كتاب الإنسان المهدور
طيوب المراجعات

العصبيات والهدر

ذلك هو عنوان ثاني فصول كتاب (الإنسان المهدور)، للمفكر وعالِم النفس اللبناني الدكتور مصطفى حجازي، الذي يعرّف الهدر في مقدمته بأنه (يستوعب القهر، فهو أوسع مدىً، ويتفاوت من حيث الشدة، ما بين هدر الدم واستباحة حياة الانسان باعتباره لا شيء، وعديم القيمة والحصانة، وبين الاعتراف المشروط بإنسانيته، كما في علاقة العصبيات بأعضائها، ويتسع ليشمل هدر الفكر، وهدر طاقات الشباب ووعيهم، وهدر حقوق المواطَنَة (بحيث تصبح مِنّةً يُمَنَ بها على الإنسان )، وصولاً إلى الهدر المُتَبادَلِ في الصراعات العصبية، ويتحدث في التمهيد لهذا الفصل عما تخفيه مظاهر الحداثة (في الواقع العربي) من نظم تقليدية تجسد القوى الفاعلة فيه، وهي نظم عصبية (قبلية – عشائرية – عائلية – إثنية – جهوية) متخلفة تتحكم في كامل مؤسسات الواقع الرسمية وغير الرسمية، تطبعه بطابعها وتفرض عليه مواضعاتها وقيمها، وبدلاً عن الأداء والإنتاج والكفاءة تسود تلك المؤسسات مقاييس الولاء والموالاة.

