المقالة

المضاء الشعري.. وأسر القضية

الشاعر الراحل أمل دنقل
الشاعر الراحل أمل دنقل.

لقد شكلت قراءتي المبكرة لبدر شاكر السياب حاجزاً لا واعياً، فكلما عثرت على شاعر تفعيلي كان يطل السياب بروائعه الخالدة، وهذا حدث لي مع كثيرين ممن تأثروا به…

وهنا سأشير إلى أمل دنقل الذي انطلق كغيره من منصة السياب؛ محاولاً تجسيد الواقع في تفاصيله القريبة، وهنا رهن موهبته الفذة في أحداث لم يكن واعياً بوقتيتها، وهذا يعود أيضاً لعدم اشتغاله السياسي وبوهيميته المستدامة وخطه النفسي الصارم، ليتحول إلى شخصية صدامية، رغم أن عصره كان متاحاً فيه الحضور الشعري على مستوى التنظيمات السياسية، لاسيما الماركسية، التي أخذت وقتاً وهي تزهر في الأرض العربية، دون أن تفرز مرجعيات أدبية هامة، ربما لتشوهها، وهذا ما حدث مع السياب ذاته الذي ارتد عن الشيوعية، من خلال كتابه الشهير (كنت شيوعياً)، والذي شكل صدمة لكثير من (الرفاق)، كونه عنواناً تحسرياً ذا دلالة تطهيرية تتبرأ من الإرث الذهبي لغالبية أهل الأبداع الأدبي بالذات، في ذلك الوقت الموار بالقلق والخصوبة التفاعلية من خلال الانفتاح الهائل على التفجيرات الثقافية المذهلة في مجالات الأدب والفن والسياسة، بل تعدتها إلى أغلب مناحي الحياة، لتجد الماركسية تجربتها الخصبة في أرض العالم العربي في أواسط عقود القرن الواحد والعشرين.

بدأ أمل حياته الشعرية متأثراً بالشاعر المصري النجم آنذاك، أحمد معطي حجازي، لكنه استقل بمذاقه لاحقاً، منذ ظهور قصيدته الجارحة، البكاء بين يدي زرقاء اليمامة، ليكرس أدبه للمقاومة، منفصلاً عن الأدب الحزيراني في معناه الترفي عند الآخرين، موظفاً الرمزية التاريخية، زرقاء اليمامة، مقتل كليب، صلاح الدين، كافور والمتنبي، أبونواس، صقر قريش، والدينية أيضاً في تضمين بعض القصص القرآنية، والتوراتية والمسيحية.

ووفق شهادات من عاشوا معه فترات حياته العصيبة كالشاعر عبدالعزيز المقالح، والناقد جابر عصفور، والشاعر والباحث في الأدب الشعبي عبدالرحمن الأبنودي، يتضح أن أمل دنقل قد نذر نفسه لكتابة هذا اللون من الشعر، فشاعر مثله، شبه معدم، لا يستهويه الثراء وبريق المظاهر، بقدر حرصه على توفر الشروط التي تضمن له البقاء حياً.. وكتابة الشعر المتمرد، وهو الصعلوك الذي جاء من الصعيد “يحمل حدته وانفعالاته الجينية وتمرده الفطري.. لن يجد قلقاً في المضي قدماً في زلزلة الطمأنينة الشعبية، وتثوير الجموع المخدوعة والمغيبة بخطابات السلطة المستبدة”.

وقد ذهب أبعد من ذلك، عندما بدأ يشن هجوماً مستمراً على بقية الشعراء الذين نأوا بشعرهم عن اللغة الدانية والارتباط بالراهن السياسي، ومخاطبة الجماهير، واستعاضوا عن ذلك بأسئلة أخرى عن النفس والوجود والموت والخلود، مستلهمين في ذلك الثورة الشعرية التي طرأت بعد الحروب العالمية.

ورغم هذه المقاربة الشخصية لمسألة ذبول الشعراء، إلا أننا لا نستطيع أن ننكر بأن أمل دنقل شكل ظاهرة شعرية في حينه وسرق الأضواء من أغلب الشعراء المكرسين في ذلك الوقت، بل إنني أذهب إلى أبعد من ذلك وأعتبر فترته مرحلة هامة من مراحل التجذر الشعري الخلاق.. فقد ظلت شفتاه الغليظة وسحنته الجنوبية ولثغة لسانه قرينة أساسية لحضوره الأسطوري، وهو المولع بالأساطير الشعبية التي بالغ في استثمار رمزيتها، مستبصراً من خلالها عودة البطل التاريخي، ليشغل المجاز بانعكاس قيم الحرية والكرامة في كتاباته اللاواعية التي سوف تذهب بكل توهجه نحو مغرب نوستاليجي، دون أن تشفع له نضاليته الشريفة ومستوى البناء (السيابي) الصارم والمشذب للقصيدة. وهنا تجدر الإشارة إلى ذكاء البعض للإفلات من هذا المصير عبر استشراف دقيق لمستقبل الشعر، وعلى رأس هؤلاء الشاعر الذائع محمود درويش، من خلال صرخته الاحتجاجية الشهيرة “أنقذونا من هذا الحب”.. محاولاً توجيه الحشد القرائي إليه كأسطورة شعرية، بدلاً عن سجنه في قضية فلسطين، وهذا ما حدث بالفعل بعد أوسلو، والانعطاف الرهيب للثوابت. بينما بدد أمل دنقل وقته وعبقريته اللغوية في وقائع وطنية، لم يكن يعلم أنها رهن التقلبات السياسية القريبة، وأن الانتصار الذي ظل يحلم به لا يتحقق بالحنق الشعري واستدعاء البطولات الغابرة، لان مثل هذا النصر مسألة مستقلة عن الشعر تكفلت بها السياسة ومنظروها بشكل نهائي، وأنه سوف يدفع ضريبة هذا الالتزام الذي سيطر عليه إلى آخر رمق في حياته، وجعله يجازف بكل رصيده الكتابي، حيث لم يعرف عنه التوقف والانتقال بقضاياه الشعرية تجنباً للانطفاء التفاعلي، وهنا يكمن رهان الشاعر أصلاً، في قدرته على منح أشعاره جاذبية القراءة، والبقاء على قيد الدهشة والحضور كأقصى ما يمكن لكلمة أن تعيش حية وهي تعبر الزمن بشعريتها المختومة بالموت المضيء.

مقالات ذات علاقة

لماذا يكره المعلمون مذكرة التحضير؟

سعاد الورفلي

رمضان بوخيط

أحمد الفيتوري

المدينة الأكثر سحراً

شكري السنكي

اترك تعليق