قصة

‘بابور بالا’ ومتاحف الخيال

(بابور بالا) مجرد قصة خيالية، وإن كنتُ قد نسجتها من واقعة غرق سفينة تجارية يملكها ايطالي اسمه (أدجينو بالا): ففي يوم 3/8/1936م جنح هذا (البابور) أمام بوغاز ميناء بنغازي البحري، فعند التفافها نحو الشمال الغربي تسبب القمح السائب المسكوب في عنبرها في ميلها، فامتلأت بالماء وغطست. والحادثة وثقتها الصحف الإيطالية في حينها.

من خلال هذه القصة أردت القول أن الدين، أو المعتقد، هو قناعة مكتسبة، وأنه لا يفرق بين الناس، باعتبار أن الإنسان هو الإنسان أينما كان، وأن المحن والكوارث توحد بين البشر مهما كان معتقدهم.

والحقيقة أنني من أولئك الذين يعرفون أن أحداث التاريخ تولد وتحيا ولكنها لا تموت. وأعرف –أيضا– أنه ليس هناك تاريخا حقيقيا كاملا، بينما القصة عملا متكاملا باعتبار أنها تولد وتعيش عقل واحد؛ ينهي تفاصيلها كيفما شاء، ولذلك يندر كثيرا أن يجد القارئ إضافة لقصة ! أما التاريخ فكثيرا ما صحح، وكثيرا ما أضيف له ما كان مسكوتا عليه، وكثيرا ما أضيفت إليه وقائع وأحداث، قد تكون سقطت سهوا أو عمدا !.

وهكذا، فإن القصة – بما في ذلك الخيالية منها – هي تاريخ حقيقي (لها)، وقلما لا يجد القارئ وقائع حقيقية من أحداثها، خصوصا إن كانت تحتوي على شكل من أشكال السيرة الذاتية. وكثيرا ما تحول أبطال قصص خيالية إلى شخصيات واقعية لا يشك المرء مطلقا في عدم وجودها. خذ – مثلا – شخصية المحقق البوليسي (شرلوك هولمز)، التي ابتدعها الكاتب الإيرلندي الطبيب (السير أرثر كونان دويل).

(شرلوك هولمز) المحقق البوليسي الشهير، هو مجرد شخصية خيالية لا وجود لها على الإطلاق، ومع ذلك يقول مرجع حدد من البداية أن (هولمز) شخصية خيالية أنه: “عاش شرلوك هولمز، تاريخياً، في 221ب شارع بيكر، لندن منذ 1881، حيث أمضى العديد من سنواته المهنية مع صديقه الحميم دكتور واطسون الذي شاركه الشقة قبل زواج واطسون في 1890. وتشرف على صيانة الشقة والاهتمام بها السيدة مارثا هدسون، مالكة البناية”.

ولعل هذه (المعيشة التاريخية) لهذه الشخصية الخيالية هي ما شجعت على إقامة متحف لها في العنوان ذاته. فلقد أقام المعجبون بهذه الشخصية هذا المتحف، ثم تولته الدولة فيما بعد، ففي (بيكر ستريت) القريب من (أكسفورد ستريت) أشهر شوارع لندن التجارية، يدلك أحد المارة، إن سألته عن (منزل شرلوك هولمر) عن متحف يقف أمامه حرس بقيافة رسمية، ينظم طابور الزوار أمام الباب، وعندما تدخل سوف تجد قبعة المحقق هولمز، وكذلك سترته معلقة على المشجب بجانب كرسيه المفضل ـ وفوق المنضدة سوف ترى: غليونه الشهير، وعملة ذهبية مثبتة في سلسلة ساعته، وصورة لسيدة اسمها (إيرين أدلر) بطلة قصة من قصصه، وعلبة سعوط ذهبية وحجر كريم أهداه له ملك بوهيميا، وخاتم من الأسرة المالكة، وورقة مجعدة، مفتاح، عصا خشبية، وثلاث عملات قديمة.. وسوط ركوب الخيل، وايضا بضعة لوازم متنوعة أخرى ! ناهيك عن صورته مع صديقه وراوي سيرنه الدكتور واطسون التي تزين بهو الاستقبال ! ولن ترى مطلقا أي أثر لمبتدع الشخصية السيد (ارثر كونان دويل)!.

