النقد

تقاسيم.. وإبحار في النص الروائي لمنصور ابوشناف

بــرواية ” العلكة.. سراب الليل “

مازال “منصور ابوشناف” رمزياً كما عهدناه من قبل.. ولكنه في ” العلكة – وسراب الليل ” استطاع أن يراقص الزمن بإسلوب استثنائي وتفرد.. هذه هي الرواية الأولى لـ”أبوشناف “، والتي تقع في مئة وخمسين صفحة من القطع الصغير، وصدرت في طبعتها الأولى عن دار ليبيا للنشر عام 2008م.. أثناء قراءتي لهذه الرواية لاحظت منذ البداية ظلال شخص ” منصور ” في أحداثها، ولكنني أبعدت عن ذهني أي إسقاط لأحداث الرواية على حياة كاتبها الخاصة أو العكس، أو البحث عن الذاتية الضيقة فيها كما اعتاد بعض النقاد.. لأنني عرفت ” منصور ” إنساناً عقلانياً وموضوعياً وكاتباً ذا أسلوب مميز يرمي إلي أكثر من الذات بإبداعاته المتنوعة.. وهو ذو آراء متحررة لاتساع آفاق اطلاعاته وبعيد كل البعد عن الشخصنة.. !

 

عنوان الرواية ” العلكة.. سراب الليل ” ثلاث كلمات رمزية توحي للقارئ بإسلوب كتابة الرواية الذي اتبعه الكاتب قبل الولوج لموضوعها وتضعه في الحيرة مسبقاً.. وعندما ندلف الي متن الرواية نلاحظ أنها مقسمة الي لوحات منوعة ومعنونة دون أن يكون هنالك تواصل سردي فيما بينها.. إذ لم يجعل ” منصور ” الزمن ينظم أو يحكم تسلسل الأحداث الروائية فخرج بهذا عن التقليدية، واستخدم الارتجاع بمهارة فاتنة، وكذلك لم يجعل من شخصية ” البطل- مختار ” محور حكائيته.. بل نجد بعض من ملامح المسرح تتسرب الي الرواية، فتغلب على ” منصور ” فيها فكرة خشبة المسرح وتحديد مسرح الإحداث التي يعرضها في روايته بشكل يمكن تصويرها كلوحات مسرحية متراكبة.. فالرواية تشترك مع المسرح في خصائص كثيرة..!

رواية ” العلكة ” تاريخية في الغالب، لأنها عمدت الي عرض وتحليل بعض الأحداث التاريخية – الاجتماعية.. فالإبداع الروائي فيها ينهض على التاريخ بالأساس، حيث جسد ” منصور ” من خلال شخصيات روايته حقبة تاريخية معينة.. وقد اجتهد في الإفادة من التاريخ والاستناد على بعض عناصره ومكوناته الاجتماعية والسياسية والفنية.. فوجدنا أنفسنا كقراء أمام إشكال منطقي يتمثل في حقيقة ما تحتويه الرواية من أحداث.. وأمام تساءل.. هل ” منصور ” يكتب تاريخ.. أم يكتب أدب روائي.؟

هنا يتبع ” منصور ” بلزاك ويجعل من الرواية حليفاً للتاريخ.. إذ ربما يطمح من خلال سرده الروائي الي كشف النقاب عن حقبة تاريخية مغفلة في تاريخ ليبيا.. !

في ” العلكة.. سراب الليل ” للمكان أولوية مميزة واهتمام ملفت، رغم أن ” منصور ” فاتحنا بسيرة العلكة قبل كل شيء.. وأراد لها أن تكون علامة دالة على متغيرات حكائيته.. وهي دالة مادية محسوسة تفي بغرض الإيحاء المبتغى، حيث تستحضر الي الذهن حقائق أخرى وتبعث صور ذهنية تدل بمجموعها الي الواقع ” الماضي والآني “.. دون أن يهتم ” منصور ” بالقضية من حيث صوابها وبطلانها.. أو يعلق على تصرف شخصياته من الناحية الأخلاقية، وهذا الجنوح إلي السيميائية مثلت فيها ” العلكة ” علامة اعتباطية توحي بالكثير للقارئ.. فللرواية ملامح سيميائية جلية.. !

وقد أوجد ” منصور ” علاقات منطقية بين العلكة وبين سلوك بطلته ” فاطمة ” وكذلك بين العلكة وبين ” رحمة “، وبين العلكة و” عثمان ” وكذلك ” أستاذ الفلسفة ” وغيره، فقد جعل من العلكة عامل مشترك بين شخصيات روايته.. وكأنها المحرك المبتغى الخفي والمنطقي لكل الأحداث التي عرضتها الرواية..!

