المقالة

تُونس من جِلدِ ثورٍ ليبي، وجدارها من رمل!

• من عليسه إلى وسيلة

تُونس البلاد الخضراء جيب في الصحراء الكبرى، بلادٌ تحوطها شبه قارة هي بحر الرمال التي تطفحُ على بحر من النفط، وتنقسم بين بلدين هما ليبيا والجزائر: ذكر في كتب التاريخ أن قرطاج تم بناءُها كمستعمرةٍ فينيقية -وهم قدماء اللبنانيين -بخدعة كبيرة: اتفق سُكان البلاد الليبية – كما كانت تسمى القارة الافريقية في ذلك الزمان-مع عليسه ملكة الفينيقيين على منحها أرض في قرطاج بسعة جلد ثور، قبلت لكنها احالت الجلد الى خيوط رقيقة مما مكنها من قرطاج -بلاد تونس-. هذه الحقيقة الجغرافية والاسطورة التاريخية جعل منها الفرنسيون دولة تونس الحديثة التي مُنحت استقلالها في 1956م. وبورقيبة الحاكم مدى الحياة، من كان الحاكم العربي الوحيد خريج السوربون، عمل على أن تكون جمهوريته جمهورية أتاتورك، وفي هذا كان نموذجا للغنوشي من اتخذ من اردوغان مثالا.

وقد مثل هذا، مجملا، قلقا للدولة التونسية الناشئة، وخاصة في علاقتها مع جيرانها، علاقتها مع الجزائر كانت علاقة مُرتبكة خاصة اثناء الثورة الجزائرية 1954 – 1962 م، نذكر مثلا ضرب فرنسا لبنزرت باعتبارها قاعدة للثوار الجزائريين، وأيضا في عهد الدولة الجزائرية كثيرا ما لجأ بورقيبة لفرنسا لحمايته من الجارة الكبرى ومن تدخلاتها في الشأن التونسي، ولعل تفاهم الغنوشي والسبسي الذي تم خلال الأعوام الماضية تحت الرعاية الجزائرية يبينُ الأهمية المطلقة للدور الجزائري في تونس التي تُسلم بهذا الدور ضرورة باعتباره من لزوم ما يلزم.

• شمس ضباع قفصه!

أما جارتُها ليبيا فقد كانت علاقتها معها كما الريح مع المراكب، علاقة شائكة تاريخيا، فحتى عهد الاستعمار كانت العلاقة مُتداخلة، حيث دفعت الحرب الليبية الإيطالية إلى تونس بهجرة ليبية كبيرة نسبيا من النخبة ورجال المال ومن المقاتلين، وحتى أجزاء من قبائل التي بعضها تمتد ارضها وبالتالي أبنائها في البلدين، ومن نتاج ذلك أن “بورقيبة” مصراتي الأصل ،ومن معارضيه المشهورين “الزليطني”، و”بن على” زوجته “الطرابلسية” وهي كما عليسه نافذة وقيل كانت ستكون الوريثة زمن التوريث، و” الطرهوني” القائد العسكري من أشرف على ترحيل “بن علي” وحمى الثورة التونسية، أما طرابلس الغرب فمن سكانها الكُثر من العائدين من مهجر تونس، ومن نساء تونس زوجات الكثير من بقية سكانها.

هل يمكن فك الاشتباك بين البلدين والحال كذلك؟

لم تكن العلاقة بين بورقيبة وادريس السنوسي علاقة سيئة لكنها ليست جيدة أيضا، فليبيا أعطت ظهرها لدول المغرب وان لم تعطِ وجهها لمصر أعطت قلبها كالتعليم مثلا، ولعل لا وعي ادريس السنوسي -من أصلهُ جزائري-ظهر في النشيد الوطني الليبي الذي كلماتُه لشاعرٍ تونسي وموسيقاه لملحن مصري!

