الشاعر مفتاح العماري.
متابعات

براح للشعر

مثل الطائر الذي لا يترك سماء إلا ويخبط بجناحيه فيها قبل أن يحط في عشه آخر النهار طلبا للدفء والألفة واستعدادا ليوم عمل آخر , ها هي الجمعية الليبية للآداب والفنون وكالعادة في موعدها الذي يوافق الثلاثاء الاول من كل شهر تعود إلى الشعر وهو الفن الذي يتفق الجميع على عشقه وتقدير أهميته تقريباً , فلا أكاد اتصور شخصياً , إنسان لم يتفاعل يوما مع مقطع شعري أو بيت أو عبارة قالها شاعر منذ لحظات أو منذ قرون , ولا أتخيل شخصاً لم يستوقفه مرة قول شعري أو جملة بليغة سواء كانت بالفصحى أو بالعامية , فإنسان لا تهزه العبارة ولا يؤثر فيه الكلام الجميل لا وجود له في اعتقادي , ولأن له مريدين وأتباع ومنصتين لا تنسى الجمعية كل مرة ان تحتفي بالشعر وبالشعراء , وبالأمس القريب استضافت أحد الشعراء الراسخين في المشهد الشعري الليبي , استضافت الشاعر مفتاح العمَّاري وهو من هو في المدونة الشعرية , العمَّاري صاحب القصيدة الرشيقة والعبارة المثقلة بعناقيد الدهشة وأعذاق الأشتهاء , يحضر الشعر حيثما يحضر هذا الشاعر ويهطل غزيرا حيث يحط رحال كلماته , شعر يمتلك من صفات النقاء والقبول ما لا يمتلكه شعر آخر , حيث التئم شمل جمهور المثقفين مساء الثلاثاء الماضي بدار حسن الفقيه حسن للإنصات إلى ما تفضل به الشاعر الذي أخذنا في رحلة شعرية باذخة اقترح علينا خلالها توليفة من أجمل قصائده التي تراوحت ما بين القصيرة والومضة أو الشذرة والمتوسطة والطويلة نسبياً , وقبل القراءة نوّهَ الشاعر إلى ان ما سيقرأه من شعر يتوزع زمنياً على مساحة العشر سنوات الأخيرة .

الشاعر مفتاح العماري.
تصوير: عبدالقادر الكانوني.

إشارة البدء كانت مع الشاعر رامز النويصري الذي أدار الأمسية وقدم الشاعر بكلمة مقتضبة , ولأن رامز في الأصل شاعر والنشاط يتعلق بالشعر كان لابد من أن يتخلل المقدمة الشعر حيث مزج النويصري كلامه بمقاطع من قصائد الشاعر الضيف لتكون النتيجة قصيدة ثالثة طفيفة .

قرأ النويصري إثر هذا شيئا من سيرة الشاعر الأدبية والشعرية واستعرض في عجالة بعضا من مؤلفاته الشعرية والنثرية ولم ينسى مخطوطات الشاعر وما يعمل على إنجازه في هذا الوقت من أعمال روائية نتمنى لها أن ترى النور قريبا , والشاعر في نظري غني عن التعريف وكل من حضر الأمسية كما أتصور على احتكاك بشعره وبدرجات متفاوتة حيث اكتظت القاعة بالحضور الذي ترك كل أشغاله والتزاماته ذاك المساء البارد وجاء لينعم ببعض الدفء والشعر , ومثلما حضر الشعر صافياً نقياً حضرت الموسيقى في المكان عبر توقيعات الفنان بشير الغريب على آلة العود بنغماته التي تجولت ما بين التراث والمعاصرة وعملت كخلفية هادئة للإلقاء وسدّت كل الفراغات ما بين النصوص المقروءة .

” الألف ” هو عنوان أول القصائد التي قرأها الشاعر والتي يقول في مطلعها :-
أيها الألف شكراً
يا معلمي ويا معلم طفلي
كيف شطرت الباء بسيف لا يُرى .
ثم أنتقل الشاعر إلى قراءة قصيدته الثانية بعنوان ثكنات التي وردت في الديوان الصادر مؤخرا عن موقع بلد الطيوب ويحمل ذات الأسم .
حيث لا شيء يصمد طويلا في الحرب
نتشبث بالموسيقى , تلك الرفيعة .