كتاب الإنسان المهدور
كتاب الإنسان المهدور

تتغلغل العصبية في النسيج المديني (المفترض أنه حداثي) وتحكم حركته ودينامياته وتفاعلاته، وعوضاً عن لحاق الريف والبادية بالمدينة في طريق التطور والتقدم، يقسرانها (بفعل ما يزرعانه فيها من عصبيات) على النكوص على اعقابها، (ويُبَدْوِنانها). ثم يُعَرِّف الدكتور حجازي العصبية وفقاً للرؤية الخلدونية بأنها ” نسبة إلى العصبة ” وهي جماعة الأقارب المرتبطين والمتلازمين ببعض، وتسم إنتماء الفرد إلى العصبة حالة من التعصب ومن الاندماج عبر روابط مادية ومعنوية، واستعداد دائم لتجسيد هذا الانتماء عبر التماهي، بل الذوبان الكلي في العصبة فيصبح هو هي، وتتماهى العصبة بالمقابل بالفرد، كما تُوَلِّد مشاعر الولاء بين أعضائها، ما يشعرهم بالقوة التي تتجاوز الفردي والجزئي، فمن العصبة يستمد الفرد قيمته ودلالته، ومن موقعه ضمنها يستمد مكانته، وقد تعمم رابطة الدم التي تطبع العصبية، لتتخذ شكل الرابطة العرقية (الشعب المختار – العِرق النقي..) أو الدينية (الأُخوَّة في العقيدة) أو السياسية ” الأيديولوجية ” (أُخُوَّة العقيدة أو السلاح أو النضال أو الثورة) وهنا يلاحظ المؤلف في صيغة استفهامية (أَوَلا يدل ذلك على حقيقة أن ما يسند هذه الانتماءات في عالمنا العربي هو العصبية ذاتها، حين يعم استخدام تعبيرَي (الأخ) و (الأب) بين الثوريين والمناضلين وأصحاب العقائد الدينية، حتى في المخاطبات اليومية؟) ليشير إلى حديث ابن خلدون عن الترافد المتبادل بين العصبية والدين ” أو العقيدة التي يسبغ عليها تسامٍ
 ديني في الحالات العرقية والقومية ” حيث يقدم الدين ” أو العقيدة ” للعصبية رفداً روحياً يزيد من قوة التحام النسب، فيما في تقدم العصبية بالمقابل للعقيدة قوة وفاعلية ماديتين) ما يزيد من قوة العصبية ويرفعها إلى مرتبة المثل الأعلى الذي لا تضاهيه قيمة، في نظر أعضائها، إلى ذلك تطرح البنية العصبية مسألتين متلازمتين، تكتمل بهما حلقات الهدر الإنساني.
 1- بنية العصبية الداخلية :
 تميل العصبية دينامياً إلى الثبات والإستقرار كحالة مُثْلى (تقاليدنا – قيمنا – عاداتنا..) إنها نظام مُغلق يميل بدافع دينامية الجمود والعادة والتقليد إلى إعادة إنتاج ذاته كحالة مثالية، تتأسس السلطة في العصبية على البنية (الأبوية) حيث يُقَيّض زمام العصبية لمن يملك مقومات القوة من (حسب ونسب وغلب) ” كما فسر ذلك ابن خلدون “، وبحيث يضبط الزعيم الجماعة العصبية، ويمثل دور الحكم في التفاعلات بين أعضائها فارضاً سلطته على الجميع، وملزماً الجميع بالسمع والطاعة، فليس (الكلام) في العصبية (حواراً إنسانياً )، بل هو (إملاء فوقي )، ويوضح الدكتور حجازي (يلخص التعبير ” سماع الكلمة ” هذه العلاقة الفوقية / التبعية، التي تُمارَس على الطفل والمرأة والأتباع سواء بسواء، وبها ينبني الذهن على أساس الجواب الواحد الصحيح الذي يُسْبَغُ عليه طابع اليقين، فالتابع يستوعب كلام السلطة ويعيد إنتاجه في سلوكه وتفاعلاته، فهو لا يفكر ولا يناقش أو يتساءل كي يُنْتِج معرفة جديدة أو أصيلة، إذ الأصالة في العصبية هي التمسك بالأصول واليقينيات والثوابت ” المُلَقَّنَة ” وإعادة إنتاج الماضي، إنها تُضادُّ مفاهيم التجديد والإبداع اللذين يشكلان الدينامية الحيوية لكل تغيير ونماء وتجاوز