المقالة

توّهمهُ مرضُه

صوّر موليير في «مريض الوهم» الشخص يَذهب وَسواسه بقُدرته على الحُكم بعقلانيَّة على الأمور. وجسّد مرضه في عذاباته ومعاناته في كونه عليه دائماً أن يُظهر للمجتمع عكس ما هو عليه في طبيعته.

عبر صراعٍ محمومٍ ودائمٍ مع حزمةٍ لا يَبدو أنها تَنتهي من الأمراض التي توهَّمتها نفسه، حتى بات كلُّ شيء يُؤلمه، في حين أن لا شيء يُؤلمه بالفعل. إذا نقلنا مرض التوّهم بالشئ من مجال البسيكولوجيا إلى مجال التاريخ والسياسة سيكون العرب، ساسة ورعيّة، في تاريخهم الحديث نموذج دراستنا الأثير. بعث جون فوستر دالاس سياسة الأحلاف بـ 50 ينيات القرن الـ20 ، ولحسابات أميركية تتعلّق بالحرب الباردة ضد ما كان يسمى بالاتحاد السوفييتي ومنظومته التابعة في أوروبا الشرقية تبنّى الرئيس الأمريكي أيزنهاور النظرية المصطنعة لملء «حالة الفراغ» الشرق أوسطي.

فتوّلد في المخيال العربي المعلول بالقابلية للاستعمار، ساسة ورعيّة، التوّهم المكذوب بأهميتهم للعالم بشقيه الرأسمالي والاشتراكي الذي أوهمهم بمُخيّالات أبرزها أن السياسة الخارجية الأميركية تدور حول مصالحهم فتُرضي مطامعهم وتبدّد مخاوفهم. الذي غدّى هذا الوهم محورية ما تعارف عليه المجتمع الدولي في حقبة الحرب الباردة وما بعدها بمشكلة الشرق الأوسط متناسين أن المحورية تتعلّق باستقرار ونظام دولة إسرائيل حديثة النشأة وليس بفوضى دويلاتهم القروسطية المُصطنعة. العامل السوفياتي والعامل النفطي في تأجيج تطرفات الحرب الباردة أعطى العرب هامشاً إلى جانب إسرائيل في اللعبة الدولية الشرق أوسطية التي قادتها أميركا في الحقبة المعادية للإمبريالية ولاعبتها مصر الناصرية والتي أنهتها اتفاقية السلام الإسرائيلية ـ العربية عام1978 ، والحقبة النفطية ولاعبها الكارتل النفطي السعودي وملحقاته العربية التي أنهتها نتيجة حرب الخليج الثانية بصدور قرار مجلس الأمن رقم (687) القاضي بوقف رسمي لإطلاق النار بعد حرب “تحرير الكويت” 3 أبريل 1991 ، واحتلال العراق بغزوه ه عام 2003 ، والحقبة الإسلاموية ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحاجة أميركا لعدو جديد هو الإسلام يملأ الفراغ في اصطناعية صراع الحضارات النظرية التي أحرقتها العملية الإرهابية التي استهدفت أبراج التجارة العالمية، في نيويورك بـ 11 سبتمبر 2001 فحوّلتها في الضمير غير الإسلامي إلى خُواف “فوبيا” الإسلام.

فوز الرئيس ترُمب الصاعق في الانتخابات الأميركية أكمل دقّ مسمار النعش الذي بدأه سابقه الرئيس أوباما في السياسة الأميركية ـ الشرق أوسطية بالانكفاء عن مزعجات ألف ليلة وليلة العربية. في مقالنا ببوابة الوسط22 يناير 2017 “قيدُ الرئيس وحريّتُه” كتبنا: “الكُل يتوقع أن يكون تأثير ترمب عميقا وواضحا على الولايات المتحدة والعالم. وبانتخابه رئيسا، سيشهدُ الأمريكيون واحدا من أكثر المنعطفات والتحولات في تاريخ السياسة القومية الأمريكية والسياسات عامةً، بأن تطرأ تغيرات على قواعد العمل الأساسية بالحكومة الأمريكية والمؤسسات الخاصة وكذا دور الولايات المتحدة في العالم بشكل عام”.

