من أعمال الفنان التشكيلي علي الزويك
قصة

اِسْتِفْزَازٌ

ZWIK_03

فَلْنَكُنْ صَدِيْقَيْنِ ..
أَنْتَ لا تَعْرِفُنِي .. !؟ هذا لا يَهُمُّ كثيرًا .. فكم من أَشْخَاصٍ لا نَعْرِفُهُم مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونُوا أَصْدَقَاءَنَا .. أَنْ نَتَبَادَلَ مَعًا أَدْوَارَ الْحُبِّ وَالصَّدَاقَةِ .. إمَّا إِنْ كُنْتَ تَعْرِفُني فَهَذَا حَسَنٌ جِدًّا .. مَكْسَبٌ مُفِيدٌ لمصْلَحَةِ اللُّعْبَةِ الماتِعَةِ التي سَأَقْتَرِحُهَا عَلَيْكَ .. أَعْنِي عَلَيْنَا مَعًا .. ألن نَتَشَارَكَ في اقْتِسَامِ الفرحِ ..؟

رَائِعٌ .. فَإِنْ كنْتَ تَعْرِفُنِي .. أو حَدَثَ وأن عَرَفْتَنِي حَقًّا؛ فذلكَ أيضًا لمصلحَةِ اللُّعْبَةِ .. فَسَتَتَخَيَّلُني وأنا أقاسِمُكَ مُتْعَةَ اللَّعِبِ .. ولذَّةَ تجْزِيَةِ الْوَقْتِ .. وَقَتْلِ الملَلِ الْعَفَنِ .. مقدِّمَةٌ طويلَةٌ، أليسَتْ كَذلكَ ..؟
ثرثارٌ أنا .. بل قلمي هو الثَّرثَارُ، يريدُ أن يستفزَّنا معًا قبلَ أن يشرعَ في شرحِ اللُّعْبَةِ.

إِن كُنْتِ أُنْثَى، فأضيفي ( ياءَ المخاطبَةِ ) إلى كُلِّ فعلِ أَمْرٍ تُصَوِّرُهُ اللُّعْبَةُ لمن يَمُدُّ وَجْهَهَ أَمَامي .. هل اِتفقْنَا ..؟ شَكْرًا .. مدِّي وجَهَكِ نحوي إذن .. مدِّي أُذنيكِ إليَّ استماعًا .. وقلبَكِ تحمُّلاً .. تحمَّلي مدَّ حرفي قليلاً؛ النِّسَاءُ أكثرُ تحمَّلاً للْمَدِّ منَ الرَّجلِ ..
فلنتفقْ على ذكورَةِ الممدُودِ .. ذكورَةٍ افتراضيَّةٍ محضَةٍ .. في البدْءِ كانَ آدَمُ .. ثمَّ اِمْتَدَّ النَّسْلُ والأحيَاءُ والحيَاةُ ..
هل أَنْتَ جَاهِزٌ ؟

أعرفُ أنَّ المللَ قد بَدَأَ يُصيبُكَ مِنِّي .. من قلمي .. آسِفٌ .. أَرجوكَ لا تجعلِ اللُّعْبَةَ سَمِجَةً من مبتدَرِهَا … اصبرْ على ثرثرَةِ قلمي .. أحيانًا نكتشفُ في الآخَرِ ألفَ لِسَانٍ .. ههه .. هذا قد يحدثُ كثيرًا معي .. أعني في هذهِ اللُّعْبَةِ..
أمستعجلٌ أنتَ ..؟
على ماذا ؟ على بَدْءِ اللُّعْبَةِ ..؟ أم على التَّخَلُّصِ من ثرثرتي ..؟
لا يهمُّكَ ؛ سأبدَأُ الآنَ ..

اجلسْ قبالتي .. تخيَّلْني .. تخيَّلْ أنِّي أجلسُ قبالتَكَ أيضًا ..
أَمَدُّ وجهي بسذاجَةٍ أمامَكَ .. لا .. أقصدُ أَنَّكَ سَتَمُدُّ وجْهَكَ أيضًا أمامي .. أمامَ وجهي الممدُودِ .. لا تغضبْ، ففي اللُّعْبَةِ يَمَدُّ كلانا وَجْهَهُ .. ولا خِلافَ على أنَّ الإنسانَ يمدُّ وَجْهَهُ على امتدادِ عمرٍ طويلٍ ممدودٍ مملوءٍ بالسَّأَمِ والقرَفِ والثَّرثرَةِ .. ومَدِّ الوجْهِ أيضًا .. ههه .. الأمُر مُضحكٌ أليسَ كذلكَ .. !؟

