تشكيل

المكان في التشكيل

المكان عنصر أساسي من عناصر التشكيل وموضوع أصيل من موضوعاته الكثيرة وكل الفنانين تقريبا احتفوا بالمكان ورسموه سواء كانوا قد أقاموا فيه لفترات طويلة أو وقع في طريق عبورهم كما فعل الرحالة والمستكشفين ممن يجيدون الرسم .

من أعمال التشكيلي بشير حمودة
من أعمال التشكيلي بشير حمودة

وعلى طول تاريخ الفن أراد الفنان تخليد المكان وإبقاؤه حاضرا في الذاكرة عبر رسمه وتصويره , ولكل بلاد أو مدينة فنانيها الذين يضطلعون بهذه المهمة , ذلك أن للمكان هيبة وسطوة وجلال يجعلان منه حاضرا في الوجدان العام على الدوام وما من فنان – إلا ما ندر – لم ينازعه الشوق والحنين إلى أماكنه الأولى , وكنوع من رد الجميل والأحتفاء بالأماكن المفتقدة أو المرجوة وكتعبير عن الفخر بها رسم الفنان الجبال والصحارى والوديان والقرى والمدن القديمة والأثرية والمرافئ والأسواق والبيوت والشوارع , ولربما لعب المكان دورا مهما في بلورته وتشكيل وعيه الفني وتأسيسه كفنان , أو بمعنى آخر ساهم بشكل مباشر في جعله فنانا , ومن هنا يصير للمكان دينا بذمة الفنان عليه أن يسدده , وخير ما يفعل ليسدده هو أن يرسمه متألقاً كما يحب أن يراه دائماً حتى وإن لم يعد المكان موجوداً , فالأماكن كما هو معلوما تتغير بفعل الزمن وحركة الحياة فلربما تم مسح المكان ليحل بدله مكانا آخراً وما من مكان يظل بمنأى عن التغيير.

وفي ليبيا فعل ذلك الكثير من الفنانين بل أن رسم المكان كان قاسما مشتركا بينهم وأكاد أُجزم بأن ثلاثة أرباع المُنتج التشكيلي الليبي هو احتفاء بالمكان , إلى جانب المُنتج التجريدي و الطبيعة الصامتة والبورتريه وتصوير العادات والتقاليد وتجسيد الموروث الشعبي .

ومن الفنانين الذين اجتذبهم المكان وظهرت تجلياته واضحة لديهم الفنان الراحل يوسف معتوق الذي نفذ عدة لوحات صوّر فيها بيئته ومنطقته التي ترعرع وعاش بين جنباتها بمدينة نالوت الجبلية , حيثُ نراه وفي سياق تصويره للأفراح والمناسبات الأجتماعية يؤطرها بالأمكنة حيث البيوت الطينية الواطئة وحيث اتساع المحيط , كما رأيناه من أمام منزله الذي يطل على طبيعة جبلية مهيبة يرسم الجبال بقممها الشاهقة وبمنحدراتها الوعرة وبعمق قاعدتها في لوحة ملحمية بانورامية كان قد عرضها بدار حسن الفقيه في أحد معارضه الشخصية في إحدى سنوات العشرية الأولى من هذا القرن.

كما نجد المكان وملامحه حاضرة في مُنجز الفنان جمال دعوب حيث السرايا وقوس ماركوس أوروليوس وأزقة المدينة القديمة وبرج الساعة وبرج غلطة في استانبول موضوعات مفضلة لدى الفنان الذي رسم إضافة إلى ذلك البورتريه والطبيعة والجياد ومنح المرأة حيزا واسعا من شغل ريشته وجمال تعبيريته .

وهذا الفنان الليبي المغترب خالد قجوم يحتفي من جهته بأماكن من نوع آخر حين يصور المدن الحديثة بعلو عماراتها وباتساع شوارعها وبأضوائها المبهرة وبمظاهر الحياة العصرية المنتشرة في جنباتها حيث المقاهي المفتوحة وروادها الجالسون وحيث المارة المتعجلون العودة إلى البيوت بعد يوم عمل مضني وحيث ظلال الأنوار المتراقصة وانعكاساتها على الأسفلت المبلل في لوحات معبرة ومحركة للمشاعر ومثيرة للأحاسيس الخامدة , في لوحات تقترب كثيرا إلى درجة التناص والتلامس مع الشعر بأخيلته ورومانسيته الغامرة .

مقالات ذات علاقة

ألاّ نغيب مرة أخرى عن التشكيلي المغاربي

أحمد الغماري

الخزافة ميسون عبد الحفيظ .. والخروج عن الاطر التقليدية

المشرف العام

الفن يعيد توظيف المكان تحت “كوبري” الودان!

محمد النعاس

اترك تعليق