هذه العلاقة ستنفجرُ مع انقلاب القذافي الى عراكٍ لا يتوقف، بورقيبة زعيم والقذافي قائد، بورقيبة رئيس مدى الحياة وشيخ المجاهدين والقذافي قائد الثورة أمين القومية العربية، بورقيبة محام خريج السوربون والقذافي ملازم ثان خريج كلية “بوعطني –كلية عسكرية في مدينة بنغازي”، ليبيا نفط وتونس سياحة وكلاهما بضاعة في يد دول الغرب. ويقول محمد مزالي رئيس الوزراء الأسبق في مذكراته: “واضطررتُ إذا إلى أن أقطع أية علاقة مع ليبيا، وبينما ترددتُ طويلا في الكشف عن أعمال التخريب التي يزمع النظام الليبي القيام بها في بلادنا (نظرا لتأثيرها في الرأي العام الدولي في بلد سياحي مثل بلدنا) قررنا في 6 سبتمبر إزاحة النقاط عن عمل تخريبي بالمتفجرات وقع في نزل في جربه، ومحطة بنزين في جرجيس في شرقي الجنوب التونسي، وسجلت اعترافات المجموعة (كانوا ثلاثة) على شريط فيديو وقع بثه واستغلته وسائل الإعلام.” هكذا يُلخص العلاقة فترة بورقيبة من دخل في عملية وحدة عام 1974 مع القذافي ما عُرف بدولة “الجمهورية العربية الإسلامية” التي أعلنت ولم تنفذ، ويفسر مزالي دوافع بورقيبة الوحدوية المفاجئة حينها، في مذكراته: “ولما دعاني مدير المراسم إلى استقبال الرئيس عند نزوله من الطائرة بمطار تونس قرطاج، لاحظت أن جميع زملائي شاطروني ما أحسست به من اندهاش وريبة  ولم تبدو على بورقيبة أي علامة من علامات الانشغال بل بالعكس ظهر مرتاحا لأنه وجد نفسه على رأس بلد أصبح أكثر ثراء بسبب عائدات النفط وارتفاع المساحة ولم يخف الوزراء الذين رافقوه ارتياحهم لأنهم اشتركوا معه في لحظة تاريخية”. لكن “مزالي” يشير إلى أن العركة الليبية التونسية عهد بورقيبة والقذافي، كانت دوافعها أيضا الصراعات الداخلية في تونس، حين يورد أن طرد القذافي للعمالة التونسية من ليبيا جاء أيضا بناء على طلب من “وسيلة بورقيبة” الطامعة في وراثة زوجها.

• جدار تونس الديمقراطي!

قاد انقلاب، لأول مرة في دول العرب رجل أمن هو “زين العابدين بن علي”، وقد ذكر لي أستاذ في كلية عسكرية تونسية على معرفة شخصية بـ “بن علي”: أن “القذافي” قد ساهم في دعم انقلاب 7 نوفمبر 1987م، وبأن “القذافي” كان على علاقة مبكرة جدا بـ”بن علي” الذي كان وزوجته معجبان به، وهذا جعل العلاقة بين البلدين تدخل في مرحلة صراع بارد، ودعم ذلك دخول الجزائر في دهليز لم تخرج منه بعد عُرف بـ “العشرية السوداء”، وتمكن خلالها الصنوان: القذافي وبن على من تفادي الإرهاب الذي اجتاح الجزائر، ولكن البلدين أُصيبا معا به وان في فترة زمنية أخرى.

عقب الثورة في تونس وليبيا، كانت تونس تعتبر الثورة الليبية تكملة وانجاح ومعاضدة لثورتها، ولهذا وقف رجالُ بورقيبة كـ”الباجي قايد السبسي”، رئيس الحكومة من 7 مارس الى 13 ديسمبر 2011، مع الليبيين وفتحت الدولة والشعب معا الأبواب على مصارعها لليبي فبراير، أما دولة الغنوشي وجماعة النهضة فقد اعتبرا نجاح اخوان ليبيا في السيطرة عليها بمثابة نجاح لهما، وكذلك فعل “أنصار الشريعة” وما يماثلهما من جماعات في اعتبار حدود تونس من “جبل الشعابني” إلى “وادي درنة” في الجبل الأخضر”، حينها كانت “الجزائر” ترى رجالها في ليبيا “رجال القذافي”، لم تتقاطع مصالح تونس والجزائر في ليبيا فكلاهما وجدا في التراجيديا الليبية وسيلة لتصدير الازمات الداخلية من جهة، ومن جهة أخرى فإن خطر الديمقراطية في تونس قد أمسى مهددا، وكما ظهرت “شمس الضباع” التونسية في سماء “قفصة” الثمانينات زمن “الحبيب بورقيبة” زعيم تونس الهرَم، تعاود الظهور في زمن الهرَم “الباجي قايد السبسي”.

بناء سور أو جدار يعني محاصرة تونس أكثر منه حمايتها، تونس الديمقراطية خاصة إذا كان جدار من رمل في بحر الرمال الأعظم. ومحاصرة ليبيا بجدار من رمل لن يُجدي، فعل ذلك “غراسياني” حين أقام سورا من الاسلاك الشائكة مع حدود مصر لمنع الامدادات عن “عمر المختار” الذي تمكن منه شنقا، وعلق رأس “الفضيل بوعمر” في ميدان البركة، كما لم ينفع جدار “إسرائيل” ما تحول الى موضة لتبرير وجوده.

إذا كانت ليبيا مُهددةٌ بالإرهاب ستكون تونس الديمقراطية، نعم تونس “بن على” لم يهددها الإرهاب الذي كان يعمُ الجزائر لأن ساعتها كانت تونس تأكل من مطبخ الطغاة أما الآن فلا، ولذلك لا مستقبل للديمقراطية التونسية حين يعم “الإرهاب” جيرانها وخاصة ليبيا. وتونس كما وضحنا من جلد ثورٍ ليبي، وأنها الفمَ الرطب للمفازةِ الكُبرى.

_______________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

شخصية ثقافية

رامز رمضان النويصري

الغناء بتعابير مُفتعـَـلة سلام قدري ليس أنموذجاً

زياد العيساوي

الصادق النيهوم يكتب في السنوات الأخيرة من حقبة الاستقلال – 30 مارس 1968

محمد دربي

اترك تعليق