الكل توّقع التغيير الصاعق إلا النعام، ساسة ورعية، الذين يردمون رؤوسهم في الرمال العربية مكمن النفط المُبدّد بالعبث، كي لا يروا ولا يعوا مطمئنين إلى وزارة الخارجية التي أوهمهم بها هنري كيسنجر من أربعة عقود والتي يترّبع أخيراً على كرسي قيادتها ريكس تيلرسون الرئيس التنفيذي لشركة إكسون موبيل النفطية العملاقة الذي اختاره الرئيس الأميركي الفائز مادحه بناءً على مبدئه في إبرام الصفقات، قائلاً عنه عبر تويتر ،إنه “واحد من أعظم قادة الأعمال في العالم”.
الكاتب بصحيفة واشنطن بوست هاغ هيويت وصف الاستبدال الفضظ بطريقة ترُمب لوزير الخارجية ريكس تيلرسون بمايك بومبيو مدير الاستخبارات الأمريكية (سي آي إيه) بأنه ضروري للأمن القومي الأميركي لأنه سيزيل التباين الذي خيم على السياسة الخارجية بين الرئيس ترمب ووزيره للخارجية ريكسون، حيث سيتفهم الوزير الجديد أن وظيفته هي أن يخدم أجندة الرئيس وأولوياتها وليس خلق أجندة أخرى وفقا لوجهة نظره، وعندما يقول لأحد نظرائه “إن رئيسنا يعتقد..” فإنه يعني أنه هو أيضا يعتقد، مثل وزير الخارجية الأسبق جورج شولتز مع الرئيس رونالد ريغان ، ووزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر مع الرئيس ريتشارد نيكسون .

السياسة الخارجية التي سيقودها مايك بومبيو وفريق وزارته ملمحها الجوهري كينونتهم جزءا من فريق ناجح للأمن القومي بينه وزير الدفاع جيمس ماتيس ومستشار الأمن القومي هيربرت ماكماستر والمرشحة لمنصب مدير الاستخبارات المركزية ( سي آي أيه ) جينا هاسبل وأعضاء مجلس الوزراء الآخرون بالإضافة إلى كبار القادة العسكريين بـ البنتاغون.هذه الحركية المرتقبة رسم الرئيس ترُمب شعارها بكلمة “حيوية” قائلا إن مرشحه الجديد مايك بومبيو، سيتحرك بسرعة وحسم مع حلفائه الرئيسيين بمجلس الشيوخ بالتوازي مع سرعة التحرك لشغل المناصب المهمة بالخارجية وبذا ستغادر أميركا بالكامل سياسات الرئيس السابق باراك أوباما.

لن نضيّع وقتنا في التفكّر طويلاً في نافلة صفقة القرن المقترحة لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي التي تخص المريض العربي بالوهم ، ونمرّ عابرين على الصفقة شبه المنتهية بين واشنطن وبيونغيانغ مُذ قرّر الرئيس ترُمب بعفوية عاقد الصفقة الاجتماع مع زعيم كوريا الشمالية لإنهاء لعبته النووية المراهقة ونوّجه نباهتنا إلى مربط الفرس :”حيوية” السياسة الخارجية فيما لم يعتده رجل الأعمال دونالد ترُمب ولم يُنظّر له في كتبه وهو الخروج من الصفقة المُبرمة بأقل الخسارات وأقصد تعديل الاتفاق النووي مع إيران بما يعني فسخه.

إيران من جهتها اعتبرت إقالة ترمب لوزير خارجيته تيلرسون واستبداله ببومبيو، المعروف بمواقفه المتشددة محله، دّالة على مسعي أمريكي للانسحاب من الاتفاق الدولي حول ملف طهران النووي التي يؤكد مسؤولوها استحالة تغيير حرف واحد في الاتفاق، معلنين التزامهم أمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية المكلفة مراقبة الشق التقني، بتطبيق واجبات إيران المنصوص عليها في الاتفاق. للحيلولة دون التنصّل الأميركي ستستخدم إيران ورقة البلدان الأوروبية بنظرية أن الاتفاق علامة انتصار الدبلوماسية التفاوضية في مجال الحد من انتشار السلاح النووي. مسؤول إيراني ربط انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، بتخلي بلاده عنه إذا لم ينجح الأوروبيون في إبقاء الولايات المتحدة فيه.

في اللعبة الشرق أوسطية القادمة يبدو أن الإجراء “العملية Process ” الأميركي واضح .. الغامض هو” Process ” المؤسسة التفاوضية الإيرانية، شيء تمكن تسميته بغموض الشرق.

_____________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

نسج العنكبوت: أنا هو الآخر

أحمد الفيتوري

تطور النكتة السياسية في ليبيا

عمر أبوالقاسم الككلي

السؤال التائه: أين الكتاب الليبي؟!*

خليفة حسين مصطفى

اترك تعليق