الشاعر الليبي الراحل .. الجيلاني طريبشان.
قراءات

المقاهي والحانات في شعر جيلاني طريبشان .. دلالات وأبعاد

الشاعر الليبي الراحل .. الجيلاني طريبشان.

المقاهي جُزر آمِنة وسط بحر الحياة الصاخب , أو هكذا يجب أن تكون , ففيها يجد المرء براحاً للهدوء والسكينة والأجتماع بالأصدقاء والخلان , وفيها قد يعثر على فرصة للأختلاء بنفسه , وفيها قد يزوره الإلهام إذا ما كان مبدعاً أديباً أو فنانا أو ما شابه ففيها قد يضع قصيدته أو قد يحصل على فكرة لوحته أو نواة قصته أو روايته فيما بعد , والمقاهي مكان جيد لألتقاء أصحاب الأهتمام الواحد كالفنانين والأدباء وحتى العمال والحرفيين واشتهرت مقاهي عديدة محلياً وعربياً وعالمياً بروادها من المبدعين وقصدها الناس لهذا السبب , مثل مقهى زرياب في ليبيا ومقهى ريش في مصر وغيرهما من المقاهي في كل دول العالم , بل أن بعض الحركات والجماعات الفنية والأدبية تكونت داخل المقاهي حيث كؤوس المشروبات تروح وتجيء وفناجين القهوة المتعاقبة يتم احتساءها قبل أن تبرد , ولأنها مناطق محايدة ونقاط مُسيجة بالألفة والهدوء يقصدها بعض الأدباء لقراءة الصحف والكتابة وهنالك من يتخذ منها مادة لكتاباته سواء كانت نثرية أو شعرية , ولكثرة تردده عليها واتخاذها كملجأ من صخب وضيق العالم تحتل مكانة متميزة في وجدانه وتتسرب إلى أدبياته , وهذا تماما في اعتقادي ما حدث للشاعر الليبي جيلاني طريبشان الذي وجد في المقاهي مادة خصبة لإثراء قصيدته وللتعبير عما يجيش في خاطره وما يعتمل في صدره من مشاعر قد لا تراود الشخص العادي أو الغير شاعر , ولربما فعل ذلك دون وعي ودون فكرة مسبقة ودون قصد .

وسنحاول في هذه السانحة تتبع مفردة المقاهي والحانات في ديوان الشاعر جيلاني طريبشان “أبتهال إلى السيدة ن” لأنها في الوقت الذي تعتبر فيه حاضناً , تُشكِّل رافداً من روافد إبداع الشاعر الكثيرة والمتنوعة وتعد ملمحاً من ملامح شعره الذي استثمر إلى جانب هذه المفردة بإيحاءاتها وتأويلاتها الخِصبة مفردات أُخرى شكلت مجتمعة ملامح تجربته وعطاءه الشعري , فقد حمل الشاعر حنين جارف للأماكن التي عاش فيها أو عبرها وضمنها شعره , ومن بين هذه الأمكنة المقاهي بطبيعة الحال , تماماً مثلما أفرد مساحة واسعة للوجوه وللغربة وللنساء وللمدن وللمرارات التي تجرعها ولردهات المطارات وأرصفة الانتظار والأرتحال , ويبدو أن الشاعر الذي زار عدة دول عربية وأوربية وأقام ببعضها لمدد متفاوتة لم يجتذبه شيء قدر ما اجتذبته المقاهي والحانات التي تردد عليها وأمضى بداخلها الكثير من أوقاته , ولربما لكونه شاعراً وينطوي على منظومة فكرية شعرية قادرة على هضم كل ما يرى ويسمع وإحالته إلى شعر خالص , وربما لأنه يرى فيها ما لا يرى الشخص العادي والغير شاعر ويجد فيها ذاته التائِهة, لعله لذلك إلى جانب انها أماكن محايدة وآمنة كما سبق القول ونقاط عبور إلى الطمأنينة والسكينة , وتوافق مزاجه, لعله لهذه الأسباب وغيرها مما نجهله كان الشاعر يتردد على المقاهي ويقضي بها أوقاتاً أكثر من أي أماكن أُخرى, إذ هذا ما تشي به اشتغالاته الشعرية .