للراهن، فالإبداع في العصبية يبَخَّس ” في الأصولية ” وينزلق إلى تهمة ” البدعة ” التي تعتبر ضلالة وخروجاً عن الخط المستقيم، أيضاً تستكمل العصبية بنيتها النفسية / الاجتماعية بالتعصب، الذي هو، كما يذهب جمال الدين الأفغاني، العصبية في أنقى حالاتها، كما يفضي التعصب الضامن للحمة العصبية إلى اوالية (الانشطار الانفعالي) حيث تنشطر العواطف بشكل قطعي ما بين إيجابي، طيب، مثالي، ومُنَزَّهٍ تسقطه العصبية على نفسها، مكتسبة بذلك في نظر أعضائها دلالة المثل الأعلى الخَيّر والمطلق، وبين سلبي، خبيث، وموضع الشرور تسقطه على الخارج مع مشاعر الحذر والخشية والعداء، الملازمة له، وهذا الانشطار الانفعالي أحد أكبر مآزق العصبيات على اختلافها، لأنه يؤسس لهدر الداخل والخارج معاً.
 2- علاقة العصبية مع الخارج :
 بدلا من تفاعل وتنافس الجماعات الاجتماعية في صراع خلّاق، كأمر النظم المنفتحة على الخارج تتغذى منه وتغذيه، تحَوّل العصبية عبر الانشطار الانفعالي الذي يتجلى فيه التعصب، ذلك التفاعل إلى عداء وصراع وجود، ففي كل حالات الصراع، تجد العصبية في التعصب والانشطار الانفعالي داخل / خارج مبرراً لحروبها وصراعاتها، ليتأذى من ذلك (الكيان الوطني) بما هو إطار جامع يوحد التنوع والاختلاف ضمن هوية وطنية، ومشروع كيان يحظى الجميع بمكان لهم فيه، مع الاحتفاظ بخصوصياتهم، وحين لا يُحْتَرَمً الوطن فإنه سوف يُهْدَرُ من قِبَلِ العصبيات الداخلية، ليَسْهُلَ على القوى الخارجية السطو عليه وسرقته، سواء بالإحتلال أو بالاستغلال أو بكليهما.
 تحمل العصبيات بذور هدر الداخل والخارج على السواء، مما يوجب التوقف عند بعض ألوان وكيفيات ذلك.
 ثانياً/ العصبيات والهدر الداخلي :
1-    القبول المشروط والهدر :
 أنت مقبول وتحظى بالرعاية والحماية، ويمكن أن تنال حظك من الغنيمة بمقدار رضوخك للعصبية والولاء لها، وإذا لم تفعل، فأنت غير مُعْتَرَفٍ بك، إنك مُعَرّض للنبذ والاستبعاد والإقصاء عن الفرص ومحروماً من الحماية، كما يفرض القبول المشروط على عضو العصبية تمجيدها، وتمجيد أصحاب الشوكة والنفوذ فيها، ووفقاً لعلم الصحة النفسية، فإن القبول المشروط (أنا أقبلك مادمت كما أريد أنا، وليس كما ترغب أن تكون) هو أحد أبرز أسباب الإضطراب النفسي والمرض الكياني، ذلك أن الإنسان مدفوع لأن يكون كياناً قائماً بذاته، ولأن يحقق هوية كيانية قائمة بذاتها ويصير مشروعاً وجودياً قائماً بذاته، لكن العصبية لا تقبل ذلك منه، وتصر على جعله مجرد أداة لتعزيز قوتها ونفوذ رؤسائها وسطوتهم، بذا يكون القبول المشروط مدخلاً لكل سلوكات الكذب والخداع والمراوغة والتمويه.
2-    ثقافة الولاء بدلاً من ثقافة الإنجاز :
 يقوم الولاء على معادلة (التبعية – الحظوة – النصيب من الغنيمة) وذلك على النقيض من ثقافة الإنجاز القائمة على الأداء والإنجاز، اللذين تتحدد تبعاً لهما الهوية والمكانة الانسانيتين، وحيث الشرف، هو الشرف المهني في مقابل شرف المكانة والقرابة في العصبية، في ثقافة الانجاز التي هي (قاعدة كل بناء ونماء وتقدم) لا يرى المرء من مفهوم لذاته إلّا باعتباره كائناً منجِزاً يُحْسِنُ تنمية ذاته وتوظيفها، فيما تهدر ثقافة الولاء للعصبية الطاقات والكفاءات الأكثر حيوية وقدرة على العطاء، تهَمَّشُ فئات من ذوي الكفاءة، حتى النادرة منها، وتُدْفَعُ إلى المنفى الداخلي أو الخارجي ما لم تقدم فروض الطاعة والولاء للعصبية، والشباب المغبون المُهَمّش هو الذي يُهْدَرُ هنا، حيث يُضَحَّى به، من خلال التلاعب بميله الصوفي للعطاء والتضحية والبذل، وللمغامرة وإثارتها، الشباب (الميت الحي) يُزَيَّنُ له وهمُ الحياة الخارقة من خلال زجّه في معارك حروب العصبيات (العبثية) وبطولاتها البائسة.