لا عليكَ .. مُدَّ وجهَكَ .. عفوًا .. أقصدُ مُدَّ يدَكَ .. ابسطْهَا كُلَّ البسطِ .. سَأَضَعُ فيها شيئًا .. قد لا تراهُ .. لكنَّهُ موجودٌ فيها حقيقةً .. لم تَشْعُرْ بِهِ ..؟ .. غَبيٌّ .. آسِفٌ .. تَصَوَّرْهُ .. لماذا تمدُّ وَجْهَكَ بِبَلاهَةٍ فَاحِشَةٍ ..!؟ تَصَوَّرْهُ وَخَلِّصْنَا .. صِرْتُ أشعرُ مَعَكَ بالضَّجَرِ .. الحقُّ عليَّ إذ رَضِيتُ أن أَمُدَّ وجهي أمامَ وجهِكَ البَارِدِ .. لا .. لا تَلْمَسْ وَجْهَكَ لِتَتَحَسَّسَ بُرُودَتَهُ .. اكتفِ بمدِّهِ وَحَسْبُ .. !
حسنًا فلأمدَّ خُطَا حرْفي باتجاهِكم ..

هل تخيَّلْتَ أنَّ في يدِكَ شيئًا ما لا تراهُ ..؟ حسنًا .. مثلَ ماذا ؟
قَبْضُ الرِّيحِ مثلاً .. العُمُرُ الَّذِي وَلَّى .. الخِلُّ الوفيُّ .. الأحلامُ الكَاذِبَةُ .. أو الشَّيْءُ الَّذِي وَضَعْتُهُ الآنَ في يَدِكَ ولم تَرَهُ ..!؟
ربما أنتَ أعمى ..!؟ هل سَألْتَ نَفْسَكَ إِنَّكَ أعمى أم لا ..؟
أقترحُ أن تُحْضِرَ مرآةً لتبصرَ وجهَكَ الممدودَ, وهل حُفِرَتْ بِهِ حُفْرَتَانِ نُسَمِّيهما عينينِ أم لا .. !؟

المهِمُّ؛ الآنَ إنَّ ثمةَ شيئًا غيرَ مرئيٍّ موضوعٌ بيدِكَ وَلا تَرَاهُ .. بإمكانِكَ أن تَشَمَّهُ .. هل رَفَعْتَ كَفَّكَ إلى مستوى وَجْهِكَ الممدُودِ .. وَغَرَسْتَ فيها أنفًا ممدودًا أبدًا عَسَاهُ أن يلتقطَ بحاسَّةِ الجوسَسَةِ رَائِحَةَ شيءٍ يتمدَّدُ في يَدِكَ وَلا تَرَاهُ ..!؟

معقولٌ .. !؟ أنتَ أعمى .. وَأَنْفُكَ أيضًا أعمى ..!؟ نعم لأنَّ اللُّغَةَ لم تَضَعْ تسمِيَةً لفَاقِدِ حَاسَّةِ الشَّمِّ .. على كُلٍّ فَالأُنُوفُ ممدودَةٌ أبدًا .. ولا عَلاقَةَ لَها بِاللُّغَةِ وَفِقْهِهَا ..

لم تَسْتَفِدْ شَيْئًا .. ؟ اُصْدُقْ نفسَكَ، وقلْ إِنَّكَ لم تفهمْ شيئًا .. هكذا أَدَقُّ .. يبدو أَنَّ فَهْمَكَ ثَقِيلٌ أيضًا ..
اَمْدَّدِ اليدَ الثَّانِيَةَ .. الَّتي بها السَّاعَةُ .. ليسَ لديكَ سَاعَةٌ ..!؟ .. هه .. هذا يَدَلُّ على أحَدِ شيئينِ؛ إِمَّا أَنَّكَ بخيلٌ جِدًّا حتى أَنَّكَ بَخَلْتَ على يَدِكِ بِثِقْلٍ فِضِيٍّ جميلٍ .. وعلى عَينيكَ بمرأى عَقارِبِ الزَّمَنِ تَنْهَشُ عُمْرَكَ باستمتَاعٍ .. وعلى قلبِكَ بأنْ تنابِزَهُ دقَّاتٌ متواترَةٌ تحسبُ انفلاتَ العمرِ هدرًا وبسرعَةٍ فادحةٍ، وأمَّا أَنَّكَ جَاهِلٌ .. لا تحسبُ للوقْتِ قِيمَةً ..