ديوان إبتهال إلى السيدة ن، للشاعر الجيلاني طريبشان.

ونقرأ له في هذا السياق بقصيدة ” عن البرنامج اليومي ” :-
في الشانزليزيه تصحبني إيزابيل إلى المطعم
أقتات بباقات الورد , وألتهم شطيرة لحم الأوعال
في اللوفر أعقل ناقات زياد
وأبيع طرفة بن العبد
وأكتب شعراً في تواليت الصمت .

ثم يلحق هذا بمقاطع أخرى هي عبارة عن أفعال يقوم بها الشاعر , أُقفل , أُطفئ أُغني , وإذ نستمر في القراءة , نقرأ :-
أُقفل باب الغرفة
أُطفئ تبغ الفجر على منضدة وجدة
وأُقلم أزهار الأصص البلورية
وأُغني
” بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
وأيقن إنا لاحقان بقيصرا
فقلت لا تبكي عينك إنما
نحاول مُلكا أو نموت فنُعذرا ”
أقفِل مرتعدا صوب الخان .

وهي كما نرى قصيدة تسرد اليومي والعادي الذي يتكرر كل مرة ليضحى شعرا بامتياز حالما تلمسه لغة الشاعر ويختلط بدفق مشاعره وببدايتها تماما ورد لفظ المطعم الذي يؤدي دور المقهى هو الأخر .

” حانة الرعب ” قصيدة أُخرى للشاعر توظف مفردة الحانة للتعبير عما يشغله , والقصيدة كما عنوانها تجعل قارئها منتبها بأنفاس متلاحقة ونبض متسارع لما تحتويه من صور مرعبة ووقائع تبعث الفزع في النفس , فالحانة خالية إلا من مرتاد وحيد هو الشاعر وذلك يعمق الشعور بالعزلة , ومن مُخبر بائس , حانة كئيبة تحيل إلى الوِحشة وتدفع نحوها أكثر مما تحيل إلى الحيوية والأُنس والدفء .
حانة ليس فيها أحد
أوجه الغرباء وريش النعام
وأيقونة من زجاج
وتصاوير برمائية , وخرائط بامتداد الصحارى
خرائط يجتاحها العسكريون
والعُرفاء الجُدد
والشعراء , والسُكارى , والساسة السُفهاء
حانة ليس فيها سواي
أتأمل وجهي على الواجهة فتبتسم لي المشرقية من وجدها الملتهب
حانة ليس فيها سوى حزمة من غضب
ومُخبرها المنتصب
في الزاوية الكئيبة
حانة ليس فيها سواي .
حانة الرعب سمّيتها
حين هاجمني السفهاء وأُريق دمي
وانتصب الرفقاء يشهرون السلاح
ويردون عني الشقي
قبل أن يكسر الساعد الملتهب
حانة الرعب سميتها
فندق من عيون الأرامل
والأرمن البسطاء
حانة ليس فيها سواي
والأرمن البسطاء
ليس فيها سواي
والأرمن البسطاء .

ويستمر افتتان الشاعر بالمقاهي وهذا ما جعله ينشد في قصيدة ” ترتيلة لسيدة الحب ” قائلا وكأنهُ يُخاطب صديقا أو إنسان مُقربا منهُ , سوى أن الشاعر لا يقصد إلا نفسه ولا يخاطب أحدا غير ذاته :-
تحِن لعينين كانتا في الزمان القديم تنوسان عنك
الرزايا , وقد كانتا تفتحان لك الدرب إلى خان مرجان
إن صوت المُغني حزين , وفي كل مرتجع للمقام العراقي شأن !