 3- التبعية وأخلاق الطاعة :
 تستند أخلاق الطاعة في العلاقة البطركية إلى الأصولية، فليس مرجعيتها الفاعلية أو التطلعات المستقبلية، بل هي تنبع من العادات والتقاليد (هذا ما وجدنا عليه آباءَنا…) تتمثل الحالة المثالية في الخطاب وفي الفكر، في الرجوع إلى الأصول وتجسيد الجمود والثبات، لتسد السبيل أمام الفكر والإبداع (الذي يُعْتَبَرُ بدعة، وتسد الطريق أمام انطلاق التطلعات نحو المستقبل (باعتبارها ضلالة) ونشازاً، وخروجاً عن الأصول. ثم أن المعرفة اليقينية القائمة على الجواب الواحد، والتي تستمد قوتها من اسباغ اليقين الديني عليها (بدون وجه حق) عبر التمسك بالثوابت وبالأصول وأصالتها الماضوية، تؤدي حتماً إلى (خصاء الفكر) الذي يوصد معه باب العلم والمعرفة المتجددة الحية، تمنع العصبية التجاوز، ويُدْفَعُ الأبناء إلى حالة تبعية معرفية ورمزية للآباء (وبدلاً من أن يقتل الأبناء آبائهم ” رمزياً ” من خلال تجاوزهم، وتجاوز ثغراتهم ونقاط ضعفهم) إذا (بالآباء يقتلون الأبناء، من خلال الحجر على عقولهم وانطلاقاتهم) ومع قتل الأبناء (المستقبل) أي قتل التجاوز الفكري والمعرفي والابداعي يدخل المجتمع التاريخ الآَسِنِ، وهو ما يعتبر فضيلة الفضائل في الأصوليات ذات السند الماضوي الأصولي والسلطة البطركية الفوقية، التي تمجد التقاليد والعادات والثوابت، وحين يُخْصَى فكر الأبناء (الشباب) وتُشَلّ حيويته وانطلاقاته، فإن المجتمع ذاته هو الذي يُقْتَل، ويتحول إلى بنية جامدة، يُهْدَرُ الناس وطاقاتهم، والمجتمع في حيويته، عبر هدر الشباب حَمَلَة طاقات التغيير وحيوية النماء.
 4- العلاقة الطِفلية وغرس الطفيلية :
 بحكم قصورها الذاتي تعجز السلطة البطركية التي تفرض الطاعة والتبعية، عن ضمان توازن واستقرار البنية العصبية، وفي سياق تحليل ذلك تُطرَحُ مسألتان متلازمتان، ففي الأولى، وبمقابل النزوع إلى الاستقلال واثبات خصوصية الذات، هناك نزوع الانتماء والاندماج في (نحن) يمنح الشعور بالقوة والعزوة، إلّا أن هذا يظل ملغوماً لأنه يتخذ دلالة الاتباع والخضوع، مما يجعله متعذراً بمفرده حيث لا يجد المرء كيانه الذاتي المتفرد، المتساوي في أهميته مع الكيان المنتمي، وهنا تأتي المسألة الثانية المتمثلة مادياً في المغانم التي يحصل عليها أعضاء العصبية، خصوصاً المحظيين منهم، ولكن لا يكفي الطابع المادي / المصلحي للمغانم وحده، بل لا بد من أن تسنده قوى لا واعية تضفي عليه قيمة نفسية مضاعفة تضاف إلى قيمته المادية، إننا هنا بإزاء (الدلالة النفسية اللاواعية) للنحن العصبية بالنسبة لأعضائها، إذ تتخذ هذه النحن دلالة (الأم )، إنها في الآن عينه (الأم المرضعة / والأم الرحم) تتحول العصبية إلى أم / ثدي يُرْضِعُ أبناءه، خصوصاً المحظيين منهم حتى الامتلاء، كما تحمل في الآن عينه دلالة الأم / الرحم الذي يحتضن ويوفر (الحالة النعيمية) من العيش، شأن حال الجنين، الأم الثدي / الرحم هي القادرة وحدها على اطفاء حريق الوجود وامتلائه، وذلك يجعل التسلط البطركي محتملاً، ويعوّض عن مآزقه وحرمانه، وباتخاذ العصبية هذه الدلالة الهوامية اللاواعية، يأنس المحظيون لهذا الوجود ويعملون لاستمراره، مما يؤبد السلطة ذاتها.
