قصة

النوم اللذيذ

 

قدره أن يقبع في تلك الغرفة القريبة من صوت مضخة المياه والتي يجب أن تهدر لسحب المياه عند منتصف الليل لمدة ساعة. وعند ساعة الفجر لمدة ساعتين. حتى يتمكن الجميع من الاستحمام.
من ينام في هذا المكان الشبيه بالمصنع وهدير الآلات والماكينات؟ لا يستطيع ولا يتمكن من النوم.. يذهب إلى المسجد ليستحم وينام.. يتمكن أخيراً من النوم. ينزعج القائم بإدارة المسجد، فيوقظه بعصبية، صارخاً في وجهه:

“هيا .. هنا ليس فندقاً .. إذهب إلى بيتكم يا بابا”

 ينهض منزعجاً مضطراً. .. يجرجر خطواته المتثاقلة من جديد إلى البيت وهدير المضخة. يحاول أن ينام لا يستطيع. يتذكر مركبته الأنيقة يقرر النوم فيها. يلحظه أحد أبناء الجيران .. يركبه وسواس.. لم يفهم ما يجري .. يراقبه من بعيد ويقرر في قرارة نفسه أنه ما فعل ذلك وتظاهر بالنوم في المركبة إلا لأنه ينوي مقابلة إحدى جميلات الحارة.

يشدد الرقابة عليه .. يتعب من المراقبة .. فلان نائم وغارق في النوم اللذيذ. ينفجر غيظا ويرمي المركبة بالطوب والحجارة.. ينهض فلان منزعجاً .. يخرج من المركبة .. يتلفت إلى كل الأنحاء.. يصطدم بنظرات من رمى الطوب الكارهة الحاقدة.

تحدث مشاجرة ينهض الباقون … يتهمونه بشتى أنواع التهم .. يحتج .. يخرج الأخوة.. يصيح من رمى الحجارة:

“ابنكم معتوه.. اعتنوا به أو اذهبوا به إلى المصحة النفسية قبل أن يفضحكم”.

يؤكدوا ذلك من أدوا صلاة الفجر.. ابنكم ينام في المساجد .. ويستحم في المساجد.. نصيحتي لكم أن ترفعوه لعيادة نفسية.. ينظر إليهم باحتقار.. ويحاول الدفاع عن نفسه ..يعجز … ولا يستطيع.
يتكاثرون عليه .. ينقضون عليه .. يحاول التملص بعنف وعصبية .. يهرب منهم .. يجرون خلفه .. يتغلبون عليه .. يستسلم.. يحمله أربعة إلى مستشفى الأمراض النفسية.  يحاول أن يدافع عن نفسه .. لا يستطيع .. ويعجز فمن يصدقه؟

يسأله الدكتور .. ماذا بك يا فلان؟

يرد فلان :

” أبداً..

مصيبتي أنني قابع في قاع هرم العقل.. أي بمعنى أنني مخلوق أعيش بين شريحة الأغبياء والعقل يتدرج ما بين الغبي ثم العاقل ثم الذكي فاللبيب والداهية ثم المفكر ثم المنظر فالفيلسوف. وعندما يتواجد أحد من الصفوة في قاع الهرم يحدث له ما يحدث لي”

يتمتم الدكتور : هوس .. هوس..

يأمر الأخصائية : اعملي له تحليلاً نفسياً..

تجلب له أوراقاً ساذجة .. مبهمة..

كالفراشة، كالأيادي المتصافحة، كعلم إحدى الدول العربية .. كالرأس المقلوب

وتسجل الأخصائية النتائج بانهماك وذكاء!!

فيسألها: ماذا تدونين في تقريرك يا آنستي؟

ترد عليه: هل قمت بإجراء رسم تخطيط دماغ؟

يقول فلان: ستجدينني (UPNORMAL) لأنني غير مطابق لما درستي في محاضراتك العلمية، لأن مساحات العقل محدودة في الإنسان العادي أما أنا فأحمل مساحة إضافية، هي مساحة الفكر أو الفلسفة. فعندما تطابقين رسم دماغي بما درستِ من معلومات مكررة، ستدونين في تقريرك المبهر بأنني (UPNORMAL).