أم ترى أَنَّ ثمَّةَ شَيْئًا ثَالِثًا لا أعرِفُهُ .. ؟ كأنْ لا تعرفُ السَّاعَةَ مثلاً .. وهل تَعْرِفُكَ السَّاعَةُ ..؟ ههه .. مِزْحَةٌ ثقيلَةٌ .. أليسَ كذلكَ ..؟ أُوَافِقُكَ .. ولِكُلٍّ منا سَاعَةٌ .. لا تطلبْ مِنِّي تفسيرًا ..

سأعودُ للعبَةِ ..؟ وجهُكَ لا يزالُ ممدودًا .. هلِ اِزدادَ برودَةً بسبَبِ هذا المدِّ العَاصِفِ؟ .. آسِفٌ، لم أقصدْ إِهَانَتَكَ، هل شَعَرْتَ بسلوكٍ عِدْوانِيٍّ تُجَاهَكَ ..؟

سَامِحْني .. أطلُبُ العفوَ مِنْكَ .. لا تُفْسِدِ اللُّعْبَةَ أرجوكَ .. امدِدْ يدَكَ .. وَأَنْفَكَ وَوَجْهَكَ وَرِجْلَكَ .. تمدَّدْ في اللُّعْبَةِ ذَاتها .. لتفهَمَهَا .. لتعيشَهَا .. لتستوعِبَهَا وتَتَمَتَّعَ بها ..

أينَ تضعُ يدَكَ الآنَ؟ لا تجبْني .. أستطيعُ أَنْ أُخمِّنَ أينَ كُنْتَ تَضَعُ يَدَكَ ..؟ أنا أَفُوقُكَ ذَكَاءً؛ لذلِكَ سَأَتَلَذَّذُ بِاللُّعْبَةِ أكثرَ منكَ، مَعَ أَنَّ اللُّعْبَةَ ليسَ بها فائزٌ، إِلاَّ أَنِّي سَأَفُوزُ عَلَيْكَ .. أَعْني أَنِّني سَأَظْفَرُ بأكبرِ قَدَرٍ مِنِ المتعةِ منكَ .. فأنا قد تعوَّدْتُ أن أُمَدَّ وَجْهِي بها .. وَظِلِّي أَيضًا.
هل ستسمِّيها لُعْبَةَ ( المدِّ)، وتُسَمِّي اللاَّعِبَ فيها ( مَدَّادًا ) صِيغةُ مبالَغَةٍ من اسمِ الفَاعِلِ ( مَادٌّ ) ؟
لماذا أستشيرُكَ ؟ سُؤَالٌ أَبْلَهُ .. أنتَ شريكي في المدِّ .. فلا تضجرْ مبكِّرًا فَتَجزرَ يا صديقي .. كُنْ مَدًّا ممتدًّا أبدًا .. مَدًّا لا يعترفُ بالجزرِ المنهزمِ ..
مُدَّ يدَكَ ثانيةً .. آه .. ماذا ؟
لم أتوقَّعْ هذا منكَ .. لمَ كِلُّ هذهِ القذارَةِ .. ؟
كيف لم تقلِّمْ أظافرَكَ .. لا يمكنُ أن تمدَّ أظافِرَكَ نحوي بهذا الشَّكْلِ المرْعِبِ .. أخلاقُ اللُّعْبَةِ لا تَسْمَحُ بهذا .. !!
لا .. لا تذهبْ لتقليمِ أظَافِرِكَ .. تلكَ عمليَّةٌ ستستنزِفُ الوَقْتَ كُلَّهُ .. سأتجاوَزُ هذهِ النُّقْطَةَ القَذِرَةَ .. وأسمحُ لَكَ بأنَ تَسْتَعْرِضَ قَذَارَتَكَ كما رَضِيْتَهَا..

لا تمدّ إليَّ يدَكَ لتقتُلَني .. إِنُّهُ فعلُ قابيلَ الشَّنِيعُ وهو يَتَمَادَى في المدِّ حتَّى خرجَ عن طاعَةِ اللهِ .. وَفَتَكَ بِرَحِمِهِ .. وَكَادَ أن يمدَّ خُطَاهُ بعيدًا عَنِ الجنَّةِ لولا رحمَةُ اللهِ بِهِ ..

تَعَلَّمْ أَلاَّ تَمُدَّ يَدَكَ لأحدٍ غيرِ خالقٍ هذهِ اليدِ نفسِهِ .. تصوَّرْ أَنَّنا نمدُّ أيدَينَا للآخَرِ .. نمدُّ نحوَهُ يدًا واحدَةً، فترجِعُ بيضاءَ بكلِّ سُوءٍ، سُوءِ الخذَلانِ المكسوِّ بالانكسارِ .. أتمنَّى ألاَّ تُمَلأَ نفسُكَ بسوءِ الخيبَةِ والجفاءِ والاحتقَارِ .. لكنَّنَا حينَ نمدُّهَا لصَاحِبِ الظِّلِّ الممدودِ .. والرِّزْقِ الممْدُودِ .. نَرْفَعُ إِليِهِ يدينِ .. لا يدًا واحدةً .. فلا نخيبُ .. فَسُبْحانَ الذي مدَّ الأرْضَ مَدًّا ..!!

