المقالة

الشللية النخبوية الليبية

الشللية ظاهرة اجتماعية تظهر في كل المجتمعات، ولكنها تكون أكثر بروزا وتصبح أحد أمراض المجتمع في المجتمعات التي تكون فيها مسارات التنافس الفردي شبه مغلقة، لأن قدرات وإمكانيات الفرد ليست هي الوسيلة التي تفتح أمامه الطريق للوصول إلى الموقع أو المكانة التي يستحقها بين أفراد الجماعة.

نظن أن ليبيا تتوافر فيها هذه الشروط لتجعلها ضمن المجتمعات التي تعاني من هذا المرض وهي – في نظرنا- تعاني من تفشي هذه الظاهرة بين جميع الفئات الاجتماعية، ولكن ما يهمنا في هذا المقام هي الشللية بين النخب، لأنها الفئة التي يؤدي تفشي هذه الظاهرة بين أفرادها إلى إلحاق ضرر بالمجتمع أكثر من غيرها من الفئات، وذلك بالنظر إلى موقعها القيادي في كل المجالات داخل المجتمع.

الشللية تختلف عن الجماعات الأخرى مثل القبلية والجهوية والمناطقية- التي سنتعرض لها في وقفة لاحقة- فالشللية لا تعتمد على رابطة الدم الأسرية والقبلية ولا على الانتماء الجهوي والمناطقي، بل هي رابطة تنشأ بين أشخاص يجمع بينهم اهتمام ومجال مشترك يشكل جزءا من المجال العام ويريد كل منهم أن يحقق فيه مصلحة ومكانة، كما يجمع بينهم إدراك كل واحد فيهم بأن إمكانياته وقدراته المتواضعة لا تمكنه من تحقيق ذلك المطمح إذا ما أصبح المجال مفتوحا لتنافس القدرات والإمكانيات الفردية.
إذن وجود طموح مشترك بين مجموعة من الأفراد إضافة إلى إدراك كل منهم لمدى تواضع إمكانياته وعجزه عن تحقيق ذلك الطموح، يعدان من الشروط الأساسية لنشوء بيئة حاضنة لظاهرة الشللية.

لا ينبغي الخلط بين الرابطة الشللية والرابطة الحزبية، فهذه الأخيرة تقوم بين مجموعة يعتنقون فكرة أورؤية واحدة يعتقدون أنها تحمل حلا للإشكاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مجتمع ما، ولذا فالحزب يسعى للوصول إلى السلطة لتنفيذ أطروحاته وبرنامجه مفتوح أمام الجميع للانضمام إليه حسب تلك الرؤية، بعكس الشلة النخبوية التي عادة ما تسعى لتحقيق مكانة أو وضعا متميزا في أي مجال عام ولاسيما في تلك التي يعتمد التميز فيها على القدرات الفردية وليس على الاحتكار الشللى من خلال التآزر والتضامن للسيطرة على مجال معين وسد منافذ الفرص أمام من لديهم قدرات وإمكانيات حتى لا يؤدي دخولهم للمنافسة إلى كشف عورة القدرات المتواضعة لأفراد الشلة.

تعد الشللية ظاهرة مرضية تصيب أي مجتمع إذا توافرت ظروفها وشروطها ويبدو المجتمع الليبي مهيئا على الدوام لإفراز مثل هذه الظاهرة ،لأ ن تركيبته الاجتماعية وظروفه السياسية والتاريخية التي مر بها تجعل منه وسطا حاضنا لظاهرة الجماعات المتمحورة حول مصالحها في مواجهة مصلحة الجماعة الكبرى المتمثلة في المجتمع الوطني، فمن حيث التركيبة الاجتماعية تعد القبلية والجهوية والمناطقية من المكونات المتجذرة في التربة الاجتماعية الليبية، كذلك من الناحية السياسية والتاريخية، فمنذ الاستقلال لم تسمح السلطة، التي من المفترض أنها هي الناظم الاجتماعي والسياسي للمجتمع، بتخلق بيئة سياسية واجتماعية تفرز أحزابا ومنظمات مدنية لتكون بدائل عن الجماعات الأولية وما تمثله من مصالح ضيقة لا تكترث في معظم الأحيان بمصلحة الجماعة الوطنية.

تتميز الشللية عن غيرها من الظواهر الاجتماعية بسمات من أهمها:
أولا: أنها تجسد تضامنا مصلحيا محضا في مواجهة منافسين غير متعينين سياسيا، على عكس التضامن الحزبي الذي يحدد خصومه ومنافسيه سياسيا انطلاقا من قبولهم أورفضهم لأطروحته ورؤيته السياسية، كذلك لا يحدد التضامن الشللى خصومه ومنافسيه اجتماعيا، على عكس التضامن القبلي الذى يحدد بكل وضوح القبائل الأخرى كخصوم ومنافسين فعليين أو محتملين، كما إن التضامن الشللي عابر للجغرافيا الوطنية، على عكس التضامن الجهوي والمناطقي الذي يحدد مصالحه جغرافيا، فالجغرافيا من حيث المبدأ، ليست عدوا للتضامن الشللي وإنما أعداؤه الحقيقيون هم أصحاب القدرات والإمكانيات الذين يعتبرهم منافسين له على الجزء الذي يستحوذ عليه من المصلحة العامة.