ترد متمتمة: هوس .. هوس..

ترفع النتيجة للدكتور.. يدقق في النتائج ويأمر بحجز فلان على ذمة العلاج.
يتفاجأ فلان .. يصرخ .. يحتج .. “أنا مشغول بأداء بعض الامتحانات .. أنا موجود هنا فقط في إجازة بين أهلي.”

يأمره الدكتور بالسكوت في عنف.. لا يسكت فلان، بل يصرخ في وجه الدكتور. من يُقيّم من؟!
أنت الذي تحتاج للعلاج ولست أنا.

يقبضون عليه ويحقنونه.

يستسلم… في الصباح يأمرونه بأخذ عدد ستين نصف حبة دواء مثبطة للدماغ. وفي المساء يأمرونه أيضاً بأخذ عدد ستين ربع حبة دواء منشطة للدماغ. يستسلم… ينهض ليستحم فلا يجد أدواته!! لقد سرقها عمال النظافة في المستشفى.

ينادون عليه :-

عندك زيارة ..

أحد إخوته يجلب له بنطلوناً واسعاً وقصيراً، لونه بني، وفانلة صوفية مشوكة لونها أحمر..
يأمرونه باستبدال بدلته الأنيقة بهذا اللباس.

يتحدث مع الدكتور الأجنبي، ويشرح له أنه لو لبس هذا اللباس سيؤكد لكل من يشاهده أنه مجنون.
يتفق معه الدكتور الأجنبي ..فيسلم أمره لله، ويستمر مرتديا بدلته الأنيقة.  يجلس متأملاً في الدنيا وأحداثها .. يتذكر هتلر والمحرقة !!

يتذكر كل الحكام الذين وصفوا ظلماً في التاريخ بالدكتاتورية .. يشفق عليهم.. يتمنى أن يصبح صاحب الأمر في هذا المكان حتى يعيد الدكتاتورية إلى الأذهان وببريء الحكام الذين يصفونهم إجحافا بالدكتاتورية..

حقاً إن هناك نوعاً من البشر يستحقون شيئاً أقصى من الموت والإعدام ..
إنهم النوع الحاقد .. الغبي .. الذي لا يفهم ولا يريد أن يترك الآخرين يعيشون سعداء في حياتهم البسيطة.. في المساء يناجي ربه ويدعوه.. أخرجني يا الله .. أخرجني يا الله.
يتذكر أبو فراس الحمداني في سجنه وكيف ناجي الحمامة بأبيات شعرية.
.. يهتدي إلى فكرة يمزق أحد جيوبه ويسحب خيوطها ويهمس فيها مناجيا وداعيا ربه
“يا خالق الكون يا ملك الرياح يا من أرسل الأنبياء نوحاً، موسى، يونس، عيسى، محمداً..
أنت تعلم أني قد ظُلمت من فلان وفلان وفلان وأنهم حاقدون .. حاسدون تنقصهم الرجولة .. بحق الأمومة والطفولة والحياة. .. أنت تعلم أني قد سهرت الليالي واجتهدت وعرقت.
لامس بدعائي هذا أوراق الأشجار لتلامسه الطيور توصله للناس الطيبين والشرفاء ليأتوا لإخراجي .. ونفخ في الخيوط التي تطايرت بعيداً خارج غرفته المظلمة ..وأكمل قائلاً :
اللهم إني لا أجيد الدعاء ولكنك تعلم نيتي فأخرجني وانصرني..”

في الصباح

يأمره الدكتور بملاقاة أحد أقاربه الشرفاء فيتفطن للأمر ويخرجه. يلاقونه الجيران من جديد ومن أدخلوه بالهمس المتبادل المعتوه .

ادنبرة2001

مقالات ذات علاقة

الحصان

محمد النعاس

اخـتـيـارات

غالية الذرعاني

كيلوباميا

محمد النعاس

اترك تعليق