أخي، يا ذا الوجْهِ الممدودِ .. الموثوقِ في بلاهةِ الاعتيادِ والرَّتَابَةِ، هل شَعَرْتَ أَنَّهُ يمكنُني أنْ أنتِجَ حكمَةً محكمةِ النُّضْجِ .. بَالِغَةِ التَّأثِيرِ ..؟
وأَنَّ بإمكاني أن أُصَدِّرَها لوجوهٍ ممدودَةٍ لا تُنْتِجُ شيئًا سوى هيئَةٍ سَمِجَةٍ ضَارِبَةٍ في البلاهَةِ وَالسَّذَاجَةِ .. امدَدْ بُعْدَكَ إليَّ .. اقْترِبْ منِّي تمدُّدًا .. انظُرْ في الأُفِقِ الممتدِّ .. امدُدْ بَصَرَكَ في الفضاءِ الشَّاسِعِ المترَامِي .. ماذا ترى ..؟

امدُدْ خَيَالَكَ .. واسْرُدْ .. اتِّساع .. انفساح .. انبساط .. امتدااااااااااد ..
لحظة ..! اجعلْ يديكَ ممدودتينِ هكذا .. مبسوطتينِ كُلَّ البَسْطِ .. أغمضْ عينيكَ .. أعني : كُفَّ بصرَكَ عنِ المدِّ .. حتى أعودَ .. سأسكُبُ في يديكَ شيئًا عطرًا مثلَّجًا .. لتغسُلَ بِهِ وَجْهَكَ الممدودَ ليخرَجَ من بلادَتِهِ الأبديَّةِ.

فقط امدَّدْ إليَّ سَمْعَكَ .. وأنا أُمُدُّ صوتي إلى البعيدِ .. أطلبُ شخصًا ما على الهاتفِ .. أمدُّ صوتي نحوَ سَمْعِهِ .. على الجهَةِ المقابِلَةِ لي .. وجهُهُ ممدودًا يتلقَّى صَفَعَاتِ صوتي بقمعينِ ممدَّدَينِ يُشْبِهَانِ رِقْعَةً يابِسَةً كَصَنَمينِ أبلهينِ ..

*****
ألو .. أهلاً سِيَادَةَ رئيسَ التَّحريرِ، القِصَّةُ المبهِرَةُ جَاهِزَةٌ، القصَّةُ التي وعدْنا بها القرَّاءَ الأعِزَّاءَ بنشرِها في العيدِ البرونزِيِّ لتأسيسِ صَحِيفَتِنَا .. ستمدُّ بينَنَا وبينَ قرَّائِنَا جسرًا متينًا منَ المحبَّةِ وَالتَّوَاصُلِ ..
………………………. !؟
لا لم أَكْتْبْ عن قِصَّةِ تَأْسيسِهَا .. لقد وَجَدْتُ آلافًا منَ القُرَّاءِ يَمُدُّونَ وجوهَهُم نحوَنا ؛ فَمَدَدْتُ نحوَهُم بحرَ استفزَازٍ هَادِرًا .. لكنَّهُ مَمْلُوءٌ بِالْحُبِّ والحميميَّةِ .. وها أنا أَمُدُّكَ بالقصَّةِ، وأتركُهُم يَمُدَّونَ أَيْدِيَهُمْ حَالِبِينَ في قَدَحِ بَلاهَتِهَا الفَاغِرَةِ ضُرُوعَ الخَيْبَةِ الدَّرُورِ ..

*****
سَيِّدِي، لا تقرَأْهَا؛ فَسَتَمُدُّ وَجْهَكَ مِثْلَهُمْ .. فَلا يَصْدُرُ عَدَدُنَا الاحْتِفَالِيُّ أبَدًا..!!
……………………..!؟
إذن ؛ فَالأَحْسَنُ أَنْ نَمَدَّ جميعًا وجوْهَنَا ، فلا ضَرُورَةَ لهذا العَبَثِ أَصْلاً .. !!

اجدابيا/ 7 / 10 / 2011
* من مجموعة ( سطر روايتي الأخير ) دار غراب للنشر بالقاهرة 2016.

مقالات ذات علاقة

حفاة…نعم حفاة

المرابط

إبراهيم دنقو

قاب قوسين من الحلم

كريمة حسين

اترك تعليق