والعجيب – أيضا – أنه لهولمز تمثالا برونزيا منتصبا في حديقة من حدائق سويسرا! التي لا علاقة لها، لا بهولمز ولا بمبتكر شخصيته ! والغريب – أيضا – كما أفادني صديقي الدكتور محمد المفتي – أنه قرأ بحثا يعتبر أن المحقق (شرلوك هولمز) هو المؤسس الحقيقي لعلم الطب الشرعي أو الجنائي ! وبالطبع يعي صاحب البحث أن (هولمز) مجرد شخصية خيالية ولكن أساليبه في كشف الجرائم هي النواة التي أسست علم الطب الجنائي.

أما الطرفة الأخرى فهي أن زوار كتدرائية نوتردام في باريس، يسألون كل يوم عن غرفة الأحدب القبيح، الذي عشق تلك الفتاة الجميلة. والأحدب شخصية خيالية ابتدعها الأديب الفرنسي فيكتور هيجو في روايته احدب نوتردام التي كتبها عندما كان يبلغ من العمر 29 عاما! وترجمت إلى لغات العالم كلها وأنتج لها أكثر من شريط سينمائي، ولا يعتقد النقاد أن كل السائلين يعرفون أساسا من هو فيكتور هيجو؟!.

أما شخصيات الروائي البريطاني الشهير (تشارلز ديكنز)، وكذلك الروائيتين الشقيقتين (شارلوت وإيميلي برونتي) صارت مقياسا، أو بمعني أدق نماذج للمواطنين الانجليز في تذلك الفترة، ثم لماذا نبتعد كثيرا، أليست شخصيات الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ يلتقيها المرء كل يوم في أحياء القاهرة، ومقاهيها؟.

الشخصية الخيالية، التي ينجح مبتدعها في إقناع القراء بها، تصير حقيقية تعيش بيننا أكثر مما تعيش الشخصيات التاريخية الحقيقية التي لم تترك بصمة واضحة لها. ثم أن المؤرخ – أحيانا – يسهو، أو يتعمد لسبب أو لآخر إغفال ذكر شخصية ما، أو قد لا يهتم كثيرا بتفاصيل لا يرى لها أهمية من وجهة نظره هو، في حين أنها مهمة لفئة أخرى من الناس، بعكس الروائي الذي ابتدع الشخصية وتتبع سيرها حتى النهاية.

ذلك كله خطر لي بعد أن تكررت معي ثلاثة أحداث ارتبطت بقصة (بابور بالا) أريد أسرد أولها لطرافتها، والثانية لوفاء، وطيبة، وبساطة جيل جدات بنغازي، والثالثة لمفارقة القدر وعظمة ما يقرره القرآن، وسوف تتفقون معي أنه بالإمكان تصحيح التاريخ الحقيقي ولكن ليس بالإمكان تصحيح الشخصية الخيالية.

سواق القنصل

بدا لي أنه متزن، أنيق الهندام.. قميصه (المشماشي)، مفتوح من دون رباط عنق متسق تماما مع بدلته البنية. حذائه البني نظيف. لم انتبه إلى عدم استقرار عدستي عينيه الزائغتين، فلقد انشغلت بمراقبة التواء شفتيه الدقيقتين المتسقتين مع أنفه المدبب فوق وجهه النحيف المغطي بشعر خفيف كشعر دمية.

عندما جلس قبالتي استقرت قدمه اليمني فوق الأرض، أما الثانية فلم يستقر منها سوى المشط أما باقي القدم والساق أخذا يهتزان من أسفل إلى فوق في حركة متصلة لم تتوقف حتى بعدما مال نحوي، ملوحا بصحيفة ملفوفة في قبضته، وهو يقو:

“أنا استغرب كثيرا – يا أستاذ محمد – كيف يستطيع كاتب يدعى النزاهة والصدق أن يتعمد تغيير اسم راوي قصته، في حين أنه يذكر بقية شخصيات حكايته بأسمائها الحقيقية، خصوصا وأن القصة حقيقية وموثقة، والناس كلها تعرف ذلك!؟”.

لم استوعب السؤال، ولم افهم هل كان يقصدني شخصيا، أم أنه يقصد كاتبا غيري؟ شدتني نظرته (الهولمزية) المتفحصة. والحقيقة أنني لم استطع أن أقرر إن كانت مستفسرة أم عارفة، جادة أم ساخرة.

