قصة

الهدهد

من أعمال المصور أسامة محمد
من أعمال المصور أسامة محمد

التخلف لا شك أنه قاطرة يجر ما خلفه وذلك في غياب الإدارة الرشيدة وتراكم الأرث.. كان كل ذلك ما حملته جعبة (أحمد) عندما حمل أحلامه وآماله في أن يكون وراء عباب المحيط.. أي إلى الولايات المتحدة.. كان حلمه أولاً وأخيراً هو في أن يكسب معرفة يرجع بها إلى بلاده.. ليكون أحد الأحداث الممكنة في تطوير المجتمع وهذا هو أضعف الإيمان لديه..

حين غادر بلاده إلى الولايات المتحدة لم يكن لديه سوى جواز سفر وبعض النقود تعينه على البقاء بعض الوقت لتدبير حاله هناك، حاول الاندماج في ذلك المجتمع من خلال بعض الأصدقاء القابعين هناك لبعض المدد.. كان المنظر جد مأخوذ وهو يرى عالماً ثانياً عندما حطت به الطائرة في مطار (كنيدي).. ظن أن العالم كله حط في ذلك المطار، لم تمر لحظة إلا وتحط طائرة لتتبعها طائرة أخرى.. أشبه بخلية نحل لا تتوقف عن الحركة التي لم تنقطع لو هنيهة واحدة.. لقد فتح عينيه لأول مرة على عالم (كولومبوس) حيث وجد جنته الموعودة.. إنك لن تجد بقعة واحدة خالية من النضرة والنماء طبيعياً.. ولا يمكنك تصور دولة في صورة فسيفسائية من الأجناس والأعراق، الإيطالي مع الإيرلندي والروسي مع الألماني، كل تلك المكونات تجدها في المجتمع الأمريكي حتى في أعيادهم القومية تجدهم يرفعون أعلام بلادهم الأصلية.. فأمريكا هي ليست للإنجليز أو الفرنسيين أو الإيطاليين فقط بل لكل العالم.. حتى أولئك الفلسطينيين الذين أبعدوا عن أوطانهم قد تدفعهم الحياة بعيداً لأنهم تركوا في صحراء دون زاد!!

أمريكا حتى هذه اللحظة لازالت قارة بكر لم تكتشف كلياً بعد.. لقد حباها الله بطبيعة قلما توجد عبر العالم.. غابات وسهول قادرة على إشباع العالم كله.. في أمريكا لا تضيع أبداً فكل شيء مرسوم بكل دقة في الحركة من ولاية لأخرى ومن شارع إلى آخر.. فالإدارة خططت كل شيء.. ما يميز المجتمع الأمريكي عن غيره من المجتمعات خاصة النامية أن الحرية مطلقة في كل شيء.. فالحرية تركت بصماتها على رقعة المجتمع الأمريكي حتى في حياة الأسرة.. التي في نظرنا ونحن نحمل ذلك الإرث الاجتماعي أنها تداعت سلوكياً خاصة فيما يتعلق بالأسرة.. فالحرية لا شك أن لها نقائض بل الوجود كله يحمل نقائضه.. أبناء يحملون أسماء لا تمت إلى والديهم بصلة.. فلا نسب و لا تناسب تعرفت إلى تلك المرأة التي كانت لها سبعة أطفال.. سألتها عن آبائهم.. فأجابت: لا أعرف أحداً بالتحديد.. كان أولئك الأطفال يعيشون في غربة.. غربة غياب الأب.. لقد ظهر عليهم نوع من الانتماء للأسرة في كل شيء.. كان الحزن يلفهم عندما يشاهدون أسرة متكاملة تمر من أمامهم.. فكل شيء في هذه الحياة له ثمن ولعل التفكك الأسري هو نتاج للحرية.. لقد رفع التعليم الديني من كل المدارس.. وأصبح التبشير الديني من مهمة الدعاة الذين يخطبون في الناس في الساحات العامة.. لقد حتم عليهم التطور أن تنعزل المرأة كلياً عن الرجل فلم تعد تابعة له في كل شيء حتى في استقلالية البيت.. فالرباط الأسري مرفوع كلياً في المجتمع الأمريكي.. وليس هناك رابط سوى القانون الوضعي بين الزوجين.. وكان الشيء الذي دعا إلى دهشتنا ذلك المدرس الأمريكي الذي كان يتحدث حول العلاقة الزوجية حيث أشار بأنه لا مانع لديه من خروج زوجته مع رجل آخر.. الأمر الذي دعا إلى سخرية الجميع في ذلك الفصل الذين كانوا من أمريكا اللاتينية وبعض العرب.. وحالما شعر بأن ذلك غير مقبول ارتفع الدم متدفقاً على وجهه من كثرة السخط على تلك السخرية.

