المقالة

بلادُ وَأدَ مؤرخ اللحظة!

بوابة الوسط

1-
[علينا أن نناضل في الفترة الوجيزة المنوطة بنا بفاعلية بكل ما أوتينا من قوة. فليس في إمكاننا أن نلوم أحدًا أو نعظ أحدًا، ولكن علينا أن نستجيب إيجابيًا لأن نكون أنفسنا في جزء من العالم لا ينتمي إليه أحد سوانا]

بهذا القول الذي لا أذكر قائله ختمتُ مقالة لي منذ عقدين حول غياب الصحافة في ليبيا التي صدرت فيها أول جريدة عام 1866م، وكانت الصحف تصدر في ولاياتها الثلاث، بل إنها زخرت بالصحف منذ العهد العثماني وفترة الاستعمار الإيطالي، وكانت تصدر فيها الجرائد والمجلات الخاصة حتى تأميم الصحافة ما هو إلغاء للصحافة نظّر له القذافي وطبقه فعليًا. 

بهذا الإلغاء فقدت البلادُ مؤرخ اللحظة كما يرى المفكر الفرنسي (كامو) الصحفي، لقد أصبحت الأوراق التي تنشر في خلال عقود مجرد نشرات مطبوعة للنشرات المسموعة ليس إلا، أما الرأي فقد غدا أمرًا يؤدي لقطع الرقاب كما هو معلوم، وفي حد أدني الزج في السجون والحكم كما حصل مع صحفيين وكتَّاب منذ عام 1971م وحتى الربيع العربي.

أثناء ثورة فبراير 2011م خرج الجن من القمقم، فصدرت مئات الصحف منذ الأشهر الأولى وفي مدينة بنغازي عاصمة الثورة صدرت الصحف كما يجب وكما تكون الحرية وصدرت أيضًا باللغة الأمازيغية، فلقد حقق 17 فبراير ما لم يتحقق في تاريخ البلاد البتة، وعلى ذلك فقد تم تأريخ اللحظة الاستثنائية هذه كما لم تؤرخ مرحلة من مراحل البلاد، وما قامت به ثورة فبراير أن حولت ليبيا من بلاد الشفهي إلى بلاد التدوين وما حدث كان نقلة حضارية في فترة قصيرة ومميزة التي خلالها كان الشباب الليبي يتعلم ويتدرب من خلال التجربة التي وحدها كانت الجامعة والمانعة حقًا، وكأنما بهذا العمل الصحفي المميز ولدت البلاد من جديد وإذا ما كانت ولادة قيصرية وعسيرة كما تبين فيما بعد فإن الصحف التي صدرت حينها سجلت ورصدت تفاصيل هذا الممكن الذي لم يتحقق، وتلكم دونت ما تبين أنه بالإمكان أبدع مما كان، وبالتالي فليبيا فبراير مؤرخة ويمكن من خلال صحفها دراسة ما حدث وما نتج عنه من انقلاب عنيف ومتعسف من قبل قوى محلية مدعومة من الإقليم ومن القوى الدولية.

2-
كما حدث انقلاب على الثورة سبقها تمهيد تمثل في حرب معلنة على الصحافة المكتوبة التي أعيد تأميمها ومرة أخرى قام (القذافي) من قبره لتطبيق نظريته، وإن بقي بعض الثغور خارجة عن عسف المنقلبين فإنهم في عام 2014م أعلنوها حربًا سافرة ضد البلاد، وتم قبر آخر صحف فبراير وحتى اغتيل مفتاح بوزيد صاحب صحيفة برنيق. 

ولقد عايشتُ تفاصيل هذه اللحظة الاستثنائية منذ انبثاقها حتى إقبارها من خلال جريدتي (ميادين) التي صدرت في 1 مايو 2011م وتوقفت عن الصدور في 23 سبتمبر 2014م غصبًا وقهرًا. ومنذها لم تعد ثمة صحف وعادت ليبيا الصحافة صاغرة إلى عهد القذافي وأشنع. 

وقد تحول المتعاركون والمتصارعون على السلطة إلى القتال وفرض الإرهاب ما وسم المرحلة، وفي هذا الحال بدا أن أفضل وسيلة إعلامية لهكذا مرحلة ما تأتي به الريح وما يذهب معها، فغصت ليبيا في لغو وعجاج كلام في الكلام ما باستطاعة أي أحد وحتى لا أحد، عمّ الهذر عند قتل مؤرخ اللحظة.

أو كما جاء عنوان مسرحية منصور بوشناف التي صودرت في السبعينات وسجن مؤلفها: تداخل الحكايات عند غياب الراوي.

3-
السنة الخامسة تطل من ذكرى غياب الراوي والذكرى الخمسين 1969 / 2019م من استبعاد مؤرخ اللحظة، فالصحافة المكتوبة ما زالت تجول في الرقعة كملك شاء (الدوت كم) أم أبى، ما زلنا نتلقى رأي (الواشنطن بوست)، كما ما زال البعض يضايقه الرأي المكتوب رغم أن النت يوفره، ما زال الورق ويظل وثيقة ترفع في وجه كل جاحد رغم الآي باد والآي فون.

ولهذا حتى حين نحن بحاجة لأن نسترد ليبيا من ظلامها بالصحف التي هي كما صحف إبراهيم وموسي، وحتى ذلك الحين فإن الإنترنت كما الحمار يحمل أسفاره. 

وفي هذا الحال صفحات التواصل الاجتماعي والصحفي المواطن كمستحدث يقوم بمهمة الغائب، الذي غيابه متحقق من خلال اللغط الذي يدور حول العدوان السافر – وما يكاد يكون الغذاء اليومي- على الحريات وحتى الخصوصية منها، دون أن نتبين أن هذا العدوان مبتدأه وحتى خبره أننا نعيش منذ زمن طال في بلاد وأد مؤرخ اللحظة.

مقالات ذات علاقة

ملخص لكتاب يستحق الترجمة والنشر بالعربية

يونس الهمالي بنينه

حراك الشارع

رافد علي

طوفان الأقصى يغير المعادلة

خالد الجربوعي

اترك تعليق