ثانيا: الإقصاء، وهو إرث ثقافي تليد ضارب في عمق التاريخ، تشكلت في بوتقته ذهنيات وسلوكيات دون أن يطاله تفكيك أو مراجعة أو تجاوز، فتوارثته الأجيال فأصبح الإقصاء- وهو أحد سمات هذا الإرث- منطلقا أساسيا للفكر والفعل على مستوى الفرد والجماعة، ولهذا فإن الإقصاء في حقيقة الأمر ليس سمة تنفرد بها جماعة التضامن الشللي دون غيرها من الجماعات، ولكن الاختلاف يكمن في ضيق دائرة هذه النوع من الجماعات مقارنة بغيرها من الجماعات الإقصائية الأخرى وهذا يرجع لسببين:
1- حجم المصلحة التي تستحوذ عليها التضامنية الشللية: فهي في الغالب أقل حجما من تلك المصالح التى تتمحور حولها الجماعات القبلية والجهوية والدينية، لكن حجم المصلحة لا يعبر دائما عن قيمة وحيوية هذه المصلحة، فجماعة التضامن الشللي قد تستحوذ على جزء حيوي من المجال العام فتقصي وتهمش وتسد الطريق أمام ذوىي قدرات ومواهب حتى تتقي شر منافستهم وبذلك تحرم الوطن والمجتمع من مساهماتهم وعطاءاتهم، ومن هنا فإن هذا الإقصاء دفاعا عن مصلحة محصورة في عدد قليل من الأفراد ينتج عنه ضرر كبير يصيب المجتمع في مصادر ثروته البشرية ورأسماله الفكري والمادي.
2- صعوبة الانضمام إلى هذه الجماعات: الجماعة الشللية تولد مكتملة في أغلب حالاتها. أى أنها تتشكل بفضل العلاقات السابقة على مرحلة التشكل وبفعل التوافق والتفاهم والتناغم حول المصلحة والفرصة السانحة وتحت ضغط إدراك كل عضو فيها لمحدودية قدراته على تحقيق النتيجة التي يأملها في حالة دخوله ومشاركته في تنافس مفتوح حول هذا المورد القيمي، فهذ الجماعة تظل محصورة في “الأعضاء المؤسسون” إلا في حالة حصول صراع بينهم فيجرى إخراج الأضعف أو المتمرد وإسقاطه ولاتستقبل الجماعة انتماءات جديدة إلا بشروط صعبة من بينها الحاجة الماسة للوظيفة التي يؤديها القادم الجديد وأن لا يشكل تهديدا لمصلحة أي عضو فيها وأن لا يؤدى دخوله إلى انفتاح الباب أمام قادمين جدد أيا كانت قدراتهم، وهذا بخلاف الانتماء إلى الجماعات الأكبر والأكثر اتساعا والتي يظل باب الانتماء إليها مفتوحا أمام كل من يعتنق فكرتها وعقيدتها أو يدعي رابطة الدم القبلية أو يتقمص الشخصية الجهوية ويتبنى خطابها.

تتميز التضامنية الشللية عن غيرها بأنها عابرة لكل الجماعات الإقصائية، لأنها تعين نفسها بالمنفعة التي تستحوذ عليها وتحتكرها من المصلحة العامة وبالتالي فهي حالة طفيلية يمكن أن تتغذى من مخرجات أي جماعة أخرى إذا كان ذلك يؤدي إلى زيادة منافعها ويقوي من احتكارها للمنافع التي استحوذت عليها، فبإمكانها أن تغازل القبلية والجهوية والمناطقية وتدعي ميلا سياسيا لهذا الطرف أو ذاك دون أن تضيع بوصلتها أو تحيد عن أهداف نشأتها ومبررات وجودها.

هذه الظاهرة لا يرتبط وجودها بنظام سياسي دون آخر فهي كانت متفشية في ظل النظام السابق وواصلت انتشارها بعد السابع عشر من فبراير، غير أن هناك فارقا جوهريا يتمثل في أنه في ظل نظام القذافي كانت هناك قوة مستبدة تمتلك البشر والموارد، بالتالي هي التي تخلق المنافع وتفتح المسارات أمام هذا النوع من الجماعات الشللية شريطة أن تكون في خدمة النظام سياسيا وذلك يعد شرطا لوجودها واستمراريتها إلى الحد الذى يجعل المتصارعين على المنافع داخل هذه الجماعات يشهرون في وجوه بعضهم البعض سلاحا واحدا وهو الاتهامات المتبادلة بعدم الولاء للنظام، فقد كانت الشللية النخبوية جزءا مما يعرف في أدب الاجتماع السياسي بظاهرة “الزبونية السياسية” التي تميز الأنظمة الدكتاتورية.

أما بعد السابع عشر من فبراير وسقوط النظام وانهيار أجهزته خرجت هذه الجماعات من أمثال القبلية والجهوية والمناطقية والشللية النخبوية عن مسار زبونيتها السابق فتعددت الولاءات بعد الانفلات الأمني والاقتصادي والسياسي وتنوعت سلع سوق الاستنفاع بتنوع مصادرها الداخلية والخارجية، فتنوعت تبعا لذلك الجماعات الشللية وامتدت على الصعيد الداخلي إلى مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية في سباق محموم على غنائم لا دولة تحرسها، كما امتدت على الصعيد الخارجي أيضا في أشكال لجان ومنظمات ومراكز وندوات ومؤتمرات ومبادرات وحوارات.

لاشك أن مشهد الوطن المثخن بالجراح والذي يكاد يجثو على ركبتيه، أغرى سكاكين الذباحين من كل صوب، فأشاع ذلك مناخا من الخوف بين الكثيرين من اختفاء هذا الوطن قبل الظفر ببعض من حطامه وأذكى روح التشرنق الشللي والتسابق نحو الاستحواذ والإقصاء.

__________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

حكايتي لأحفادي بعد خمسين عاماً…

أحمد يوسف عقيلة

لا نعاتبك لا نلوم

خيرية فتحي عبدالجليل

تطور مفهوم الحرية في التداول العربي

عمر أبوالقاسم الككلي

اترك تعليق