالات ذات علاقة

جزء من رواية

خيرية فتحي عبدالجليل

لابد أن تقول أن البطل لا يموت

محمد الأصفر

رسالتنا من النص الناقص

عائشة الأصفر

اترك تعليق