وكان يرد على الطلاب قائلاً: ليس في ذلك إنقاص لرجولتي؟!! قد يكون الرجل محقاً عندما ينسج العامل الثقافي بين المجتمع أي مجتمع ـ فلقد كان جاري الذي يقبع في الجوار معي وكانت لديه زوجة وطفلة صغيرة، ذات يوم رأيته متجهماً وعبوساً فسألته عن سبب ذلك هذه فأجاب:” كاثرين” رحلت عنا، وكانت “كاثرين” هي زوجته وأماً لطفلته الصغيرة، وأردف قائلاً: أتمنى من الله أن ترجع لي ثانية، فوجئت بعد أسبوع بعودة “كاثرين” إلى بيت الزوجية، فقلت له: ماذا حدث في غيابها؟

فأجاب: إنها أرادت أن تذهب مع صديق لها تقضي معه أسبوعاً لعله يناسبها، ولكن ذلك الرجل قد هجرها او هجرته و أجاب: حمد لله على رجوعها بعد أن تأكدت بأن صديقها لا يناسبها كثيراً، فترة تجربة، لقد امتلأت سرائر الرجل فرحاً برجوع امرأته إليه ثانية لعله انتصر في تلك المعركة؟!! نحن نستنكر كل تلك المواقف لأننا نحمل إرث أجدادنا على أكتافنا.

 قد تكون تلك المرأة ذات السبعة أولاد يائسة من حياتها غير الرتيبة وقد يكون رجل ” كاثرين” هو الآخر ينكر تلك العلاقة لكن كل ذلك يتوقف على الذات بما يقابلها من انكسار ولذة؟!!.

لعل الآن المتغير هو الذي يحدد مواقفنا في القبول والرفض “كاثرين” ذهبت مع رجل آخر في مرحلة مخاض أو قل تجربة فالمجتمع هو الذي منحها حرية التصرف وكذلك زوجة ذلك المدرس كانت كل تلك الصور مناقضة لما هو في رأس” أحمد” ذلك الرجل الذي قدم من أعماق حي “أخريبيش” الفارق في الاجتماعية، فالقدر غرس أوتاده في أعماق وجدانه، ورأى أن ذلك المجتمع يسير نحو التشتت بسبب تلك الحرية المطلقة التي أفرزت النقيض بأن جعلت الإنسان بدون وازع اجتماعي.

لكن كل تلك الصور الحياتية الأمريكية لم تؤثر فيه من بعيد ولا من قريب ظل قابعاً على دراسته في الرواق الجامعي، لقد حط كل جهده نحو الوصول إلى الشهادة العلمية المراد تحصيلها وكان يلفت نظره أن أدوات العلم التدريسي تختلف كلياً عن بلاده، فالطالب هو الذي يختار المادة وأيضاً المدرس الذي يميل له وله مطلق الحرية في ذلك، كان لا يفارق رواق الجامعة حتى الصباح منكباً على الدراسة والتحصيل.

لكن الشيء الوحيد الذي هز وجدانه ذلك المدرس الأمريكي الذي نعته بالحالة الميؤوس منها لأنه قادم من بلاد نامية، لم تصل إلى مستوى الحضارة الغربية، والذي نصحه بعدم مواصلة التعليم لأنه لن يفعل شيئاً بما يتحصل عليه؟! هزته تلك الملاحظة بكل قوة لأنه يعرف واقعياً بأنه سيصادف عقبات كثيرة في بلاده دون تحقيق هدفه، كان قول ذلك المدرس كوقع الصاعقة عليه كان يرى بأم عينه تلك الشركات الأمريكية وهي تتسابق على اقتناص أولئك الطلاب ذوي الكفاءة العالية والموهبة، للانضمام إليها وكانت تغريهم المرتبات العالية حتى قبل استكمال تعليمهم، وكانت تلك الشركات أخذت من الجاليات مصيدة لاصطياد أولئك، كان المجتمع الأمريكي مجتمعاً انتقائياً كان يختار النخبة ولعل ذلك سبباً وراء تقدمه الحالي، عندما أكملت دراستي هناك، رجعت إلى بلادي لم يسألني أحد عن شهادتي وتحصيلي العلمي وأين يمكن توظيفه بل استلمت وظيفة روتينية ظللت فيها 40 سنة دون أن أفعل شيئاً سوى احتساء الشاي والقهوة مع زملائي الموظفين وأدركت قول ذلك المدرس إنني حالة ميؤوس منها.

مقالات ذات علاقة

الشمعة لا تنحني..وان انحنت انطفأت

عبدالله الماي

اشتهاء رغبة شيطانية

شكري الميدي أجي

عالم الومضة القصصية

حسن أبوقباعة المجبري

اترك تعليق