المقالة

العقلية العربية القديمة في الميزان

لكل أمة من أمم الأرض خصائص وصفات تشكل جُماع عقليتها ، وتتجلى في تفكيرها ومنطقها ونفسيتها وعاداتها وآدابها وفنونها ، ولكم تبارى الكتَّاب والمحللون على مدى التاريخ البشري في وصف عقلية هذه الأمة أو تلك شتى الأوصاف ، وكان للعقلية العربية النصيب الأوفى من جهود أولئك الكتَّاب والمحللين والمولعين بتحليل واستكناه الشخصيات والنفسيات ، وهذه مجموعة من مقولات مختلفة تشخَّص العقلية العربية القديمة:

1 ـ نسبت بعض كتب التاريخ القديم لملك الفرس كسرى أنو شروان كلاما توجه به إلى ملك الحيرة النعمان بن المنذر، افتخر فيه بعقلية قومه ، وفي نفس الوقت ذم العقلية العربية ، إذ نعتها بعدد من الصفات السلبية من بينها : ضعف الهمة والغدر واللعب بالكلام والكسل والجبن والغرور، فقال : (( همتهم ضعيفة ، بدليل سكنهم في بوادٍ قفراء ، ورضاؤهم بالعيش البسيط والقوت الشحيح ، يقتلون أولادهم من الفاقة ، ويأكل بعضهم بعضاً من الحاجة .

أفضل طعامهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها ، وإن قرَي أحدهم ضيفاً عدّها مكرمة ، وإن أطعم أكلة عدها غنيمة تنطق بذلك أشعارهم ، وتفتخر بذلك رجالهم ، ثم إنهم مع قلتهم وفاقتهم وبؤس حالهم ، يفتخرون بأنفسهم ، ويتطاولون على غيرهم ، وينزلون أنفسهم فوق مراتب الناس حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكاً أجمعين ، وأبوا الانقياد لرجل واحد منهم يسوسهم ويجمعهم .

إذا عاهدوا فغير وافين ، سلاحهم كلامهم ، به يتفننون وبكلامهم يتلاعبون ، ليس لهم ميل إلى صنعة أو عمل ولا فن ، لا صبر لهم ، إذا حاربوا ووجدوا قوة أمامهم حاولوا جهدهم التغلب عليها ، أما إذا وجدوها قوة منظمة هربوا مشتتين متبعثرين شراذم ، يخضعون لحكم الغريب ويهابونه ويأخذون برأيه فيهم ، ما دام قوياً ، ويقبلون بمن ينصبه عليهم ، ولا يقبلون بحكم واحد منهم ، إذا أراد أن يفرض سلطانه عليهم )) .

2 ـ وتوقف الجاحظ عند عفوية وبساطة العربي في تفكيره ومنطقه وكلامه، فقال: ((وكل شيء عند العرب فإنما هو بديهة وارتجال ، وكأنه إلهام ، وليس هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكر ولا استعانة ، فما هو إلاّ أن يصرف همه إلى جملة المذهب، وإلى العمود، الذي يقصد، فتأتيه المعاني أرسالاً، وتنثال الألفاظ انثيالا .

ليس هم كمن حفظ علم غيره ، واحتذى على كلام من كان قبله ، لم يحفظوا إلاّ ما علق بقلوبهم ، والتحم بصدورهم ، واتصل بعقولهم من غير تكلف ولا قصد ولا تحفظ ولا طلب )) .

3 ـ أشار ابن خلدون في مقدمته إلى صعوبة قيادة العرب فقال : (( وهم متنافسون في الرياسة ، وقلَّ أن يُسلِم واحد منهم الأمر لغيره ، ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل ، فيتعدد الحكام منهم والأمراء ، وهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرياسة ، فقلما تجتمع أهواؤهم )) .

4 ـ ونقل أحمد أمين في كتابه ( فجر الإسلام ) عن المستشرق الأب لامانس قوله عن مفهوم العربي للحرية فقال : (( إن العربي نموذج الديمقراطية ، ولكنها ديمقراطية مبالغ فيها إلى حد بعيد ، وإن ثورته على كل سلطة ـ تحاول أن تحد من حريته ولو كانت في مصلحته ـ هي السر الذي يفسر لنا سلسلة الجرائم والخيانات التي شغلت أكبر جزء في تاريخ العرب ، وجهل هذا السر هو الذي قاد الأوروبيين في أيامنا هذه إلى كثير من الأخطاء وحمَّلهم من الضحايا التي كان يمكنهم الاستغناء عنها ، وصعوبة قيادة العرب وعدم خضوعهم للسلطة التي تحول بينهم وبين السير في سبيل الحضارة الغربية .

ويبلغ حب العربي لحريته مبلغا كبيرا ، حتى إذا حاولت أن تحدها أو تنقص من أطرافها هاج كأنه وحش في قفص ، وثار ثورة جنونية لتحطيم أغلاله والعودة إلى حريته ، ولكن العربي من ناحية أخرى مخلص مطيع لتقاليد قبيلته ، كريم يؤدي واجب الضيافة والمحالفة في الحروب ، كما يؤدي واجبات الصداقة مخلصا في أدائها حسب ما رسمه العرف )) .

