من أعمال التشكيلية الليبية نجلاء الفيتوري.
قصة

الــمــســده

من أعمال التشكيلية الليبية نجلاء الفيتوري.
من أعمال التشكيلية الليبية نجلاء الفيتوري.

” في فناء بيت الجارة “أمالخير” كنت العب مع أبناء الجيران الذين كانوا يأتون بصحبة أمهاتهم كما كنتآت مع أمي وقت الضحى، لتشارك أمي نسوة الحي في تنظيف الصوف و غزله ثم نسجه و صنعالأغطية.

كنا أطفالا صغارا لا تتجاوز أعمارنا العاشرة، لكننا نفهم و ندرك ما حولنا من الأعمال تجري في ذلك الفناء، و نسعد كثيرا بلقائنا اليومي رغم رفض أمهاتنا لاصطحابنا في بعض الأوقات.

مازلت اتذكر تلك الأيام الخوالي و صورة ذلك الفناء الترابي الواسع و النظيف الذي دائما تحرص الحاجة “أم الخير” على تمشيطه و إزالة الأوساخ منه، و رشه بالماء؛ ليرقد غباره و يسهل اللعب و الجلوس في ظلال زيتونتيه المتجاورتين و نخلتيه القصيرتين في ركن السور ،نلعب تحتهما لعبة “شيخ البلح”، و في الجهة الشرقية من الفناء كان هناك ما يشبه الكوخ أو “العشة”  غير أنه فضاء واسع و ذو واجهة مفتوحة من الأمام يعرف “بالزريبة”، مصنوعة من “الزرب” و “الزرب” عبارة عن عصي طويلة جردت من سعف النخيل اليابس، هذه “الزريبة” مفروشة “بالتازير” و مسقوفة بالجريد، تجتمع فيه النسوة بكل محبة و تعاون.

الصوف مكدس فيها بينهن، و هن يقسمن العمل به في مجموعات منهن من يقمن بتسويته بكفي “القرداش” حتى يصبح ناعما في شكل رقائق ثم يسلمنه إلى أخريات يقمن بغزله و ذلك بلفه على عصا الغزل الخاصة “المغزل” و يصير خيوطا طويلة و رقيقة لا تنقطع و تكون جاهزة لعملية النسج.

و هن منهمكات في عملهن لا يغفلن ما يعينهن عليه من أمثال تلك الأغنيات الشعبية “كغناوي العلم” و “بوطويل” و تبادل أبيات الشعر و الأحاجي الماتعة و الحديث عن الأحداث الماضية و الحاضرة، و رائحة الشاي و قطع الخبز المصهدة تشرح النفس و الثغر لها مبتسم، كنا نأكل حصتنا منه مبلل بالشاي، إلى اللحظة استطعم حلاوتها في فمي.

أجمل يوم ذلك الذي رحت فيه مع أمي إلى فناء “أم الخير” و طلبوا منا أن نساعدهن في رفع و توقيف “المسده” ،فسارعنا بالتلبية و كل مجموعة منا تمسك بلوحها المفكك و حمله معهن حتى يربطنه ببعضه ثم يربطنه “بالزرب” كي لا يسقط.

اصبحت “المسده” واقفة كأسوار سجن تتخللها القضبان، لكن هذه القضبان رقيقة جدا و على طبقتين، لقد شعرنا بالسعادة و بأننا أنجزنا عملا شاقا يستحق مكافأة، حصلت يومها على “قرش”.

“المسده”… مجموعة من الأعمدة تشكل على هيئة مربع، تكون لوحتي “الجداد” هما الأساس في صنعها و هما لوحان غليظان إحداهما في الأعلى و الأخرى في الأسفل تكونان على التوازي و السفلية لا تلامس الأرض، في المسافة الوسطى بين اللوحين يقبع “الجداد” و هو المتكون من خيوط كثيرة سهلة الانقطاع من طبقتين،  بداياتها و نهاياتها في اللوحين و نتوسط طبقتيه عصا مستعرضة يتم التحكم فيها من فبل النسوة ليعرف حجم نسجهن، و يتم ربط اللوحين بأعمدة جانبية كدعامات تحمي “الجداد” و تجعله مشدودا.

بعدما اوقفنا “المسده” بدأنا بالدخول و الخروج و اللعب و إخراج أصابعنا من الجداد و الأمهات ينهوننا عن ذلك مخافة أن نفسده و يضيع جهدهن مع أصابعنا العابثة.

في الأيام التالية باشرت الجارات بالجلوس خلف “الجداد” كل يوم تجلس اثنتين منهما تطعمانه الصوف المغزول و تمررانه في طريقة حلزونية ثم تدكانه بمشطة حديدية صغيرة “الخلال” و هي في شكل راحة اليد و به بروزات طويلة تمتد للأمام في حجم الأصبع يمكنها أن تدخل بين الخيوط الرفيعة و تدك الصوف لأسفل و لهذا “الخلال” قبضة من الخلف يمسك منها.

في الواقع كنا معجبون بهذه المسده و نتهافت لتجربتها لكنهن يمنعوننا من الاقتراب فنضطر إلى الذهاب خلسة و ندخل للزربية و نجرب ما حرمنا منه.

كانت النسوة يعملن في نشاط حتى انتهين من نسج “الجرد” الأول و اقمن بذلك احتفالا صغيرا بهذه المناسبة و وزعن علينا الحلوى و اوقفونا في طابور و قامت الحاجة “أم الخير” بقطع خيوط “الجداد” فوق رؤوسنا و هي تقول:

         “جدادك ايبيد و عمرك ايزيد …”.

و نحن نضحك من الفرح، لكنني لا انسى ذلك الضحى الذي جعل الصبي “رجب” يبكي من شدة الضرب و ذلك لأنه كان يطارد نحلة و بيده عصا غليظة، و بينما هي محتمية بجداد المسده ضربها بقوة فانقطع و سقط الجداد و لم يستطع الفرار فقد امسكته “أم الخير” و ضربته وسط ضحكنا جميعا.

مقالات ذات علاقة

بوعبعاب

محمد الأصفر

ما تبقى…!!

المشرف العام

الركض وراء فتاة تخرج من حفل ثقافي

شكري الميدي أجي

اترك تعليق