المقالة

اللاوعي السياسي

ربما ورد هذا الاصطلاح لأول مرة لدى الروائي الفرنسي موريس باريه، الذي اشتهر بميوله إلى الأفكار التي تمثل بدايات الفاشية والعداء للمثقفين والمفكرين، في أواخر القرن التاسع عشر، وكان يدعو لهذه الفكرة التي تقول أن أجناساً وأمماً بأكملها لديها أفكار وميول جماعية يمكن استثمارها بشكل أسهل وأجدى، ومن ثم ليظهر هذا المصطلح في كتابات تشومسكي وبورديو الناقدة لهذا التوجه، وبشكل أوضح لدى المفكر الأمريكي، من أصل فلسطيني: إدوارد سعيد ، وباعتبار أن تلك النزعات الشيفونية المتعصبة، مثل النزعة القومية، والتي تبنتها برامج وأدبيات سياسية كانت تحاول إرضاء هذه الفكرة عبر تأجيج وجدان جماعي خرج مستفزا من حقبة استعمارية صعبة. يتمظهر مفهوم اللاوعي السياسي في الفكرة المسبقة والمتحمسة لدى جمهور واسع، والعمل من أجلها باندفاع دون الخوض في مقتضياتها التاريخية أو محتواها المعرفي, وأفضل تمثيل لهذا المفهوم هو معاداتنا اللاواعية للغرب المسيحي، وفق حالة عامة من الاستسلام العقلي أو بالأحرى العاطفي لكون كل ما هو غربي عدواً مفترضاً لنا، وقد لعبت الأنظمة العربية باستخدام كل أدواتها التعبوية دورا في تربية هذه النزعة العدائية المستريبة تجاه الآخر، خصوصا في مرحلة ما بعد الاستعمار ، من أجل الحرص على عدم تسرب أية قيم سياسية أو حقوقية جديدة، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي قد تفكك بنية أنظمة كانت تبني على مهل منظوماتها ومؤسساتها الشمولية. وقد انخرط العديد من المثقفين الذين يعملون في حماية هذه السلطة وإغراءاتها في جوقة المشككين في الانفتاح على الثقافات الأخرى عبر حالة شاملة من الاستلاب تجاه هذه التعميم التاريخي لفكرة الآخر والغرب خصوصا، والمحصلة أنه لم نعجز عن فهم الغرب فقط ولكننا عجزنا حتى عن فهم أنفسنا. سيبرز هذا الاتجاه من جديد وبقوة مع الثورات العربية الراهنة، والتي يعمل من يحاولون سرقتها على تأجيج مظهر اللاوعي السياسي أو استثماره لخلق قاعدة عريضة للتوجهات الحزبية أو البرامج السياسية للوصول بسرعة إلى سدة الحكم. خصوصا مع الإحساس بعدم وجود أرضيات شعبية لهذه الأحزاب التي تحولت مع الزمن إلى نسخة من الأنظمة الساقطة أو المنادى بسقوطها حين أصيبت بعدواها إثر التعايش السلمي معها كديكور ديمقراطي أو مواجهتها من الخارج بنفس آلياتها. كانت فعلا مصابة بعدوى هذه الأنظمة في تنظيمها وفي علاقتها بالشارع ، في بناها الإدارية وفي سلطة الفرد الواحد عليهاا، مرشدا كان أم رئيس حزب. ومع إخفاق جل المشاريع السياسية الأخرى شكلت النزعة الدينية في العقود الأخيرة في منطقتنا أحد مظاهر اللاوعي السياسي بشكل يشبه ما صاحب الحروب الصليبية من دعاية أو تنظيرات النازية والفاشية، باعتبارنا الجنس الأفضل الجدير بالحياة والدين الوحيد الحق على الأرض، وباعتبار أن الحل الوحيد لأزمات العالم بين أيدينا، متجاهلين الأقليات أو الأكثريات الطائفية والعرقية التي تشكل نسيج الحياة الاجتماعية. تظهر أزمة مثل هذه الخطابات جليا في أدبيات الأخوان التي تنطلق من مرجعية دينية وتدعو في الوقت نفسه لقيام دولة مدنية دستورية في حالة واضحة مما يسميه المفكر الإيراني داريوش شايغن “التصفيح” أو التلفيق الذي يمزج بشكل مضحك بين حقلين معرفيين مختلفين تماماً. والنموذج الإيراني هو الأوضح لهذا التصفيح الذي وضع تلك الأمة العريقة في حالة فصام تاريخي دفعت ومازالت تدفع ثمنه من حريات، وتنمية واستقرار المجتمع الإيراني. الآن تراهن هذه الأحزاب على مساحة اللاوعي السياسي لتوظيفها بشكل انتهازي للوصول إلى السلطة عبر وجدان مؤجج بشجون اللحظة ومخدوما بتراث من الاستبداد الذي قادته النخب العسكرية في تحالفها مع العائلات الحاكمة. ومن هذا المنطلق فإن اللاوعي السياسي الذي حكمنا طيلة عقود النظام، مستعينا بأطروحة سيكولوجية الجماهير في كتاب جوستاف لوبون الذي كان انجيل موسوليني، ومستخدما لغة أورويل الجديد التي تجعل الكلمات منتجة في الواقع لعكس معانيها طبق توصيف امبرتو إيكو للفاشية الأصلية، إن هذا اللاوعي يترصده الآن انتهازيو هذه الثورات العظيمة، وعيونهم على الصندوق الذي سيوصلهم إلى السلطة عبر وجدان مؤجج وليس عبر رأي أو خيار سياسي، عبر لا وعي شائع وليس عبر وعي سياسي. لذلك ستكون هذه الثورات عقيمة، إن لم تُسقط ليس الأنظمة فحسب، ولكن كل بنى الفاشية التي ترعرعت في ظل هذه الأنظمة، والتي من الطبيعي أن تصاب بعدواها، ومن خلال حقيقة سيكولوجية تقول أن الضحية سرعان ما تتحول إلى جلاد حين تقضي على الجلاد، وفي التاريخ السياسي كما في الحياة اليومية الكثير من البراهين على ذلك. ولذلك لا معنى لثورة لا تنقض على كل البنى السابقة للعقل ولأنماط التفكير وتنتج وعياً جديدا، أهم ما فيه القدرة على تجاوز التناقضات الحادة إلى الرغبة الحقيقية في بناء دولة الجميع، والأهم من ذلك إعادة إنتاج علاقتنا بالغرب وبالحضارات على الأرض وفق عقل مصلحي يعرف أين يكسب ومتى، وليس عبر انفعالات وعواطف كاذبة أورثنا إياها نظام بقدر ما تفاخر بمعاداته للغرب بقدر ما أفصح عن ارتمائه المجاني في أحضانه للحفاظ على سلطته بعد أن فقد أية إمكانية للتصالح مع الداخل، والنتيجة كانت معادلة خبيثة أفضت إلى هذا الخراب، تحقيق مصالح الغرب مقابل الاستمرار في السلطة، بدل أن تكون حالة من التوافق بين مصالحنا ومصالح العالم كسبيل أجدى لنهضتنا وتنميتنا وتحقيق دولتنا الديمقراطية التي تستمد قوتها من احترام العالم لها وليس من مقايضته بالاستمرار في السلطة.

________________________________

كتبت هذه المقالة في شهر أبريل 2011*

مقالات ذات علاقة

إشكالية التصحيح اللغوي

عمر أبوالقاسم الككلي

صورة وذكرى

مهند سليمان

سُؤالُ السلامِ النسوي

فاطمة غندور

اترك تعليق