المقالة

اللغة المقدسة

سلسلة: الصورة والخيال

سعود سالم

من أعمال الفنان التشكيلي رضوان الزناتي
من أعمال الفنان التشكيلي رضوان الزناتي

2- اللغة المقدسة

إن التناقض الذي ذكرناه سابقا بين مقولة محمود درويش “القصيدة ليست حدسا وليست فكرا ولكنها حاسة الهاوية..”، وبين “الفكر يتصاعد من الشعر، كما تتصاعد من الوردة رائحتها..” لأدونيس، والذي يمثل هذا المأزق أو هذا الشرك الذي يتواجد فيه الفكر المعاصر محاصرا ومكبلا، والذي عبر عن نفسه داخل الشعر ذاته، بلسان شاعرين كبيرين من شعراء اللغة العربية، ربما يعود بالدرجة الأولى إلى أهمية “الكلمة” في التركيب الثقافي العربي، وإلى أهمية اللغة الشعرية الخيالية في جميع جوانب الحياة العربية، من المعلقات إلى “افتح يا سمسم” و “إن شاء الله”. ومحاولة تحليل هذا التناقض قد يلقي قليلا من الضوء، ولو بطريقة باهتة أو جانبية على طبيعة هذا الفكر وحدوده. وقد يفسر من ناحية ثانية لماذا كل الأنظمة العربية السياسية بدون استثناء تخاف من الكلمة، لماذا تقفل الصحف وتسيطر على أجهزة الاعلام المختلفة. لماذا المحاصرة والمطاردة والرقابة والإرهاب ضد كل من يفتح فمه ليقول كلمة مخالفة لكلمة رئيس القبيلة. ذلك أن الكلمة “أقوى من السيف”، ولها قوة الفعل. يكفي أن يقف القائد العظيم وراء منصته ويقول قصيدته في سحق العدو، لتتحول الهزيمة المريعة إلى نصر شامل، وإسقاط طائرة بالصدفة إلى هزيمة الأسطول الجوي المعادي بأسره. وهزيمة عدة دول عربية تتحول إلى مجرد “كبوة حصان”. ورغم وجود بعض الإستثناءات في تاريخ الدولة الإسلامية، ولا سيما المبدأ الليبرالي الذي وضعه معاوية “إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا” وهو نوع من “حرية التعبير” إن صح القول، حسب محمد عابد الجابري، مبدأ سار عليه معاويه وبقية الخلفاء الأمويون من بعده، غير أن الشعر وتقديس اللغة بقي عاملا مقدسا وبنائيا للهياكل الثقافية السائدة، والطبقة الحاكمة تتعامل مع الكلمات ليس كعلامات دلالية، وإنما كأشياء مادية حقيقة، توخز وتجرح وتصفع وتقتل. الكلمات لها القدرة على التأثير على مسيرة الإنسان والعالم في التاريخ الإجتماعي العربي المعاصر.. ومن الواضح أن علاقة الأنظمة العربية الاسلامية، والإسلام ذاته باللغة هي علاقة سحرية وليست واقعية أو عقلانية، فـ “الفكر يتصاعد من الشعر.. كما تتصاعد من الوردة رائحتها..” إن استعمال اللغة بطريقة سحرية، يخرج اللغة من مجال “الدلالة”، وينفي عنها وظيفتها الأساسية كوسيلة وظاهرة تاريخية للإتصال تنمو وتتطور حسب إحتياجات المجتمع العملية والفكرية والفلسفية للإتصال وتنمية العلاقات العقلية بين أفراد المجتمع، ويقذف بها في غياهب العتمة المقدسة، ويحولها إلى عنصر ووحدة متكاملة منغلقة على نفسها كلغة مقدسة. فتدخل اللغة وتنحصر في جمال الخيال والتصوير والمجاز، وتحل اللغة محل الفعل، والخيال محل الواقع. ذلك أن الصورة الخيالية قادرة هي أيضا على خلق الطاقة الشعورية والإحساسية والإنفعالية مثلها مثل أية ظاهرة واقعية. فالعربي حيوان فصيح كما يقول محمد عابد الجابري، “فبالفصاحة وليس بمجرد العقل تتحدد ماهيته”. ومحمود درويش في رسالة كتبها إلى سميح القاسم، يذكر قصة سائق التاكسي الذي سألته وكالة الصحافة الفرنسية عن سبب إستماعه الدائم إلى الشعر، فأجاب..”