وهي قصيدة طويلة تربعت على ثلاث صفحات وحملت من الحزن والآهات والتحسر الشيء الكثير والقادر على تمثل روح الشاعر حين قالها , وتخيل الألم الكبير الذي دفع به إلى تسطير مكابداته في هيئة بوح شفيف سيجعل القارئ يتضامن ويتعاطف مع محنته ويعيش ما عاش الشاعر مجازاً , الشاعر الذي نعتقد بأنه نجح في كتابة مشاعره , وهذا أمر لا يتوفر لكل الشعراء , كون البعض منهم يكتب بلا تجربة حقيقية بلا معاناة وبلا مكابدة , لهذا تأتي قصائدهم باهتة وغير حيوية لأنها تنطلق من أساس هش , وتجدر الإشارة إلى أن خان مرجان الوارد بالقصيدة هو عبارة عن مقهى ومطعم تُعزف فيه كل ليلة جوقات المقام العراقي , كما يُبين الشاعر على هامش القصيدة دون أن يوضح موقع المقهى وبأي بلد .

” مقاطع ما قبل الرحيل ” قصيدة أُخرى احتوت على إشارات للمقاهي وفيها نقرأ :-
والطير يذكر
تذكر المساءات ويذكر المترفون على الطرقات
ويذكر الليل صالة ” الشاي الهندي ” تذكر القبلات .
وصالة الشاي الهندي هنا عبارة عن مقهى في القاهرة كما يشرح الشاعر في هوامشه .
ثم أنهُ وفي ذات القصيدة يقول :-
إيها السادة السفهاء
أيها السفراء
أيها المرتشون , الفاسدون , النائمون على سُرر الفقراء منتهكي البراءة
مغتصبي الطفولة
أيها المرتشون
لكم ساعة قد تحين قريبا
ولنا أوبة إلى المقاهي الوضيئة
ولنا وطنا حين نبغي نفجرهُ في قصيدة .

يجمع الشاعر كل هؤلاء في قصيدة واحدة فقط ليوقظهم على مصيرهم المرتقب أما الخيرون والضعفاء والمظلومين والمُنتهكة حقوقهم فلهم أوبة إلى المقاهي الوضيئة التي هي هنا رمز لكل ما هو جميل وأليف ومؤنس التي هي هنا مُعادل للخير والسلام التي هي وطن بكل ما تحمل الكلمة من معنى وبكل ما يحمل الوطن من أُلفة واطمئنان .

ودائماً ثمة معنى أخر للمقاهي لدى الشاعر فالمقهى في قصيدة ” التحديق اليومي عبر مرايا الفصول ” عبارة عن ملجأ وملاذ مما يجد :-
يلفظني البحر فأقبع في جوف المقهى المُتعم
على الجانب الآخر
تتمددين في أطراف الصحراء
تتعرين شهوة
في هشيم النار المشتعلة في ظهيرة مايو
لا شيء في أيام القيظ الملتهبة غير الغبار
دخان المركبات التي فقدت الذاكرة
لا شيئية الحلم البائس .

وتعكس المقاهي في حالاتها المختلفة روح الشاعر وتقول مزاجه المتقلب وتفضح مشاعره , فتارة هي مًعتمة وتارة مُخيفة ومرعبة وثالثة وضيئة وأليفة . . وهكذا .

وهي بالمناسبة – أي القصيدة – كُتِبت بمقهى زرياب بطرابلس عام 1977 وأعتقد انها الوحيدة تقريبا في الديوان التي أوضح الشاعر مكان تجليها بالتحديد إذ أنهُ ترك بعض القصائد دون تواريخ أو أماكن كتابتها فيما أشار إلى أُخرى بالمدينة والبلد الذي كُتِبت به , طرابلس الرجبان بغداد العراق الرباط الدار البيضاء أثينا , وألحق كل القصائد التي أوضح مكان كتابتها بتاريخ الكتابة , وأعتقد أن هذه المعلومات مهمة للدارس والباحث باعتبارها عتبات تساعد على فهم التجربة الشعرية وتُسهِّل مُقاربتها مثلها في ذلك مثل الإهداءات والمقدمات والعناوين والتضمينات والتناص والشهائد المرفقة وغيره من العتبات التي من الممكن أن يحتويها الديوان , ولعل الشاعر انتبه إلى هذه الخاصية فقام بالتأريخ لجل قصائده .