 ومن رمزية الأم الثدي / الرحم، تتجلى (مثلما يؤكد المؤلف) الأهمية المحورية للمرأة في العصبية، وما يناط بها من وظائف وأدوار، وهو يواصل تقصي ذلك عبر تحليل سيكولوجي، يكشف لنا وجوهاً وابعاداً عديدة لوضع الإنسان (المرأة والرجل، على السواء) في إطار العصبية، وما يكتنف ذلك الوضع من تأزمات وجودية وكيانية ومعاشية، حيث يخلص بنا إلى نتائج فاجعة، منها أن (عضو العصبية ممنوع عليه أن يكبر وأن يُفْطَم وتنموا أسنانه النفسية، التي تمكّنه من أن يقتحم الدنيا ويلتهمها ليصير كياناً مستقلاً، بل يُفْرَضُ عليه أن (يرضع) التعليمات التلقينية اليقينية، ويرضع المغانم، لكنه يُمْنَع من أن يَشِبَّ عن الطوق ويستقل، ويُحْضَر عليه أن يكبر ويتجاوز ويصير ويحرك التاريخ، وتلك واحدة من أكبر حالات هدر إنسانية الإنسان الكلية (معرفياً، عقلياً، تساؤلاً، نقداً، تجاوزاً، رغبة، وبناء مرجعية ذاتية) ثم يسأل المؤلف (كيف يمكن والحالة هذه أن يكون هناك علم أو تقدم أو نماء؟ وأين هي شروط قيام الديموقراطية التي يرفع الجميع شعاراتها، إن هُدِرَ الكيان والمصير؟
 ثالثاً/ العصبيات والهدر الخارجي :
1-    العصبيات وهدر الوطن :
 قد تؤسس العصبية (التي لا تعترف بكيان يتجاوزها) والتي قد يتاح لها الغلب على العصبيات الأخرى والقوى الخارجية، دولةً وكياناً ونظامَ حكم، إلّا أنها ستكون دولة أو وطن العصبية، أو بالأحرى العصبية التي تختزل الوطن في كيانها، فبتحكم العصبية، يتحول كيان الوطن إلى مجرد وعاء شكلي معرض لكل الأخطار الداخلية والخارجية، إذ تتوقف قوة الوطن ومنعته على درجة انصهار مختلف شرائحه وفئاته ضمن كيانه الذي يتجاوز كل منها ويستوعبها جميعاً، ضمن هذا النطاق الأعلى تجد كل فئة وكل شريحة ذاتها، خلال التنافس والتجاوز في اطار الاعتراف المتبادَل بحق الوجود، وتغتني كأنظمة فرعية من خلال الانفتاح على الآخر، أخذا وعطاء ومشاركة وشراكة، تغتني الهوية الفئوية أو المحلية من خلال الهوية الوطنية الجامعة وتغنيها، تلك هي الخاصية الأساسية للأنظمة الحية، وذلك ما يتناقض والبنية العصبية، وإضافة إلى هدر كيانه كبنية فوقية جامعة، تهدر موارد الوطن وثرواته، حيث تراها العصبيات بنظرة القبائل البدوية إلى مجالها الحيوي باعتباره مجرد مرعى، بحيث تتصارع العصبيات وتتطاحن لزيادة حصتها من الغنيمة وتوسيع رقعتها من الكلأ والماء.
 2- هدر المؤسسات والطاقات المنتجة :
 يتخذ التسابق على المغانم (بين العصبيات) من المؤسسات العامة ميداناً له، ليجسد هدرها أبرز نماذج هدر الوطن، إذ تتحول إلى مجال لاقتسام النفوذ والغنائم، ولا يندر أن نجد في بلد ما قوة العصبيات تتناسب مع مقدار وحجم وأهمية المؤسسات التي تستحوذ وتهيمن عليها وتحتكرها، فبدلاً من أن تقوم المؤسسة على الكفاءة والإنجاز والتميز في الأداء، وعلاقات السلطة لخدمة الادارة والانتاج، وبدلاً من حكم الكفاءة التي تبني وتصنع وتستند إلى المعرفة والاقتدار، تتحول المؤسسات إلى مراكز للولاء الذي يقابله