هي قصيدة قصيرة افتتح بها الشاعر حزمة من الومضات الشعرية التي لاقت استحسان المستمعين وجعلت الأكُف تسارع إلى التصفيق بعد كل ومضة , لاكتنازها بالشعر ولانطوائها على حمولة عالية من الدهشة والإقناع والإمتاع .

وهنا يصل الشاعر وفي حضور جمهور متعطش للشعر إلى قصيدة ” كانتزارو ” التي قرأها بإلقاءه المتئد والهادئ , وحتى يكون المُنصت على بينة من أمره أوضح الشاعر أن كانتزارو هي بلدة صغيرة تقع في جنوب إيطاليا , ولأن الأقدار ألقت به هناك ذات رحلة وكعادته الشاعر لا يكتفي بالمُفترض والمُتخيل ليكتب الشعر بل يذهب مباشرة إلى الواقعي والمحسوس الذي يراه ويحسه ويستقبله بحواسه لينتزع من بين أنيابه الشعر المصفى ويحيله من كونه مجرد حدث عابر ومألوف إلى مدهش وباعث على الشعر , وهذا تقريبا ما حدث في هذه القصيدة التي تحتفي بالعادي والمتكرر ولا ترضى له أن يظل عادياً وخارج الشعر .

كانتزارو
شمس تعيد اكتشاف وقودها
مطر ملول يقصف الضوء
حافلات حمراء وصفراء تتسكع طيلة النهار
من جيليانو إلى جرمانتيو
تزدحم بالمسنين والفتيات الولوعات بالآيس كريم .

وهكذا يستمر الشاعر في رصد نبض الحياة في هذه البلدة الهادئة ورغم أن ما يرصده متكرر ونكاد نعثر عليه في أية بلدة أو قرية أخرى في العالم إلا أنه يصير شعرا وأدبا قابل للتذوق حين يلمسه الشاعر بقلمه , يصير باعثا على الذهول والفضول هذا الذي يسرده ببساطة فادح كما لو أنه أدب رحلة حتى أننا كمستمعين نتمنى أن نكون جزءً من هذا المناخ الذي يلتقط تفاصيله الشاعر ويعيد ترتيبه في قصيدته هكذا ببداهة فائقة وببساطة آسرة .
كانتزارو
جسور من الإسمنت والحكمة تربط ما تشظى
في جغرافيا الحرير وخرافات البحر
في كل خاصرة جبل , جسر فاغر يحملك
إلى جسر ينتظر قدوم عاشقين .
هذه هي كانتزارو البلدة الإيطالية الهادئة التي تعج بالمهاجرين :-
كانتزارو
هضاب خضراء تعيش وحيدة
وشوارع ذات بلاط نظيف , هي أقل كآبة في عيون المهاجرين .
ويختتم الشاعر قصيدته بهذا المقطع الجميل :-
في الثامنة مساء تقفل ” الشنترا ” أبوابها العتيقة
وتنسحب الضوضاء من ميدان الجندي المجهول
في التاسعة لا يوجد شيء للبيع سوى البيتزا والكحول والسجائر .
” أنا عبد الكاتب ” هي القصيدة التالية التي ألقاها الشاعر مفتاح العمّاري على مسامعنا ومن أجواءها :-
أنا عبد الكاتب
لا الكاتب
هجرتني الأسماء
وأضحت لغتي تعتعة مجاز
يشبه نشاز هذا المتن السكران
أنا عبد الكاتب
الكلام الذي يهجرني أهمله ردحاً
حتى يعود إلىَّ أقل , فأقل
ما يهجرني أضعه على رف بين بكاءين ضدين
أمحوه كي لا أذكر شيئا فيه يغويني
أحقنه بسهو ماكر يصعب كشف نباهته .

