من أعمال التشكيلية حميدة صقر.
قصة

الغائب

محمد مفتاح الزروق


تقول الدمعة التي لم تسكب في وعاء دموع القصص واحتفظت بها قدرا ما إنك رأيت جارك الغائب تلك الظهيرة بصحبة أطفاله. عاد وعادت معه الضوضاء والإزعاج..
ابتسمت له مجاملة, لكنه تقدم نحوك واحتضنك بقوة وصرخ في وجوه الأطفال: سلموا على عمكم.. سلموا.. ومددت يدك تتلقى أكفهم الصغيرة البريئة في هيأتها لمن لا يعرفها, المملوءة بالشر لمن يعرفها مثلك.. أنت الذي جاورتهم لخمس سنوات خبرتهم وخبرت شقاوتهم التي تتجاوز حدود الطفولة..
إنهم أطفال.. ما الذي جنوه؟! حسنا.. إنهم أطفال ولكن..
ما الذي لم يفعلوه؟! أيقظك ركضهم وصراخهم في الهزيع الأخير من الليل غير مرة, فاحتسبت أمرك لله وعددتها فرصة لك لتخطف ركعتين قبل الفجر وتشكرهم على هذه النعمة. لكنك في حاجة إلى النوم. لديك عمل في الصباح..
لا بأس ستعوض هذه الليلة بنوم في الظهيرة يمتد إلى ما بعد العصر بساعة أو ساعتين..
وغير مرة لم تحظ بهذه النعمة أيضا.. فقد أيقظك صراخهم مجددا.. ولعنتهم بقولك: “سحقا لكم ولأبيكم وأمكم.. متى تنامون؟؟!
الزرع الذي أمضيت ردحا من الزمن تنتظر نموه أمام باب العمارة.. اقتلعوه..
نوافذ الشقة.. كسروها بالكرة..
وكلما اشتكيت لوالدهم كان يكتفي بالقول: اقرص.. اضرب! إنهم مثل أولادك.. لا والله ليسوا مثل أولادك.. لديك ابن شاب وابنة شابة عاشا في كنف الهدوء والراحة, وطفل صغير لم يختبر الخروج إلى حديقة العمارة بعد.. فكيف يكونون مثلهم..
عشرين سنة قضيتها في الشقة لم تفكر يوما أن تبرحها.. اليوم وضعتها في مكتب.. هكذا أخبرت جارك (بكار).. “ما فكرت نبيع إلا لما جاوروني عيالك”.. هكذا تخبره فيقهقه وقد احمر وجه ويقول:
– الله غالب.. عيال!!
انقبض صدرك وأنت تصافح الأطفال وتراقب نظراتهم الهادئة التي تنبئ بعاصفة.. على مين يا طبرق؟! تهتف أعماقك وأنت تنظر في وجه أصغر الصبية سنا وأكثرهم شقاء.. ذلك الصبي ابن الأربعة سنوات.. صراخه مثل صافرة شرطي مرور.. وذراعه تقذف بالحجارة الصغيرة كأنها منجنيق..
دفعتك المجاملة إلى أن تسأل بكارا:
– وين هالغيبة؟!
وأنت تتوقع أنه كان في مصيف أو منتجع بغية إبرام هدنة مع الجيران, لكن الجدية غزت محياه فجأة وورمشت عيناه في حزن وقال وهو يبتسم ابتسامة المتكلف وينظر إلى الأطفال وهم يصعدون سلالم العمارة:
– كنت في رحلة علاجية خارج الوطن..
– خير يا رب.. لا باس..
– والله.. هذاك المرض.. ابتلاء.. لكن منتشر.. قالولي روح وانتظر قدرك..
– لا حول ولا قوة إلا بالله..
تأملت وجه بكار.. لا شيء ينبئ بالمرض.. هل هو واهم؟! لا.. أكد لك.. الصور والتحاليل والكشوفات والأعراض..
لا تعلم كيف وصلت إلى شقتك.. إلى سريرك.. وكيف اضطجعت وأنت تتأمل السقف وكأنك تهم باختراقه بعينيك لترى ما الذي يخبئه المستقبل..
علا صوت صراخ أطفال بكار.. أحدهم يقول: هات الكورة نلعبو.. آخر يلعن سنسفيل أخته.. ويطلق الصغير صراخا كأنه صفارة شرطي مرور قبل أن يرتطم شيء ما كالزجاج بالأرضية ويصدر صوت تحطم..
رويدا رويدا.. بدأت تعتاد صوت الأطفال.. تمنيت أن يستمروا في عزف هذه السيمفونية الإلهية صباح مساء.. ليل نهار.. دون توقف..

مقالات ذات علاقة

صــنة فــايحـــة

محمد ناجي

الزواج في زمن الكارونا

حسين نصيب المالكي

القطوس

عزة المقهور

اترك تعليق