5 ـ أشار أحمد أمين إلى ذكاء العربي فقال : (( العربي عصبي المزاج ، سريع الغضب ، يهيج للشيء التافه ثم لا يقف في هياجه عند حد ، والمزاج العصبي يستتبع عادة ذكاء ، وفي الحق أن العربي ذكي ، يظهر ذكاؤه في لغته ، فكثيرا ما يعتمد على اللمحة الدالة والإشارة البعيدة ، كما يظهر في حضور بديهته ، فما هو إلا أن يفاجأ بالأمر فيفجؤك بحسن الجواب ، ولكن ليس ذكاؤه من النوع الخالق المبتكر ، فهو يقلب المعنى الواحد على أشكال متعددة ، فيبهرك تفننه في القول أكثر مما يبهرك ابتكاره للمعنى ، وإن شئت فقل إن لسانه أمهر من عقله ، خياله محدود وغير متنوع ، فقلما يرسم له خياله عيشة خيرا من عيشته ، وحياة خيرا من حياته يسعى وراءها ، لذلك لم يعرف (المثل الأعلى) ، لأنه وليد الخيال ، ولم يضع له في لغته كلمة واحدة دالة عليه ، ولم يُشرْ إليه فيما نعرف من قوله ، وقلما يسبح خياله الشعري في عالم جديد يستقي منه معنى جديدا ، ولكنه في دائرته الضيقة استطاع أن يذهب كل مذهب .

أما ناحيتهم الخلقية فميل إلى حرية قلَّ أن يحدها حد ، ولكن الذي فهموه من الحرية هي الحرية الشخصية لا الاجتماعية ، فهم لا يدينون بالطاعة لرئيس ولا حاكم ، تاريخهم في الجاهلية وحتى في الإسلام سلسلة حروب داخلية ، وعهد عمر بن الخطاب كان عصرهم الذهبي ، لأنه شغلهم عن حروبهم الداخلية بحروب خارجية ، ولأنه منح فهما عميقا ممتازا لنفسية العرب )) .

6 ـ في بحث بعنوان ( الخلاف السياسي في فجر الإسلام ) نشرته مجلة كلية التربية ـ طرابلس 1972م ، نعت الدكتور عبد اللطيف البرغوثي العربي الجاهلي بالأنانية المفرطة ، وتوقف عند ظاهرة كرمه ، فقال : (( العربي الجاهلي فردي مفرط في فرديته ، وفرديته هذه فردية مصلحية لا تقل قسوة وعنفا عن قسوة بيئته الطبيعية وعنفها ، لكن هل كانت هذه الفردية المصلحية المفرطة تتناقض في جوهرها مع ما اتصف به وتغنى به ومارسه من كرم مفرط ؟ .

إنني شخصيا لا أستطيع أن أرى مثل ذلك التناقض ، بل أنا أذهب إلى أبعد من ذلك فأرد صفة الكرم إلى نفس منبع تلك الفردية ألا وهو المحافظة على الحياة في مضمار تنازع البقاء ، فقد وجد العربي وبالتجربة المؤلمة المريرة أن بيئته فرضت عليه حياة الرحيل والتنقل طلبا للماء والعشب ومن أجل الصيد والغزو ، ووجد أنه في تنقله في أرجاء صحرائه القاحلة كان عرضة للموت جوعا أو عطشا أو ضياعا ألف مرة ومرة في كل سفرة يقوم بها ، ولما كان يبحث في أسفاره عن أسباب الحياة وليس أسباب الموت فإنه تيقن أن نجاته من الموت عبر صحرائه التي أسماها مفازة من باب التفاؤل باجتيازها حيا ، لا يمكن أن تكون إلا على يد إنسان آخر ، يقدم له الزاد إن جاع والماء إن ظمئ ، وفي سبيل أن يجد الراحة والماء والزاد لدى المنقذ المنتظر أوجب على نفسه أن يسلك سلوك المنقذ في أيام استقراره حتى يلقى مثل تلك المعاملة أيام سفره وترحاله ، ومع مرور الأيام تطورت نواة كرمه هذه حتى أصبحت قيمة اجتماعية متحكمة في حياته وعرفا راسخا يلقى من يخرج عليه ما يلقاه الخارج على القانون )) .

وخلص الدكتور البرغوثي إلى أن تعاليم الإسلام التي حثتت العربي على نبذ العصبية القبلية والأنانية المفرطة لم تتمكن من تهذيب عقليته ، فظل سادرا في غيه ، إذ بعد وفاة النبي محمد ارتد أكثر العرب عن الإسلام ، وعادوا إلى حياة التشردم والفرقة والتعصب القبلي المقيت والتنازع على الرئاسة .

هذا غيض من فيض مما قيل في نمط العقلية العربية في زمن ما قبل الإسلام وما بعده ، وللقارئ أن يسأل :

هل تختلف عقلية العرب في هذا العصر عن عقلية عرب العصور القديمة ؟ .

أم لا يزال كثير من العرب يحملون الخصائص السلبية لعقلية أجدادهم الأوائل ؟ .

يؤكد الدكتور محمد عابد الجابري في مؤلفه ( تكوين العقل العربي ) أن العقلية السائدة على تفكير وأحاسيس عرب اليوم هي عقلية الأعرابي ، وهي عقلية تفتقر إلى عمق في التفكير والفلسفة ، ويرى أن من الخطأ أن يظل العقل العربي مشدودا إلى اليوم إلى حضارة وثقافة البدو الرحل ، وهي ثقافة فرضت على العقل العربي طريقة معينة في الحكم على الأشياء والتعامل معها ، قوامها الحكم على الجديد بمقياس قديم .

مقالات ذات علاقة

هاتف.. شعر الهيام بالعارف

نورالدين خليفة النمر

أين ليبيا التي عرفت؟ (7)

المشرف العام

هل لدينا تاريخ للشعر؟

سالم العوكلي

اترك تعليق