وهي قصيدة طويلة بعض الشيء كتبها الشاعر عام 2008 وقرأها علينا في الأمسية طازجة كأنها كُتبت بالأمس , ذلك أن الشعر الحقيقي لا يسقط بالتقادم ولا ينال من نصاعته الزمان إذ يظل نضراً وحيويا على الدوام ما ظل هنالك إنسان تضطرم بداخله المشاعر وتتحرك فيه الأحاسيس والعواطف ولنا في تراثنا الشعري العربي خير مثال على بقاء الشعر وتخطيه للأزمان بخفة وبائتلاق .

الأستاذ بشير الغريب، الشاعر رامز النويصري، الشاعر مفتاح العماري.
تصوير: عبدالقادر الكانوني.

كلب ينبح لتقديم النصيحة , هو مفتتح قصيدة أخرى نثرها الشاعر وفيها كدأبه يرصد بمخيلته الواقع ويحول العادي والساكن إلى شعر نابض بالحياة والدهشة كما لو أنه يمتلك عصا سحرية بها يلمس اليابس من الكلام فيغدو ريانا ويانعا وآسراً .

ومن أجواء قصيدة ” نساء النثر ” التي ألقاها الشاعر في الأمسية استمعنا إلى :-
كنتُ وحيدا في برد الثكنات أحرس مخازن النار
أحلامي مبعثرة وأوصافي ترتجف
وقميصي الكاكي يرفرف على الأسلاك الشائكة
أحب فقر فخامته
وشقاوة يديه
وأحب سين
أحبها قبل الخسوف وبعد الخسوف
أحب وشمها
يتمزق ورغبتها تنتظر في هذه القصيدة وغيرها
سين التي ليست محض امرأة وكفى
لأنها أكثر من لون يتبختر بين المحطات
وأكثر من حديقة في فستان واحد
أكثر من غابة تتربص في كلمة .

وهكذا يمضي الشاعر في مديح السيدة سين وفي نثر فضة كلامه هنا وهناك لتلقى أذاناً صاغية وأفئدة مشرئبه وذوائق منتبهة .
أيضا أسمعنا الشاعر قصيدة الشهيد التي يقول في بعضا منها :-
أيها الشهيد
ما الذي يجعل وجهك مضاءً ونحن من طين واحد
كيف يصعد المسك من ذاكرة ثيابك ودمك
كما لو أن قمرا عاشقاً يتجول في حديقة
كيف ونحن من لغة واحدة وأب واحد
بينما الزمان يترك خيالنا حزيناً
لينثر في حقولك نجوما مطمئنة
لماذا وحدك دائماً لست وحدك
فيما العالم من حولك ينتظر خائفاً
أيها الشهيد .

ومن ديوان ” مدونة النثر الليبي ” تلى علينا الشاعر الذي يعود متألقاً بعد غياب طويل عن المناشط الثقافية والأدبية مفتتحاً عودته الميمونة بأذن الله بهذه الأمسية الجميلة التي استقطبت المهتمين براهن الشعر الليبي , في آخر تجلياته وفي أحدث تحولاته فالشاعر مفتاح العمَّاري واحداً من ثلة من الشعراء الذين حملوا مبكراً لواء قصيدة النثر وحافظوا على توهجها واستمرارها في ليبيا بالرغم من المعارضة الشديدة التي قوبلت بها أبان ظهورها هنا في ثمانينات القرن المنصرم من قِبل التقليديين الذي اعتبروها قصيدة هجينة وغير أصيلة بالمقارنة مع القصيدة العمودية التي طالما آمنوا بجدواها حتى وإن لم تعد تلبي احتياجات الإنسان المعاصر وقصور إيقاعها على مسايرة ومواكبة الحضارة التي يعيشها العالم اليوم وتأخرها عن نسق العيش السائد الذي يتسم بالسرعة والتجاوز وازدياد الرصيد المعرفي لإنسان هذا العصر .

