شخصيات

بورتريه الفلاح

عن الشبكة

• من هو على الفلاح؟

هذا الذي يكتب المسرحية تلو الأخرى والذي بات مع قرينه منصور بوشناف محط حديث المهتمين بالمسرح في متاهة العزلة التي تدعى ليبيا، هذه البلاد التي ليست من المشرق ولا من المغرب فتغيب عن المكان وخرائطه كما هي غائبة عن الزمان. في هذه الرقعة يلعب علي الفلاح على مسرح الرمل هذا ويعبث، ينسج قصورا ويشيد أحلاما مصرا، على أوهامه قابضا عليها كما الجمر ومعتقدا أن مكمنه في مملكة الرمل.

(1)

لهذا فأول ملمح للمسرحي فيه، حس غليظ وشرس بالمكان، ديدنه الخربشة بالرمل على الرمل فالصحراء متاهته التي يرسم. وتشي مسرحياته به، فيكون على الفلاح هذا هو على الليبي أعنى أنه يمسك بما تبقى له من أسنان بمحليته، فهو في مسرحه أعطى بظهره أولا لأعماله الأولى وثانيا أعطى بظهره للمسرح العربي مستندا على حائط من الرمل. ثمة عناد وعض على هذه المحلية، حتى أن بعض الزملاء في المدن الأخرى من هذه البلاد أفصحوا عن عدم مقدرة على تعاطى نصوصه، التي شاهدوها في مهرجانات المسرح الوطني الأخيرة والتي عرف فيها على الفلاح ككاتب مسرحي ليبي.

وحرفية هذا المسرح لا تعتمد لهجة مغرقة في محليتها وحسب، لكنها في البنية السردية تحاكى حواريات عجائز بنغازي، في سرعة الإيقاع، في التقطيع، في النقالات غير المنطقية وفي الخروج عن السياق، بحيث تبدو الكتابة المسرحية: حكى نسوان.!
والخروج عن السياق يتم في تيمه أساسية هي علو النبرة من جهة، ومن جهة أخرى في

الثرثرة بمعنى أن التداعي هو السمة الظاهرة في هذا المسرح. كما أن العنف يصبغ البنية والموضوع ولهذا تظهر السياقات متقاطعة، والكاتب لا يهتم بالحدث الذي يبدو وهو المغرق في محليته مجرد (سبله) لهكذا مسرح.

إن الحدث كما الموضوع سياقه العنف، لهذا فإن تحطيم السياقات من سياق الكتابة المسرحية وفي هذا يتبع على الفلاح الشارع، فهو يستقى موضوعه من حال ساعة هذا الشارع فيبدو وكأنه لسان حال الشارع، فالحدث الدرامي طازج وبنيته مفارقة لذا فالمفارقات هي قماشة هذا الحدث الذي فيه الشخوص مجرد أقنعة تكشف عن الخواء، فأبطاله رجال جوف ونساء طبول.

إن الشخصية في هذا المسرح بصل لا لب له بالطبيعة، وهي شخصية كرتونية لا فعالية لها، مقطعة الأوصال وكاريكاتورية.

(2)

• للقنفذ أرومة ليبية ولعلي الفلاح أرومة ليبية

في جلسة خاصة – كنا نتحدث عن المحاضرة التي سيلقيها على الفلاح في موسم رابطة الكتاب الرمضانية قال الصديق فتحي السور – الذي شارك في عمل مسرحي مع على – إن الفلاح على شارف الخمسين من العمر، وهو من المخضرمين في المسرح.

شدني هذا التقدير لعمر هذا الكاتب الذي يبدو في مظهره كذلك، وأيضا يبدو كذلك في مسرحه من حيث أن محليته تستقي جذورها من النصف الأول للقرن الماضي فشخصياته منقرضة من ظاهر الحال. وكأن الكاتب يستعيدها من ذاكرة – ليست ذاكرته بالطبيعة فعمره لم يتجاوز الثلاثينات – ذاكرة جمعية، أو أنه يزيل الأصباغ أصباغ العطار فتفضح شخصياته حالنا وتكشر الغولة أنيابها فما تحت الرمل رمل وما في الصحراء رمل.

القنفذ كائن صحراوي وعلى الليبي كائن صحراوي، الصحارى متاهة العزلة والقنفذ كائن العزلة موطنه المتاهة أو المفازة، القنفذ وشوك الصحارى كائن واحد إذا ما أطل غريب وكل أحد غريب، وكأن القنفذ شوك وحسب.

(هنا أتوقف وأفتح قوسا لأذكر بقصص وروايات وأساطير إبراهيم الكوني، وشخصيات هذه النصوص الذي يبدو لي أن أهم ملمح فيها العداء الذي يضمره الكائن الصحراوي للأخر أيا كان هذا الآخر، ولعل ما ميز هذا الكاتب عالميا كشفه وتمكنه من أبراز هذا الملمح وخصوصيته. وأغلق القوس بالتذكير بأن على الفلاح قد أعد وأخرج مبكرا مسرحية العراسة عن قصة السلطان لإبراهيم الكوني المنشورة ضمن مجموعة القفص الصادرة طبعتها الأولى عام 1990م، عن دار رياض الريس – بيروت).