أما المكان ” الحديقة ” فهي الشاهد على الأحداث وصورة الوطن في الرواية، وقد تغذى السرد الروائي من خليط الحب والموت داخل المكان ” الحديقة “.. التي هي رمز الوطن في حقيقتها.. فسرد تاريخ الحديقة وعلاقتها بالليبيين ” ملاكها ” وأحداث ” السلب والاغتصاب والخيانة والقتل والقهر والجنون داخل الحديقة” الذي قامت به السلطات المتتابعة والغير منتمية الي ليبيا. أو ذات انتماء مشوه، وفي بعض الأحيان زبانية السلطات من الليبيين، كل أحداث المكان ” الحديقة ” تحاكي وقائع التاريخ وتفضي الي توحيد سيرة المكان وتاريخه بتاريخ الوطن السياسي على الأقل..!

وتجعلنا هي أيضاً أمام إشكال منطقي آخر.. وأمام تساءل.. هل شخصيات الرواية الورقية تمثل شخوص واقعيون عاشوا ذات الأحداث في زمن ماض..!؟

” منصور ” لم يبين لنا أو يطلعنا على ملامح شخصياته، أو يسهب في التعريف بها وبمحيطها وصفاتها وطباعها، بل ركز على علاقاتها بالعلكة ” الدالة السيميائية في الرواية “.

وبطلة منصور ” فاطمة ” تشبه بطلة حنة مينه ” لورانس ” في رواية ” عاهرة ونصف مجنون “.. ولكن همٌ ” منصور ” في روايته شبيه ومقارب لهم ” من الهم ” ” أحلام مستغانمي ” في ” ذاكرة الجسد “.. التي جمعت بين الحب الفرويدي ” الغريزة ” والوطن وواقعه الاجتماعي، ولكن سيميائية ” منصور ” متعلقة بطريقة ما بسيميائية ” امبرتو ايكو ” في روايته ” اسم الوردة “.. كأن ” منصور” أراد أن يحكي حوادث اجتماعية خلقتها السلطة، وان يصف جزءاً من التاريخ الحقيقي المشترك بين المواطنين والسلطة ” الملونة “.. فالتاريخ والرواية مترابطان ترابطا عضوياً في ” العلكة – سراب الليل “..!

بالفعل ” الحب والموت يغذيان وحدهما كل أدب “.. داخل الحب وبجوار الموت دارت كل أحداث رواية العلكة لـــ ” منصور “.. إلا أن الحب فيها ظل مجرد صورة جامدة وباردة دون حيوية تذكر كــ ” الحب الفرنسي “.. وأصر ” منصور ” أن يصفها بذات الوصف.. فالحبيب ” مختار ” وهمٌ للبعض مسمر تحت المطر، لم تتغير ظروف الحبيب المسمر ” والمطر لم ينقطع عنه “.. وهنا تلعب الرمزية دورها.. ويظل المطر رمز غامض.. !

أهم ما في الرواية ” التمثال “.. صورة الشهوة المخبئة في ظلام قبو، تاريخها وانتمائها المجهول.. دالة أخرى.. تمثل المنح والمنع.. وسيلة تفريغ لكل ممنوع.. ووسيلة إغراء فكري رمز للفكر المقموع وكل المكبوتات.. كما استخدم ” منصور ” معرفته بمميزات النقش الليبي.. كالتصاق التماثيل الليبية بصخورها، واختلاف هذا التمثال عنها، وأرخ للتمثال من اجل تكوين الرابط المنطقي، بينه وبين السلطات وبينه وبين واقع الليبيين.. فالتمثال من ناحية يمثل ” المرفوض ” من جانب السلطات على اختلافها، وهو أيضاً ” المشتهى ” من جانب الليبيين على اختلافهم ” مختار وفاطمة، الجندي والعساس والأساتذة..! “.. في التمثال أيضاً إيحاء خفي الي ” المرأة ” وواقعها الاجتماعي في ليبيا ” الظلام ” وتشوفها ورغبتها.!

أما ” الأفندي “.. فيمثل الماضي والتناقض.. كما يمثل استمرارية الطقوس السلطوية لحقب الاستعمار.. وان كان وجوده لإثراء الرواية بنسق ” درامي ” مشحون بالتوقع والفشل.. وهو بلا شك دالة أخرى تتضمنها رواية العلكة..!

الاختزال الذي تعمده ” منصور ” والإيحاءات الرمزية الكثيفة.. تحيط القارئ بظلال كثيرة لقضايا الوطن.. وقضايا المواطن ” الفكر – الحرية – المرأة – التاريخ المشوه – والجهل “.. وتلعب السيميائية دور كبير في إظهار جمالية النص الروائي.. ولا اعتقد أن هذه الرواية مشابهة للنسق الروائي الذي اعتدناه على ساحة الثقافة الليبية..!