تستمر الرحلة ويستمر التشبث بالمقاهي من قِبل الشاعر وفي القصيدة التي حملت عنوان الديوان ” أبتهال إلى السيدة ن ” وحين تلاحقه الذكرى وتًضيق عليه الخناق .
يطاردني وجهك النبوي الجميل فأهرب من رخص عينيك إلى البار أسأل النادل المغربي
هل لديك سم سقراط ؟!
وأُبصر وجهك من خلف المرايا , أبصر عينيك , شعرك
أسأل :
من رتب القصة الرائعة .
وألفاظ النادل والبار في القصيدة تُحيل إلى المقاهي والحانات حتى وإن لم يذكرهما الشاعر صراحةً .

وفي قصيدة ” أوراق مغربية ” ينتبذ الشاعر مقهى \ مطعم , الشاعر الذي يبدو أنهُ يعرف عن مقاهي البلد الذي يزوره أكثر مما يعرف عن أي شيء آخر أكثر مما يعرف عن الساحات العامة والحدائق عن صالات المطارات ومحطات القطارات والأسواق .
وحدك الآن منتبذاً
مقعدك ” مطعم في الرباط ” الرباط التي كنت دوماً تحن إليها وها أنت فيها
ما الذي قد وجدت
الفراغ , الشوارع مقفرة , والنساء
لا هاشمي هنا كي تحن إلى مشقة قرب أور
ما الذي ترتجيه ؟
أسألك الآن يا صاحبي . . ما الذي ترتجيه ؟ .

والهاشمي المذكور في القصيدة عبارة عن لباس نسائي منتشر في الخليج والعراق بحسب توضيح الشاعر , أما اور فأعتقد أنها إشارة إلى أثار أحدى الحضارات التي قامت فوق أرض العراق , وتُظهِر هذه الإيماءات حب وعشق الشاعر للعراق الذي زاره كما يبدو أكثر من مرة مشاركاً في بعض الفعاليات الشعرية كمهرجان المربد , وفي الواقع أن بالديوان إحالات إلى العراق حتى وأن لم تكن القصائد تتناول العراق مباشرة وهذا يُظهر مدى عشق الشاعر للعراق وشغفه بكل ما هو عراقي , ولم يطول العمر بالشاعر ليرى العراق العظيم يتهاوى عام 2003 وأحواله تتدهور بوتيرة متسارعة , ولعل وفاته قبل ذلك أنقذته من معاناة عارمة كان سيتكبدها وهو يرى موضوع شغفه يتفتت والبلد الذي أحب يتداعى .

وإذ يخاطب بربارا في قصيدة ” إلى بربارا ” فإنهُ يعزز من اعتقادنا بأنهُ – أي الشاعر – يعثر دائماً على مادة قصائده في المقاهي التي يرتادها أو يزوره الإلهام الشعري وهو جالسا على أحد مقاعدها المنزوية , وهو منتبذاً أحد زواياها الغارقة في العتمة , فالشاعر يميل إلى الوِحدة والأنعزال وهو لا يخبرنا عبر شعره الثر عن أصدقاء يفتت معهم صلابة الوقت ويذرع معهم دروب الوِحشة وغالباً ما يبدو وحيداً يجلس هناك كفيلسوف يشرع في التلصص على ما حوله ونبش ما بداخله بكل ضراوة لتخرج القصيدة طازجة من بين هذا الركام الهائل من المشاعر والأنفعالات والصراع والقلق , وهذا يعيد إلى الأذهان توصيف الناقد سمير السعيدي الذي يعد جيلاني طريبشان آخر الصعاليك وأول المكتوين بجمر القصيدة , ولعل من هذا المدخل نستطيع تأويل الكثير من شعره وقراءته وفقاً لهذه الإضاءة .

مقالات ذات علاقة

سعيد المحروق.. الرجل الذي خرج وحيداً يحمل سيفه على عاتقه، ليحارب رياح القبلي

المشرف العام

هكذا صرخَتْ

المشرف العام

الجلوبة وعبدالرحيم بوحفحوف

حسين نصيب المالكي

اترك تعليق