يبدو لي بأن الليبيين أناس على قدر ضئيل من الحقيقة كما الصحراء ضوء اللانهائي. ويقول اوكتافيو بات: نحن المكسيكيين لا نملك شكلا من شأنه أن يكون ذاتيا، فالمكسيكية لا يمكن تفسيرها بالاستناد إلى حالة أو اتجاه تأريخي محدد، إنها تأرجح بين تصميمات كونية مختلفة، تلك التي حملناها طوعا أو فرضت علينا واحدة بعد الأخرى، غير أنها اليوم لا تعنى شيئا البتة.. هذا الاغتراب هو الذي يهمنا أكثر بكثير من خصوصيتنا، إذ إنه: فيلسوف وجودنا.

ويبدو لي أن الكتابة المسرحية التي نحن بصدد الحديث عنها وهي تنزع للمحلية، تنزع لهذا وهي تضمر شوقا عارما على الالتحام بمتلق خاص تشاطره روحه، وأنها في ذلك تنحو لوهم الكشف عن هوية تفترضها كامنة في هذه المحلية بين قوسين الخصوصية.

وكأن ما يقتضيه الشغل المسرحي من تكنيك وبنية درامية ويقتضيه الموضوع يقتضيه أيضا ذاتية الكاتب، هويته التي هي هوية المتلقي المعين. فالمحلية في هذه الحالة مشروع مسرحي من جانب، لكن من جانب أخر رؤية في محددات الذات المبدعة والذات المتلقية.

لهذا فمسرح على الفلاح مسرح متلق، هذا المتلق هو مشرع شغل الكاتب المسرحي، فالذي نظر إليه النظارة بأنه إغراق في محلية هو ضرورة الكتابة المسرحية والرؤية عند هذا الكاتب ولهذا تقدم نصوصه شخصيات العزلة، كاشفة الاغتراب عن وبهذه العزلة في تيمة العنف التي تسطو وتتسلط على مجمل الأعمال فصاحة أو مسكوتا عنها.

القنفذ يتمظهر كشخصية مركزية في هذا الشغل وبطاقة هوية هذه الشخصية، انه الكائن اللامحدد أو المحدد بهذا اللاتحديد. فهل هو في هذا معتزل، وهل في هذه العزلة تائه، وهل في تيمته عزلته، هل هو أحد أم ثمة أحاد، هل لموضعته ولكتابته التي تحطم السياقات سياق، هل لمسرحه مسرح، هل لمسرحه مسرحيون، هل هو معزول أم منعزل عن المسرح بمسرح لا مسرح له، هل يكتب ما يكتب منغمسا في مشروعه ومحليته عن محيطه؟.

حرقة الأسئلة هذه لا تخصني وحدي بقدر ما يغص فيها كل معنى بها وعلى الخصوص على الفلاح، الذي كما هو يخرج في مسرحه عن السياق وأن البنية عنده تحطيم السياقات، فإني أنتوى أن أكون أيضا خارجا عن سياقي، وذلك باعتبار ما تقدم مجرد هوامش تقدمت متن وكثفت مقال في مسارب الفلاح الذي لم يفلح بعد أرض السؤال سوى بسؤال، لهذا وغيره فالمتن هو هذا:

• جهل ابن رشد

تحضرني رواية أحب أن أرويها كلما شدني ركح المسرح عن ركح شواغلي: في الرواية الثانية كان ابن رشد والفقيه فرج يتحدثان مع التاجر أبى القاسم الذي عاد لتوه من زيارة نائية. وكان أبو القاسم يروي قصة غريبة عن شيء ما رآه في “سين كالان” – كانتون – فقال: دار خشبية فناؤها الكبير شرفات ومقاعد تكتظ بناس ينظرون إلى منصة فوقها خمسة عشر أو عشرون شخصا غطوا وجوههم بأقنعة مطلية، وقد امتطوا صهوات جياد. ولم يكن هنالك أي حصان، وكانوا يبارزون ولم يكونوا مجانين، أوضح أبو القاسم، ولكنهم كانوا يمثلون أو كانوا يفرجون حكاية. لم يفهم ابن رشد قصده، فحاول أبو القاسم أن يشرح الأمر: تصور، قال، أن أحدهم يفرج حكاية عوض أن يرويها… وهل كانوا يتكلمون؟، سأل الفقيه… نعم، أجاب أبو القاسم… مادام الأمر كذلك، فهم لا يحتاجون إلى أشخاص كثيرين. شخص واحد فقط يستطيع أن يروي أي شيء وإن كان معقدا، قال ابن رشد.

وفي نهاية الرواية قرر ابن رشد أن يفسر كلمتي التراجيديا والكوميديا وينسبهما إلى المديح والهجاء. (هذا ما فعله ابن رشد في تلخيصه لكتاب أرسطو “الشعر”، إذ اقتصر تفسيره لفن الشعر على أساس الشعر عند العرب وأغفل كل ما يتعلق بفن الشعر الدرامي ولا سيما مقومات العرض من الجوقة والممثلين والسينوغرافيا).

