من أعمال التشكيلي عادل الفورتيه.
قصة

الغولة

الصباح

حنان المجبري

من أعمال التشكيلي عادل الفورتيه.
من أعمال التشكيلي عادل الفورتيه.

كانت تلك الليلة باردة مع أن نهارها مر حامياً جداً، ولكنها الصحراء.. إنها الكفرة يا سادة.
أتفحص وأدقق في كل شيء محيط بي، وفجأة رأيت رجلاً سميناً برأس صغير جالس وقد أسند ظهره على الجدار وهو يراقبني، وإذ به شوال الفحم، وقد وضعه أبي فوق كرسي عند الجدار ووضع فوقه سطلاً صغيراً يغرف به الفحم عند الحاجة له.. شجرة المانجا بباحة منزلنا بدت وكأن هناك فسحة كبيرة بينها وبين باقي الأشجار، قلت لنفسي وأنا نائمة في الظلام: مسكينة قد اعتزلت شقيقاتها لتحزن بهدوء على فقدان ثمارها قبل الأوان..

لم أستطع أنا وإخوتي أن نصبر حتى يكتمل نضوجها؛ ربما لو لم تنقطع الكهرباء يومها لكانت تلك الثمار نجت مثل المسجل. كان أبي قد أحاط  الشجر برداء قديم لجدتي ليبقيها بعيدة عن حرارة الشمس، فبسببها قد تصفر القشرة ومازالت الثمار خضراء من الداخل، فيخيل لنا أنها قد نضجت، ثبت على عمود طويل مغروس في الأرض كشافاً كبيراً ينعكس ضوءه الباهر عليهن  ليرى بوضوح من غرفته المقابلة للباحة من يقترب منها، فكانت وهي مصفوفة في جداولها ومنحنية للأمام بثمارها الثقيلة مرتدية الملابس التراثية كنساء عجائز يتبادلن أحاديث  البرد الشيقة.
كنا أطفالاً لم نصم رمضان بعد ولا نعلم مذاق العصير البارد على الريق الجاف الذي كان يمنينا به أبي كلما اقتربنا من الشجرة، عندما قطفناها وقشرناها وغمسنا أطرافها ببعض الملح قبل أكلها كان مذاقها الحلو اللاذع شهياً جداً.
أختي الكبيرة أمل أنبتنا كثيراً وقالت إن ما فعلناه سرقة سيعاقبنا الله عليها؛ فقد سرقتم ثماراً من شجرة أبي التي زرعها واعتنى بها  طوال هذه السنوات.. قلت: سرقة! خفت كثيراً أن يكون ما تقوله أمل صحيحاً، ولكن إيمان أختي الصغيرة بددت بعض قلقي عندما قالت: قد أخذنا بعضاً منها فقط وهي حصتنا فنحن أيضاً كنا نسقيها وننظف تحتها أحياناً.
بدأت الشموع التي سهرنا عليها تغفو بعد حديث طويل وضحكات عالية ختمتها أمي كالعادة لتستريح قليلاً بقصة الغولة التي تأكل الأطفال الذين لا ينامون مبكراً، فغفا الجميع إلا أنا خفت من الغولة، كما أني شعرت بألم في معدتي وضميري.. آاااه يا معدتي، السرقة ليست فعلاً جيداً.. للحظة أغمضت عيني وبدا النوم ينسل إليهما أخيراً وساد الهدوء والصمت وخف صوت الرياح وسكن العشب تحت الشجر، ولم يبق سوى شخير أمل الذي كان يطمئنني أنه إذا جاءت الغولة ستغفر لي بقائي مستيقظة بسبب هذا الضجيج الملتصق بي.
البرد قارس وقد وددت لو أستطيع أن أحضر غطاء آخر، التفت باتجاه باب الصالة التي يسودها الظلام، حاولت تشجيع نفسي ولكن جذب البطانية من أمل سيكون أقل خطورة كما أنها تغط في نوم عميق ولن تشعر بي..عدت والتفت إلى الاتجاه الآخر، سحبت البطانية بهدوء ولففت بها قدمي وما إن شعرت بالدفء حتى غفوت.. بعد لحظات سمعت صوت أقدام ثقيلة تحط على الأرض وكأنها قفزت لتوها من فوق الجدار، قلت لنفسي إنها الغولة.. أخرست صوت أنفاسي وتمنيت أن يعلو شخير أمل، تسارعت نبضات قلبي، خفت كثيراً.. هل سأموت؟ شعرت أن صوت الخطوات يقترب ويقترب، أغمضت عيني أكثر، قلصت نفسي أكثر وبدأت أناجي الله: يارب أنقذني ولن أسرق من جديد وسأنام باكراً كل يوم، وسوف أعيد لإيمان كل ألعابها التي رميتها غيظاً منها في دوارالغنم، وسأخبر أمي أني زورت توقيعاً على ورقة الامتحان الذي رسبت فيه، يارب لا أريد أن يمضغني أحد.. أظن أن أسنانها ستكون مؤلمة.. أنقذني يارب، وفجأة سعلت الغولة.. هل يسعل الغول؟ قلت لنفسي..هل يصاب بالزكام  مثلنا؟ابتعدت الخطوات عني، ترددت كثيراً قبل أن أفتح عيني ولكن الفضول غلبني ففعلت.. وقعت عيني على أقدام كبيرة وأرجل طويلة تتبعتها إلى الأعلى بهدوء حتى أرى وجه الغولة، فكان مسعود ابن جارتنا سالمة! مسعود الذي ترفض أمي أن يرافقه أخي الكبير أحمد لكونه سييء الخلق مشهوراً بشربه الخمر وتفوح منه رائحة السجائر، هل تعرف أمي أنه أيضاً يعمل غولة في الليل!
اتجه مسعود بخطوات خفيفة تكاد تلامس الأرض وكأنه راقصة باليه وهو يحمل مصباح جيب صغيراً في يده إلى داخل المنزل، ثم اختفى في ظلام الصالة الواسعة، وأنا ما زلت ساكنة دون أن أصدر أي صوت أو حركة، كنت أرى نور المصباح يقترب ويبتعد يشتعل و ينطفيء داخل كل غرفة؛ فقد كانت غرف منزلنا مفتوحة كلها على الصالة وبكل واحدة منها أغراض ومقتنيات ثمينة، ولكن بدا أن مسعود كان يبحث عن شيء محدد..غاب طويلاً في الظلام ثم عاد حاملاً مسجل أبي، كان مسجلاً يسمع منه أبي الأخبار وأغاني الست وتشغل به أمي أغنيات سميرة توفيق والأطرش، ويسلينا في رحلتنا وعند العطل..
حمل مسعود المسجل وفتح باب الباحة وخرج منه ثم أدار الباب خلفه حتى لا يرى أحد الفتيات النائمات وغادر، وبعد دقائق من التحديق هززت أمل بقوة فاستيقظت وهي مفزوعة وقالت: ما بك؟ مسعود.. مسعود.. إنه الغولة! ماذا مسعود غولة؟ مسعود ابن الجيران؟ إنه الغولة، قد سرق مسجل أبي.. مسكين أبي يسرقه الغول والأطفال.

مقالات ذات علاقة

امرأة من بنغازى

سعد الأريل

مُحـاولة فـاشلة للانتحـار

محمد النعاس

فصوص الثوم

عزة المقهور

اترك تعليق