طيوب المراجعات

المحافظون الجدد..كتاب الهروب إلى الأمام

في سياق تاريخي غير استثنائي على المستوى الوطني، كالذي يحكم اللحظة الليبية الراهنة، لربما كان الاحتفاء بكتاب “المحافظون الجدد..قادتهم وأفكارهم ..والاطروحات المضادة لأرائهم ” الصادر عن مكتبة طرابلس العلمية العالمية، للأكاديمي المعروف والسياسي المثقف الدكتور إبراهيم أبو خزام ..سيكون أكثر حرارة وحماسة، فهو بكل المقاييس إضافة مهمة للمكتبة الليبية والعربية في حقله وموضوعه ..

ولأسباب قد لا تكون منطقية جدا، كنت أنتظر من إسم كبير وقلم رصين وأكاديمي بارز تصدى للشأن العام منذ عقود كالدكتور أبو خزام، الإنشغال بمقاربة الحالة الليبية الحرجة مباشرة وبكل ما يحتاجه الأمر من جرأة وشجاعة وموضوعية لن تكون متاحة سوى لعقل علمي يتوفر على أدوات التفكير المنهجي والمرونة المعرفية القادرة على الغوص في الجرح المفتوح وسبر عمقه وتشخيص خطورته ومن ثم إقتراح علاجه وطريقة رتقه، بدلا من الهروب إلى الأمام نحو قضايا أستراتيجية وسياسية دولية قد تكون على صلة وثيقة بعوامل ومفردات المأزق التاريخي الوطني، ولكنها لا تتماس مع مفاصله ومعطياته الأساسية..فإذا كانت الولايات المتحدة وحلف ” الراغبين ” المتحلق حولها، حاضرة البصمات في المأساة الليبية كما في مآسي شعوب المنطقة والعالم، فإن مانحتاجه حقا ليس تكرار الإعلان عن إسم المجرم المعلوم أو تفصيل الحديث عن سماته وصفاته بل معرفة الشروط والإكراهات والعوامل الموضوعية والذاتية التي أسهمت في وقوع الجريمة ونجاحها بكل تلك السهولة والسلاسة نحتاج – نحن الضحايا  بدل الإنهماك في هذا العويل التراجيدي البائس – أن نفهم على الأقل كيف ذبحت أحلامنا الوطنية من الوريد إلى الوريد دون أن تتسنى لنا حتى الفرصة للدفاع عن حقنا في الحلم..

هذه ملاحظة شخصية رأيت أن أسجلها في بداية الحديث عن الكتاب الذي تحصلت على نسخة منه كهدية من الصديق الكاتب والإعلامي يونس الفنادي، على مافيها من تجاوز لتقاليد اللياقة والمجاملة وخروج عن الموضوعية في العرض، وهو ما كنت قديما أحرص عليه عادة أسوة بالزملاء، ثم سقط عنا ترف الالتزام بتكليفه إذ صرنا اليوم – نحن الليبيين – أبناء وطن يقف عاريا في مهب الريح، ولا أحد يلاحظ مدى حرصنا على الاتيكيت ولا يلاحظ وجودنا أساسا..

الكتاب الصادر قبل أيام – ولست أدري إذا ما تم توزيعه عبر المكتبات الليبية أم لا – جاء في ما يقل عن المائتي صفحة من الحجم الكبير مقسمة إلى ستة فصول يحتوي كل منها على عناوين فرعية شارحة تبعا لمقتضى وضرورة السرد والتحليل، إضافة إلى مقدمة وخاتمة وقائمة بأسماء المراجع التي إعتمد عليها الكاتب في تأصيل وجهات النظر والأطروحات التي يعرضها وتوثيق التواريخ والاستشهادات ..

في المقدمة يجمل المؤلف أسباب إهتمامه بموضوع الكتاب “المحافظون الجدد ” قائلا : – بالنظر لخطورة المحافظة الجديدة واليمين المسيحي الجديد في الولايات المتحدة الأمريكية وانعكاساتهما الفادحة على وطننا العربي وعالمنا الإسلامي، فإننا نكرس هذا الكتاب لدراسة أكثر عمقا وتفصيلا للمحافظين الجدد، وهي دراسة ستتناول بشكل خاص، الجذور الفكرية الدينية والفلسفية، للمحافظة الجديدة، وموقع هذه الظاهرة في الإستراتيجية الأمريكية والسياسة الخارجية لها ..

في الفصل الأول يقدم الكتاب عرضا شاملا للاستراتيجيات الأمريكية قبل ظهور تيار المحافظين الجدد وهي :

أولا / استراتيجية الانعزال ” المدرسة المثالية ” التي إلتزمتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ فترة ما بعد إعلان الاستقلال  وتحديدا منذ تنصيب جورج واشنطن رئيسا والذي تبناها نهجا واضحا في كل خطبه وأدائه السياسي واستمر العمل وفق محدداتها حتى الحرب العالمية الأولى، وهي سياسة – حسب ما يورد أبو خزام – تقوم على دعامتين أو ركيزتين أساسيتين، هما الإمتناع عن التدخل في شؤون العالم القديم ” أوروبا ومستعمراتها”، ومنع الأوروبيين من التدخل في شؤون القارة الأمريكية في ذات الوقت..وهذا ماتمت صياغته في مباديء وقواعد إجرائية في العام 1823 م وفق ما عرف “بمبدأ مونرو”..