” من مدونة النثر الليبي ” ديوانه الصادر في السنوات الأخيرة , تلى الشاعر مقاطع من مطولته الشعرية التي اختزل في كلماتها سيرته الذاتية حين كتبها في هيئة نثر رقراق وشاعري إلى أبعد الحدود , حكى في هذه القصيدة عن طفولته وعما احتفظت به ذاكرته من مشاهد وأحداث , حكى عن أبيه ذاك الشرطيّ الذي يروض حصانه الناري براري بنغازي الوعرة وعن أمه التي تُعتق شعرها خارج النوم وتنشر القرنفل بقامة فتية , وعن جده الواثق من صلابة خياله وهو يقود الحكايات إلى مراعيها , ولم ينسى السنيورة مانويلا صاحبة الفيللا وكلبها الأليف تحدث عن أمكنة عديد إلِفها وألِفته ضمّها بين جوانحه كما ضمته من قبل , قصيدة ملحمية ضمّنها حزنه وشعوره بالمرارة لأجل نفسه ولأجل البلاد التي كانت بلاداً .

قبل أن يظهر الطاغية برتبة ضابط صغير على ظهر
دبابة صدئة
قبل أن يدلي ببيانه الأنقلابي عبر إذاعة بنغازي
يومها صدّقنا مكبرات الصوت وهي تضج بأمنياتنا
كان العالم طفلا يلعب بالطين والكلمات والنجوم
قبل أن تجفف الأحلام أربعين سنة على كوانين ماكرة
من دون أن يُسمع صراخها
قبل أن تُحرق الكتب وتُقطع أوصال القصائد
وتُنفى إلى خرافات مجهولة وغابات لا أثر لها .

وهكذا على هذا النسق المرير تستمر القصيدة التي يختلط فيها الخاص بالعام والذاتي بالجمعي ويستمر الشاعر في بث أحزانه وسرد مراراته ورسم غصته لكبيرة متوجها بالحديث لأبنه الصغير حين يقول ” أيها الآسر ” , كما لو أنهُ يريد أن يضعه في صورة ما حدث دون زيادة أو نقصان , كما لو أن الشاعر يريد أن يقول لأبنه الذي يتمنى له وقتاً طيباً وعمراً مطمئناً يريد أن يسر إليه قائلاً , أنا خلاصة كل هذه المرارات وزبدة هذا الظلم .

هكذا يحيرني سرد الآلام أيها الآسر
عندما يكون العالم خائناً لأدميته
هكذا أو أبشع مما في هذه الخاطرة من ترهات
قبل أثنين وأربعين سنة
حيثُ يتعذر على المخيلة التنعم بهبة السفر والغناء
والحفر على خشب الطمأنينة . .
ليختتم قصيدته ببارقة أمل وضوء يظهر في آخر النفق إذ يقول :-
نعم يا بني كانت لدينا رحى
وأرغفة وكلمات ومرايا نظيفة
كل صورة الحلم أو طائر أو حديقة
ستضيف المزيد من الحطب
حتى لا تذوب ظلالها في عناصر الليل .

عديدة هي القصائد التي قرأها الشاعر وأثث بها الأمسية بمرافقة أنغام آلة العود قبل أن يدركنا الوقت ليتم الإعلان عن انتهاءها بعد هذه المطولة الشعرية , وبطبيعة الحال نحن ومن خلال هذه المتابعة أشرنا فقط إلى بعض القصائد وليس كلها , وكنا نتمنى أن توثق هذه الأمسية بالصوت والصورة المتحركة حتى تكون متاحة للجميع البعيد والقريب الآن ومستقبلاً , فالعماري وهو الشاعر الإستثنائي لا يحيي أمسية كل يوم وشعر كهذا لا نستطيع أن نستمع إليه كل حين .

مقالات ذات علاقة

احتفالية إشهار الإرث الحضاري والثقافي لمدينة مرزق

مهند سليمان

تاريخ الدبلوماسية الليبية في محاضرة بطرابلس

عبدالسلام الفقهي

جلسات حول الآثار الليبية بـ«مهرجان من أجل ليبيا» في تونس

المشرف العام

اترك تعليق