 وتبدو للطابع المسرحي تأثيرات كثيرة على أسلوب ” منصور ” المكثف والمضغوط.. كما اعمل ” منصور ” ذكائه في الاختزال و” سيمياء ” الثابت والمتحول ليعطي روايته زخم فكري يتجاوز مجرد السردية ليتداخل مع الواقع من جهة ومع الفكر وحقائق التاريخ الغائبة من جهة أخرى.. وكأنه يوجه دعوة خفية لاستقراء التاريخ الاجتماعي والفني لحقب الاستعمار التي عاشتها ليبيا.. !

رواية العلكة.. تعبر عن الضياع الذي يكتنف اغلب شخصياتها، ويؤدي بها جميعاً إلي مصير اللوك المحتوم للعلكة.. وتبدو العلكة رمز منطقي للحياة رغم اختلاف مساراتها.. وهذا الحكم الخفي الذي أصدره ” منصور ” على شخصيات روايته يعبر عن المضمون الجوهري للرواية من الناحية الفكرية.. حيث يمهد ” منصور ” أمام شخصيات روايته الطريق ويسلك بها دروب قصيرة لتصل إلي نهاية متوقعة وهي ” اللوك “..!

ويبدو لوك العلكة مجرد رمز أدبي للتكرار الممل.. وإسقاط جلي على واقع زمني أنشرت فيها العلكة بشكل كبير في ليبيا.. كما استخدم ” الارجيلة ” لتمييز بعض شخصيات الرواية بظلال رمزية تهيئ للقاري كشوفات فكرية جديدة ومختلفة.. ويمنحه فرصة المقارنة..!

 اختار ” منصور ” خواتيم متباينة ذات طابع درامي لشخصياته.. ولم يشأ أن يذهب بالقارئ إلي نهاية مفرحة لان تفاصيل الرواية يغالبها السواد.. ولان تعاطف القارئ مع الشخصيات ظل يراوح مكانه، فلم تحمل الشخصيات صفة سيئة أو حميدة، بل امتازت بنمطية تخلط بين الاثنين.. وكأنه أراد أن يحيلنا إلي سبب ما ورائي نلتمسه من الدلالات السيميائية التي اختزل بها موضوع روايته ليفتح السبيل أمام أذهاننا لإرتجاعات وامتدادات فكرية تجمع الماضي بالواقع الحاضر..!

العلكة – سراب الليل.. ليست مجرد نص روائي.. بل هي موضوع فكري غزير.. لا نكاد نخلصه منه بسهولة لامتزاجه بنا.. وربما لتورطنا بـــ ” اللوك ” شأن شخصيات الرواية.. وهي أيضاً رؤية فكرية لــ ” منصور “، الذي لم يستطع الاستمرار في طرح موضوع روايته عبر شخصياتها، بل نجده يقتحم النص الروائي ليقترح خيار ” التأتأة “، ويمزجها بـ ” اللوك “.. الذي يختم به الرواية.. !

فالبطل ” مختار ” غادر التسمر ليقع في ” تأتأة ” الشوارع وهي ” لوك ” آخر مختلف.. وهو بلا شك كان محور الرواية وظلاً للكاتب طوال أحداثها.. !

اعتقد أن رواية العلكة – سراب الليل.. لــ ” منصور ابوشناف ” المملؤة بالدلالات السيميائية والأسلوب المكثف والتحولات والارتجاعات والرموز والإيحاءات المشرعة على الحياة والمخالطة للواقع والظلال النفسية، لا تنتهي عند ” انطواء التسمر وانتصار العلكة ” وعلامات التعجب المدرجة بآخر اسطرها.. بل تبدأ في القارئ وتسحبه لداخلها بطريقة ما، فنجد أنفسنا مرغمون على البحث والكشف عن ما وراء دلالات ورموز الرواية، أو نتورط في ” اللوك ” ونغدو وشخصياتها سواء..!

اعتبر ” العلكة – سراب الليل ” تجربة فريدة ومميزة، تمكن كاتبها من بعث الحيرة والدهشة والتوطن الفكري في ذهنية قارئه والامتداد من خلاله..!

مقالات ذات علاقة

“صندوق الرمل” لعائشة إبراهيم.. سردية عن المجهول فيما هو معلوم عن ليبيا!

المشرف العام

علي الفزاني في “رحلة الضياع”

المشرف العام

البناء النصّي في شعر عبدالمنعم المحجوب (11) .. الزمن الوجودي في ديوان (عزيف)

المشرف العام

اترك تعليق