ثانيا / إستراتيجية العالمية ” المدرسة الواقعية ” وتمتد هيمنتها على الخطاب الأمريكي من عام 1917 م وحتى مفتتح القرن الحالي ..وتقوم حسب المفكر من أصل ألماني “مورجنتاو”، على ثلاث أفكار متكاملة متداخلة وهي الصراع، والقوة، وتوازن القوى، وعلى أساسها قامت سياسات واستراتيجيات فرعية عززت إنغماس الولايات المتحدة في شؤون العالم ودوله وشعوبه وبررت حروب ومواجهات شاملة من بينها الحرب الباردة التي أسفرت عن إنهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الشرقية..

بعد هذا الفصل التمهيدي يتفرغ الكاتب لموضوع كتابه المركزي، المحافظون الجدد، ومباشرة يشرع في تتبع الجذور التاريخية “للظاهرة” التي يرفض وصفها بالتيار، بدعوى أن حضورها الفكري على مستوى الممارسة السياسية والأكاديمية محدود في نخبة أو عصبة نخبوية رغم تأثيرها الواضح في رسم وتوجيه دور واشنطن على الساحة الدولية طوال العقود الماضية،والملفت أن الجهد الذي بذل في سبيل تأصيل فكر المحافظين الجدد أو المحافظة الجديدة كما يحلو للمؤلف التسمية ذهب بعيدا في التاريخ، يقول في الصفحة 58 من الكتاب “والخلاصة هي أن المحافظة الجديدة واليمين المسيحي الجديد يستمدان أفكارهما من جذور بعيدة ترجع إلى الأيام الأولى لنشأة الولايات المتحدة، وهي جذور نفسية ودينية وثقافية وأوهام متراكمة تضخمت مع الأيام “

ولا يستطيع القاريء هنا أن يهمل تعويل الكاتب على عامل الوهم والأسطورة في تفسير نزعة الهيمنة والتوسع والسيطرة والدعم اللا محدود للكيان الصهيوني، التي وسمت سياسات المحافظين الجدد منذ زمن الرئيس رونالد ريغان حتى عصر ترامب ..متجاهلا أن الأساطير حتى الدينية منها لا تصنع الأفكار ولا تصوغ المفاهيم، ووظيفتها تنحصر في التبرير والترويج للفكرة في عقول الدهماء والجماهير الشعبية التي يستعملها رأس المال كوقود لقيادة عربة التاريخ والصراع على الثروة والنفوذ ..

وحسب التحليل الذي يقترحه الدكتور أبو خزام تلتزم أطروحات ” المحافظة الجديدة” بالمرتكزات الست التالية :-

1- تغيير أهداف السياسة الخارجية من الحفاظ على النظام العالمي كما هو وخدمة المصالح الأمريكية من خلاله ، إلى فرض الهيمنة المباشرة على العالم من خلال التدخل الفوري في أي بقعة على الأرض يتوقع أن تتعرض فيها مصالح واشنطن او حلفائها للخطر..

2- الهيمنة بلا شراكة بحيث تتولى واشنطن بمفردها قيادة العالم ..

3- إعتماد استراتيجية الحروب الاستباقية الوقائية ..

4- سحب الثقة من المنظمات الدولية والقانون الدولي..

5- تعزيز مبدأ تغيير الأنظمة المعادية وإسقاطها بالقوة..

6 – الدعم اللامحدود للكيان الصهيوني ، وذلك كما يفسره المؤلف بسبب أن المحافظين الجدد وقياداتهم أغلبهم من اليهود..

الكتاب في قسمه الأخير يسلط الضوء على الأطروحات المضادة لأفكار المحافظين الجدد داخل الولايات المتحدة وخارجها، ويهتم بشكل خاص بالنقد النظري الذي كاله الخصوم لهذه الظاهرة المهيمنة، مستكملا  مفاضلة غريبة بين المدرسة الواقعية في السياسة الأمريكية وأطروحات المحافظين الجدد ونظرية القوة الناعمة التي ظهرت في سياق التصدي للمحافظة الجديدة، والتي ترتكز على التمييز بين الأساليب و تقنيات التكتيك وليس على المحتوى والمضمون والغايات الإستراتيجية المختزلة في العقيدة الأمريكية الراسخة التي تنظر للعالم كموضوع لمشروعها الامبريالي..وإذا كان الكتاب يستحق القريظ والإشادة فيما أتاحه من معلومات للقاريء العادي والمختص، فإنه من وجهة نظري توقف عند مرحلة العرض والوصف بدليل أنه لم يستطع تقديم قراءة نقدية تحليلية لبنية الفكر السياسي الأمريكي وأكثر من ذلك أنه لم ينشغل قليلا ولا كثيرا بإقتراح رؤية موحدة لمواجهة السياسات الأمريكية الامبريالية المتطرفة، يمكن أن يستأنس بها ضحايا هذه السياسة في عالم باتت تحكمه همجية القوة .

______________________________

نشر بموقع الأيام.

مقالات ذات علاقة

دار الرواد للنشر بطرابلس تعلن عن ظهور “محمود أحمد المنتصر ودوره السياسي في ليبيا ” للنور

المشرف العام

أنا والموت

المشرف العام

إطلالة على كتاب “إطلاق طاقات الحياة” للدكتور مصطفى حجازي (1)

علي عبدالله

اترك تعليق