المقالة

الغراب رمزاً معرفياً

لعله لم يوجد نبات أو حيوان أو طير تضاربت حوله الآراء في الثقافات الإنسانية، عبر العالم، مثلما حدث بشأن الغراب.

توجد أنواع عديدة من الغربان في العالم، لكن أهمها نوعان. نوع يسمى في الإنجليزية raven ويسمى في العربية الغُدَاف، ونوع يسمى في الإنجليزية crow ويُطلق عليه في العربية الغراب.

يتميز الغداف بتجنبه للإنسان، أما الغراب فيقترب من الإنسان بحثا عن طعامه ويتسلل إلى البيوت ويسرق منها. لكن النوعين من آكلي الجيف والجثث، لذا ترتبط الغربان عموما بعالم الموت وكونها نذير شؤم. إلا أنه حظي بالتقديس في بعض الثقافات، واعتبر حكيما ومخادعا لدى ثقافة أخرى، ومساعدا للمحبين لدى بعض الشعوب، ووسيطا أو رسولا بين البشر والكائنات الروحية لدى شعوب أخرى… إلخ.

لكننا سنركز هنا على كونه رمزا معرفيا.
في قصة الطوفان الواردة  في ملحمة غلغامش، التي يعتقد أنها دونت [وليس ألفت] في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، يُطلق أوتو- نبشتم، نظير نوح في الديانات التوحيدية، في سابع يوم لتوقف الطوفان، حمامة، فتعود إلى السفينة لأنها لم تجد مكانا غير مغمور تستقر عليه، ويحدث نفس الشيء مع سنونو،”ثم أخرجت غرابا وأطلقته فذهب الغراب ولما رأى المياه قد انحسرت أكل وحام وحط ولم يعد وعند ذلك أطلقت كل شيء إلى الجهات الأربع وقربت قربانا…”
فرغم أن الغراب كان هنا أنانيا وغير ملتزم بتنفيذ المهمة التي أوكلت إليه على النحو المنتظر منه، إلا أنه نفذ جوهرها بشكل آخر، إذ أدرك أتو- نبشتم من عدم عودة الغراب أن ثمة بقعا انحسرت عنها مياه الطوفان، الأمر الذي حدا به إلى إطلاق “كل شيء إلى الجهات الأربع” والاستعداد لاسترضاء الآلهة بالقرابين.

في التوراة يرد تبرير ضمني لعدم عودة الغراب، ذلك أن نوحا عمد منذ البداية إلى اختيار الغراب لمهمة الاستطلاع، فاعترض الأخير على ذلك مستنكرا: “من بين المواشي والوحوش والطير كافة، لم تخترني إلا أنا؟!”. أي أنه شعر أن نوحا يخاطر به. فأجابه نوح: “وما نفعُك؟!. فأنت لا تصلح لا للطعام ولا للقرابين.” ويبدو أن الغراب لم يغفر لنوح إهانته هذه، فآثر عدم الرجوع إلى مكان لا يُقدر فيه. وبالتالي يكون الغراب كائنا يعتز بكرامته.

الجدير بالذكر أن اختيار الغراب كمستطلع، أو كرسول، يقرنه ضمنا بالمعرفة.

في التلمود، بعد أن قتل هابيل أخاه قابيل ظل آدم وحواء، أبوا القاتل والقتيل، حائرين بشأن كيفية التخلص من الجثمان، فجاء غرابان وتقاتلا بحضور آدم وحواء وقتل أحدهما الآخر ثم قام القاتل بحفر حفرة ودفن القتيل فيها فعرفا، من هذه الواقعة، فكرة الدفن. ترد نفس القصة في القرآن ولكن دون ذكر اسمي ابني آدم، كما أن الغراب جاء وحده وعلم القاتل، عن طريق الحفر “…كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتي أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي…”(31) (سورة المائدة).ففي الحكايتين مثَّل الغراب مصدر معرفة، وإن كانت معرفة مرتبطة بالموت. على خلاف غراب طوفان ملحمة غلغامش وطوفان التوراة اللذين ارتبطت معرفتهما بالنجاة.

لدى بعض قبائل الهنود الحمر في أمريكا يعتبر الغرابلاحكيما ومخادعا في نفس الوقت، وربما كان هذا الاعتقاد ناتجا عن الذكاء الشديد الذي تتميز به الغربان فعلا.
تقول إحدى الحكايات التي تجسد هذا الاعتقاد لديهم أنه في البدء كانت الظلمة تغمر الدنيا وكان الناس يعيشون في ظلام تام، لأن سيد السماء احتفظ بالنور في صندوق خاص. لم يرض الغراب بهذا الوضع وقرر سرقة النور، فذهب إلى حفرة في السماء وجاء إلى النبع الذي تشرب منه ابنة سيد السماء وتحول إلى بذرة انتقلت مع الماء الذي شربته الفتاة، فحبلت. وبعد أن وُلد وقضى فترة معينة تمكن من سرقة الصندوق المخبأة داخله الشمس. لما فَتح الصندوق وهو يطير جهره نور النور فسقط منه الصندوق وتناثرت محتوياته إلى شمس ونجوم وقمر، فانتشر النور في الدنيا. ومن هنا يكون الغراب بمثابة بروموثيوس في الأساطير اليونانية الذي سرق النار من الآلهة وأهداها للإنسان، وكلاهما، النور والنار، يعدان رمز للمعرفة.

______________________________________________________________
* اعتمدنا في استقاء المعلومات محل التحليل هنا على عدة أعمال لم نرَ داعيا للإحالة إليها.

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

عام عودة عايدة

فاطمة غندور

المعتزلة ومآلات التطرف

عمر أبوالقاسم الككلي

اعتــــذاراتٌ حــــــولاء..

جمعة الفاخري

اترك تعليق