لقد تطرق ابن رشد إلى تجربة المسرح مرتين وباقتضاب واستخلص فحواها دون أن يفهمها. وهذا ما نعتبره خسارة و لا سيما أنه كان يمتلك عدة نظرية جاهزة لتحديده. وفي المقابل كانت الحضارة الغربية في القرون الوسطي تمتلك التجربة الفعلية للعرض المسرحي ولكنها لم تكن تمتلك العدة النظرية الوافية للإحاطة بها.

ومن حسن حظنا أننا نملك اليوم الاثنين معا، ولكننا قد نتعامى عن الحقيقة أحيانا كما فعل ابن رشد، وللعمى ضروب: هنالك العمى بسبب انعدام الضوء، وهنالك بسبب ازدياده. فابن رشد لم يعرف أي مسرح على الإطلاق. وأما نحن فإننا نعرف مسارح كثيرة. كما جاء في مقالة ” سيمياء العرض المسرحي للمفكر السميائي والروائي الإيطالي امبرتو ايكو، المنشورة بمجلة الفكر العربي، العدد الخامس والخمسين، فبراير 1989م السنة العاشرة.

• مسرح داريو فو

لقد أوجد فو لنفسه لغة اختلقها من خلط اللغات الدارجة المتعددة في ايطاليا، لغة تدعى قرملوط وهي لغة اعتمدت على ربط سلسلة من الأصوات التي لا تحمل معنى ذهنيا واضحا في شكلها اللغوي، كلغة مدلولية، بل لها سياقها اللحني والموسيقي من خلال الإيقاع والنبرات التي تزخر بتلميحات تجعل سامعها يخمن و يحدس المغزى فيها. ويمكن أن يشبه إنجاز التعبير بالإيماءة الصوتية كالإيماءة الجسدية، لتجسيد الصور التعبيرية.

ومسرح داريو فو يعتمد على المفارقات والحالات والحوارات المألوفة في مسرح الكوميديا، استقاها فو من النصوص الشعبية ولكنه وظفها للحياة المعاصرة، وتميزت نصوصه بنوع من البناء النصي الشبيه ببناء مقاطع المهرج الذي يزاول فنه في السيرك والساحات العامة من خلال التمثيل الإيمائي واستخدام الحاجات الشيئية والحالات الطارئة مع المتفرج كعناصر من أجل خلق نسق تمثيلي مضحك. عن كتاب مسرح داريو فو ترجمة الدكتور قاسم بياتيلي في طبعته الأولى لعام 1999م والصادر عن دار الكنوز الأدبية ببيروت.

• حرقة الأسئلة

أقبل عبارة “الشعر الملتزم” عندما يقصد بها الكتابة التي تنخرط في علة وجودها، تستمر إلى منتهى مغامرتها، تلك التي لا تخشى إعادة النظر في ذاتها و لا حرقة الأسئلة.

إن الكتابة الملتزمة هي تجربة إبداعية متطرفة في شموليتها. في العملية الإبداعية لا يتم الالتزام مثلما يكون الانخراط في جمعيات إحسانية، يكون المرء ملتزما أولا في وظيفته، أي وظيفة مبدع يسعى للتحكم في الواقع الذي يرتوي منه كي يغير الوعي به، يكون المرء ملتزما بالصحو، الصحو الذي لا يرحم، لكن أيضا بالأحلام ضد البربرية المتعجرفة، انطفاء الأعين، تعقيم القلوب والأيادي الخصبة.

لقد اكتشفت أمرا بالغ الأهمية: فرغم كل المحددات الاجتماعية والاقتصادية والإيديولوجية والثقافية، فإن المرء يتوفر على حيز لا يستهان به كي يشيد شخصيته الخاصة به. إن فينا إذن مثلما يكون شعاع حرية مسجل في قلبنا ووعينا. لا شيء في الوجود يمكنه أن يفسد أو يحول اتجاه هذا الشعاع، اللهم إلا إذا قررنا نحن ذلك. إن شعاع الحرية هذا هو الذي يتيح لي الآن أن أعرف الإنسان، من حيث هو اسم جنس، الإنسان الحقيقي إذا شئتم، ذلك الذي يشعر بنفسه معنيا بمغامرتنا على الأرض. هكذا قال الشعر المغربي عبد اللطيف اللعبي في كتابه حرقة الأسئلة الصادر عن دار توبقال الطبعة الثانية 1990م.

وهكذا أختم هذه الورقة بمسك الختام الصديق المخرج والأستاذ المسرحي الليبي محمد العلاقي الذي أهدى له هذه الورقة امتننا وتقديرا وفهما لأهمية دوره في الثقافة الوطنية وعلى الأخص المسرحية منها.

كذا قال الشاعر الصيني وانج دان هو:

مشهد اليوم
ينتظر
مشاهد الغد.

______________________

نشر بموقع ليبيا المستقبل.

مقالات ذات علاقة

صالحة وتلميذاتها

فاطمة غندور

الشاعر السنوسي الحُمري

المشرف العام

شريفة القيّادي .. العصامية

عائدة الكبتي

اترك تعليق