“سامحني..” قلت له: “لم افهم تماما ماذا تقصد؟” أجابني سريعا:

“لماذا غيرت اسم سائق القنصل من مسعود إلى رضوان في قصة (بابور بالا)؟” لم ينتظر جوابي و إنما واصل: “هل ذلك بسبب حقدك على صهره ؟ كلنا نعرف قصة نزاع شقيقك معه بسبب شقة سيدي حسين ؟..” قاطعته:

“على رسلك.. أولا: أنت من ؟”.

– “خليفة مسعود.. ابن سائق القنصل يا أستاذ..”. قاطعته لان صوته ارتفع، وأيضا ذراعه الممسكة بالصحيفة المطوية: “يا أستاذ خليفة، لا شقيقي، ولا أحد من عائلتي لديه نزاع مع أحد.. لا على شقة ولا على عمارة. ثم تأكد أن شخصية رضوان سائق القنصل خيالية لا وجود لها إلاّ في خيالي…” قاطعني محتجا:

“كيف ؟ الصحيفة الايطالية، التي كتبت قصة غرق البابور، ذكرت أن القنصل الإيطالي هو الذي استلم الفتاة (أرمانا) ووالدي هو من عاد بهما من الميناء، لأنه يعمل بالسفارة آنذاك ا..”.

“أتقصد من أيام الطليان.. يعني منذ أن كانت ليبيا مستعمرة ايطالية؟”.

“نعم، يا أستاذ. لو أنك تريثت ودققت لعرفت ذلك من دون أن يضيع حق أحد بسبب تسرعك!”.

لم أدر ماذا أقول ؟ ورأيت أن انهي هذا النقاش، فالرجل بدأ لي (خارج نطاق التغطية !) فاعتذرت له هذا الخطاء غير المقصود، ووعدته بتصحيحه مرة ثانية وانتهزت أول سانحة وفارقته.

لعلني تبسمت، أو أنني ضحكت، من فكرة سفارة لايطاليا في مستعمرة من مستعمراتها، فلقد استوقفني صديق مستغربا، فقلت له: “تذكرت صديق استغرب كثيرا من عدم وجود سفارة ليبية في طرابلس ؟ على الرغم من معرفته أن لكل دول العالم سفارة في طرابلس.. إلاّ ليبيا!”.

عنوان السيدة (أرمانا)

عند مغرب يوم ربيعي، طرق بابي شاب هادي الملامح. قدم نفسه بأدب، مضيفا أنه صهر صديق لي. دعوته للدخول فاعتذر. أخبرني أنه جاء يشكرني نيابة عن عائلته عما كتبته عن والده في قصة (بابور) بالا:

“الحقيقة أننا ممتنون لتناولك قصة والدنا، وإشادتك بتضحيته. ثم أننا نود لو كان بمقدورك أن تفيدنا عن عنوان السيدة الإيطالية، التي أنقذها والدنا.. الحاجة تريدنا أن نتصل بها لنشكرها على وفائها!”.

أعترف أنني انفعلت بطيبة الحاجة، وتخيلتها بسيطة وفية مثل أمهات الأربعينيات والخمسينيات. لابد أن أحد أبنائها حدثها عن القصة، ولابد أنها فخورة بشهامة (المراكبي) ولابد أنها تذكرت ليلة فقدانه.. ومع ذلك كله أحستْ بوفاء (أرمانا) واحترمته!.

ولكنها كيف تتقبل حقيقة أن (أرمانا) مجرد شخصية خيالية لا أساس لها في حقيقة قصة تضحية زوجها وفقدانه ؟ كيف تتقبل أن المرأة التي فقدت زوجها بسببها لا أحد يعلم عنها شيئا من 3/8/1936؟.

دعوت الشاب للجلوس معي على عتبة البيت، ثم شرحت له القصة وبينت له سبب ابتكار شخصية (ارمانا). والحقيقة أنه تفهم الأمر تماما، ثم اقتنع برائي عندما نصحته بالا يخبر والدته بأن (أرمانا) شخصية خيالية:

“دعها تعيش الخيال، فذلك لا يصرها في شيء بل يسعدها أن تعرف أن إنسان آخر يشاركها الإعجاب بشهامة زوجها ! قل لها أنك لم تتحصل على عنوانها بعد وإنك تسعى للحصول عليه. لا تحرمها من الأمل، فهو البلسم السحري الذي لا يحيا أحد بدونه”.