الحصول على الغنيمة، يُنْظَرُ إلى المؤسسة بذهنية (الخراج) أي كمجرد مرعى (كلأ وماء )، يعيد الموروث الثقافي للعصبيات انتاج نفسه في أكثر النظم مدنية وبأشكال أكثر خفاءاً وتمويهاً، كما أنه لا يتاح الصراع على المكانة، والحظوة، والغنيمة للجميع، فهناك أولئك الذين لا ينتمون إلى عصبية، وليس لديهم من مرجعية سوى كفاءتهم وأدائهم، يتعرض هؤلاء للتهميش والبقاء خارج اللعبة، وينتهون بذلك للعديد من ألوان الهدر لمكانتهم وكفاءتهم ومعنوياتهم، فنحن مع نظام الغنائم أبعد ما نكون عن المواطَنَة وحقوقها وواجباتها، حيث تهدر المؤسسات ويهدر الإنسان من خلال هدر طاقاته وكفاءاته، وارغامه على توظيفها (في سوق نخاسة العصبيات) ولخدمة التبعية وتعزيز النفوذ، وأبرز ما يُضار ويتأذى عند هؤلاء، الدافع إلى الاعتراف والتقدير، ولتحقيق الذات في العمل، فلا يجد الواحد منهم الاعتراف بكيانه وإمكانياته وتميزه ولا التقدير لعمله وإنجازه، لا يجد ذاته في عمله، وينتهي إلى إجترار المرارة والمعاناة وخيبات الأمل، ويعيش غريباً في مؤسسته، وبذلك يتدنى الانتماء الى الوظيفة وتتراجع جذوة الحماس للأداء المتميز، يعيش وجوده كإنسان مهدور، وطاقة مهدورة، وكفاءة مهدورة، وعطاء مهدور (طالما قوبل بالتجاهل) ثم : لماذا نكترث ما دمنا ضائعين، ومحكومين بالتجاهل، وغياب التقدير؟
 3- فيروس العنف وحروب الهوية :
 تنطوي العصبية من حيث بنيتها ذاتها دائماً، على شُحنة عدوانية قابلة للتحول إلى صراعات دامية وتصفيات مع الخارج، حيث يتصاعد ما تتميز به العصبية من إنشطار إنفعالي إلى أسطرة للذات كمثال للخير والسمو والكمال الإنساني، في مقابل أسطرة الآخر تبخيسياً ليصير تجسيداً للسوء والشر واللا إنسانية، يحَوَّل إلى العقبة التي تمنع تفتح إنسانية العصبية، ومن هنا فالتضحية به باعتباره اللا إنسان لا تصبح ممكنة، بل تتخذ دلالة العمل النبيل للقضاء على السوء والشر، ومن أجل استتباب نعيم الأم الرحم / الثدي الذي يمثله كيان العصبية.
 من خلال هذه الأسطرة، تنهار العلاقة الإنسانية، ومع انهيارها يصبح القتل وهدر الدم والتصفية ممكناً بدون الشعور بالإثم، فالإنسان لا يمكن أن يقتل إنساناً شبيها به ومساوياً له من حيث الإنسانية، لأنه يكون عندها بصدد قتل إنسانيته ذاتها. إن تحويل العصبية إلى أسطورة النقاء والحق، هدر لإنسانية الإنسان فيها، كما أن تحويل الآخر المختلف إلى أسطورة الشر، هدر أكبر يصل حد إنكار إنسانية ذلك الآخر وإلغائها.
 إلى ذلك قد لا يتجه فيروس العنف إلى الخارج، بل يرتد وباءاً داخلياً، فيما يعرف بصراع الأجنحة ضمن العصبية الواحدة، التي تتشظّى إلى عصبيات فرعية متقاتلة، حد التصفيات الدموية، حيث تنشط اسطورة الفئة الناجية (التي على صواب وحق) والفئة الضالة (المتآمرة المخربة) التي يجب تصفيتها، ليؤَسَسَ بذلك لظهور الاستبداد والطغيان، فحروب الاجنحة وتصفياتها تنتهي عادة باستتباب الأمر لمستبد طاغية، يفرض سلطانه ويبسط سطوته، لتنجلي عندها على السطح النزعة الكامنة في العصبية، إلى السطوة التي لا تُحَدّ ممثلة ببطلها المستبد / الطاغية.

مقالات ذات علاقة

أوسكار والسيدة الوردية

المشرف العام

في مقدمة رحلة القلم النسائي الليبي

إبتسام صفر

أحمد الصالحين وترانيم في محراب برقة

حسين نصيب المالكي

اترك تعليق