عندما أقترب من حاجز للجيش، أستمع إلى الشعر لأنه يجعلني أقوى”. غير أنه في الآونة الأخيرة نشهد يقظة بعض الشعراء العرب، بعد الهزائم المتكررة، وبعد فشل الكلمات في إشباع الفقراء، أو تحرير شبر واحد من الأراضي المحتلة. فقد صرح محمود درويش في فرنسا قبل موته بقليل بأن “الشعر لا يستطيع أن يسقط الطائرات، وكلما ارتفع صوت الطائرة انخفض صوت الشاعر”. ولن نتساءل هنا عن ضرورة أو إستحالة مواصلة الكتابة الشعرية في عالم مليء بالجثت والأنقاض والخرائب، فهذا موضوع آخر. ولكننا لا بد أن نتسائل عن طبيعة التحالف القائم بين الشعر والدين، ضد اللغة الفلسفية. فمقولة “من تمنطق فقد تزندق” لا تشير فقط إلى أن الحرب الشاملة التي شنها الفقهاء وعلماء الفكر الديني ضد الفلسفة، كانت أحد الأسباب المهمة التي أدت إلى هزيمة العقل النقدي، واندحار الفكر الفلسفي المستقل، وإنما تشير ايضا ولو بطريقة غير مباشرة، إلى الخطأ المنهجي الذي أشرنا إليه، والذي ارتكبه بعض المثقفين العرب، بالخلط بين المنهج الديني والمنهج الفلسفي، ووضعهما في جانب واحد في مقابل اللغة الشعرية. وها هوالكاتب الليبي الصادق النيهوم في دراسته “الرمز في القرآن” يحاول كالعادة إقناعنا بحداثة النص القرآني وعقلانيته وأنه يوجد تفسير وقراءة عقلية ومنطقية لكل الآيات. وفي تحليله أو تفسيره لسورة الكهف، يستنتج أن القرآن لا يروي هنا حدوث معجزة بقاء أصحاب الكهف ثلاثة قرون وهم نيام، وإنما يحكي تاريخ ميلاد المسيح ومحاولة تصحيحه: “فالمسيح لم يولد في الخامس والعشرين من ديسمبر كما يزعم الانجيل. وقد ثبت الآن بأدلة لا تقبل الشك أن عيسى قد ولد قبل التاريخ المعتمد حالياً بخمس سنين على الأقل. والقرآن يذكر أن مريم جاءها المخاض بجانب نخلة، وقد أشار القرآن إلى هذا المكان بالذات لكي يشير بعد ذلك إلى أن بلح النخلة كان قد استوى وصار رطباً ولأن البلح لا ينضج في ديسمبر، فمن الواضح أن القرآن يرفض تاريخ الميلاد الحالي الذي يحتفل به المسيحيون.” ويواصل النيهوم نظريته ومحاولته لعقلنة القرآن وإعطاءه صورة كتاب تاريخي وعلمي “سأفترض أن القصة بأسرها حادثة رمزية تهدف في الظاهر إلى الحديث عن بضعة من القديسين المطاردين في الجبال، وتهدف في الواقع إلى الحديث عن تاريخ المسيحية ذاتها” فيرى أن الرموز وراء الكلمات “تتحدث عن حقائق تاريخية خفية لا علم لأحد بها” ويستنتج النيهوم بأنه: “هذه بالضبط نقطة الإعجاز التي وقفت تتحدى محاولات الشعراء لتقليده. فالشاعر يستطيع أن يجد اللفظ، ولكنه لا يستطيع أن يتجاوز معلومات عصره التاريخية. وليس ثمة شك أن أحداً في العالم بأسره لم يكن يعرف تفاصيل حادثة الميلاد إلى هذا الحد.” فهو من ناحية يؤكد عدم قدرة الشعر على مجارات القرآن في قوته وفصاحته، ذلك أنه حتى ولو وجد اللفظ فستنقصه حتما المعلومات التاريخية اللازمة للإعجاز والتي ليست في متناول العباد وإنما يعرفها الله وحده في ذلك الوقت على الأقل، متناسيا أن الشعر ليس دليلا سياحيا أو تاريخيا وأن الخيال هو مصدره ومرجعه الأول والأخير، ومن ناحية أخرى يحاول أن يرجع النص القرآني، وهو نص خيالي بالضرورة، المتعلق بأسطورة الكهف إلى حوادث تاريخية شديدة الدقة، مستعملا في ذلك إحدى التقنيات الشعرية وهي اللجوء إلى الرمز. وهكذا يثبت لنا ثانية العلاقة الحميمة بين الشعر والنصوص الدينية عامة، فهو ينفي معجزة النوم ثلاثة قرون لأهل الكهف لأن الإسلام في رأيه لا يلجأ إلى المعجزات، ولكنه في نفس الوقت يشيد معجزة أخرى، معجزة العلم بالغيب: “وليس ثمة شك أن أحداً في العالم بأسره لم يكن يعرف تفاصيل حادثة الميلاد إلى هذا الحد”، وبذلك يتحول النص إلى مجموعة من الألغاز والطلاسم يجب فكها باللجوء إلى التحليل الرمزي، غير أن هذا لا يجعل القرآن أكثر عقلانية بل يرميه في جانب التفسيرات الباطنية والكتب أو النصوص السرية التي لا يتاح فهمها لمن هب ودب، باختصار في جانب اللغة الشعرية والخيال وليس في جانب العقل والتاريخ. ونشير في نهاية الأمر إلى إمكانية اللقاء والتحالف بين أيديولوجية الدين الغيبية واللاعقلية، وبين بعض الذين يؤكدون على اللغة الشعرية الخيالية الأسطورية كمصدر معرفي وكحل ممكن لأزمة الفكر والعقل المحاصر.

مقالات ذات علاقة

ثقـافــة.. أقوى سلاح لتطور الأمم

يونس الهمالي بنينه

لمن يهمهم الأمر من أنصار 17 فبراير

جمعة بوكليب

إعصار دانيال في مدينة درنة يعكس حجم كارثة ليبيا

رمزي حليم مفراكس

اترك تعليق