البحارالجبلي الذي رفض أن موت مبلولا !

“عندما غمر الظلام الأفق الساجي الممتد أمام بوغاز ميناء بنغازي ليلة 3/8/1936 م، أخذت الجموع تتفرق. كل من كان له أحد في (بابور بالا) اتجه إلى بيته استعدادا لاستقبال المعزيين، فمن يتوقع ناج بعد أن انقضى يوما كاملا على غرق السفينة ؟ من بمقدوره أن يسبح كل هذه الساعات؟”.

وفيما كان ذوي ذلك البحار، الذي جاء إلى بنغازي من غريان صبيا يهيئون شارعهم لسرادق العزاء، كان ذلك الغرياني الجبار يسبح فوق رؤوس الأقراش الشرسة، في ذلك الليل البهيم.. مؤكدا لنفسه أنه لن يموت مبلولا: “لن أموت إلاّ تحت زيتونتنا في غريان.. أنا وعدت والدي بذلك، ووعد الحر دينا عليه..” ظل طوال الليل يسبح ويغني في سره بأنه لن يموت مبلولا!.

ظهر اليوم التالي، هب الجالسون أمام بيت الغرياني عندما شاهدوا فقيدهم مقبلا نحوهم وبعدما احتضنوه مبتهجين بعودته، لم يطل بقائه، فقد فارقهم ليطوف على منازل رفاقه، الذين ابتلعهم البحر. وما أن أبل من حزنه حتى عاد للبحر كأنه لم يذق غدره. الجوع كافر، والفقر مدقع، وأبواب الرزق قليلة. لم يكن لأمثاله إلاّ البحر.. هذا البحر العجيب، بوابة الخير وبوابة المصائب

بعد اثنين وخمسين عاما. قرر أن يزور مسقط رأسه في غريان.. هناك مرض لمدة يومين ثم توفاه الله. وعندما قرر ذووه أن يدفنوه اكتشفوا أنه هناك، أسفل زيتونة عتيقة، مساحة كافية لقبره بين قبر والده وقبر أخيه، فدفنوه فيها.

المرحوم بشير محمد الغرياني، هو بطل هذه القصة الحقيقية، وما كنت لأعرفها لو لم يحدثني عن تفاصيلها بالصدفة ابنه صديقي محمد بشير الغرياني. الذي يعمل للصدفة العجيبة في مجال تسيير (بوابير) تشق بحار العالم كل يوم!.

لم اعثر ضمن الوثائق، الذي تناولت غرق (بابور بالا) ما يشير إلى نجاة هذا الغرياني الصلد، ولكن الكثير من الناس الذين عاصروا تلك الكارثة يعرفون أنه نجا من تلك الكارثة.

لعلني كنت ستناول قصة هذا الغرياني الجبار بهذه الكيفية لو أنني عرفتها في حينها، ولكن ألم اقل لكم أنه لا تاريخ كامل ؟ فكيف عرفت قصته؟.

ذات ليلة، كنا نتحدث عن الأسماك، فقلت لهم:

“ليس ثمة سمكة في شواطئنا أفضل من المناني.. الصيادون القدماء يسمونه (حولي البحر)..” عندها عقب صديقي محمد الغرياني:

“هذه مقولة والدي – رحمه الله -..” ثم استطرد بملامة: “والدي، الذي، ظلمته يا حمادي، ولم توثق نجاته من الغرق مع (بابور بالا)!.”

والحقيقة أنني لم اسمع من أحد أن هناك من نجا من الغرق أكثر من (البرعصي) فقص على قصته بحسب ما ذكرتها في السابق. بعد أن تفارقنا كتبت قصته، لأنني أيقنت أنه:

لا أحد يدري كيف كتب التاريخ الذي لم نعاصره، ولا كيف سيكتب تاريخنا إن لم نوثقه ؟.

18/8/2008

 ________________

1- ويكيبيديا (الموسوعة الحرة).

مقالات ذات علاقة

الحاكم الظالم

ريم العبدلي

قصص قصيرة جداً

جمعة الفاخري

ولا تسأل عليّا

المشرف العام

اترك تعليق