تقارير

«الشظية».. ثمرة وحيدة لزواج بارد بين السينما والأدب في ليبيا

محمود الغول

يرتبط تاريخ السينما العالمية بالرواية والقصة، إذ خلَّف هذا التزاوج درراً لم يخفِ توهجها رماد السنين، بل تزداد تأنقاً وتألقاً بمرور الزمن، ويكفي النظر إلى أعمال مثل «ذهب مع الريح» للكاتبة الأميركية مارغريت ميتشل، و «أنّا كارنينا»، للكاتب الروسي ليو تولستوي، و«قصر الشوق» لصاحب نوبل المصري نجيب محفوظ.

أرشيفية عن الشبكة
أرشيفية عن الشبكة

و«يمكن القول إن السينما والرواية تنتسبان إلى نوع فني واحد، فكلاهما يعتمد على بنى أساسية كالزمن والصورة والسرد أو الحكاية»، حسب ندى الأزهري.

ويعد فيلم «الشظية» الليبي واحداً من تلك العلامات المضيئة في تاريخ الشاشة الكبيرة بشهادة النقاد حول العالم، وهو الفيلم المأخوذ عن قصة تحمل الاسم نفسه للأديب الليبي الكبير إبراهيم الكوني.

ورغم ضعف موازنته الإنتاجية والظروف الصعبة التي صور فيها العمل، كانت أهمية القضية التي يتناولها سبباً في حصول «الشظية» على جوائز من مهرجانات عربية وعالمية، كما نال تقدير وإشادة الكتَّاب والنقاد السينمائيين والمخرجين والفنانين العرب والأجانب.

فيرى أشرف شتيوي (ناقد وسيناريست مصري) في مقال له بعنوان «سينما الأمس العربية.. صورة ناطقة عن معاناة الناس وأحلامهم.. أين هي اليوم؟» أن «الإنتاج الليبي لم يغب عن ذهبيات السينما العربية الملتزمة، ففي العام 1984 التقط المخرج محمد علي الفرجاني قصة الأديب والمفكر الكبير إبراهيم الكوني، وبالتعاون مع عبدالسلام المدني وضع سيناريو وحوار شريط «الشظية» الذي يعرض مثالاً حياً لآثار الألغام المدمرة من الصحراء الليبية، فقد سالم زوجته إثر انفجار لغم أودى بحياتها وبأغنامه، فعمل حطاباً ليعيل أطفاله، يلتقي البهلول الذي قتل عريس حبيبته وفر. ينقذه من العطش ثم من الموت بلغم، يهبط الليل وتحاصرهما الذئاب، فيتأخر سالم، يخرج بعض الفرسان بحثاً عنه، فيقتلون أيضاً في حقل الألغام، كما يفشل سالم في التخلص من لغم يقضي عليه ومعه البهلول، وكما هدف الفرجاني إليه وما كشفت عنه أحداث «الشظية» حيث يبدو بوضوح حجم المآسي التي تصيب الإنسان من جراء إنتاج الألغام وتخزينها وزرعها، وحيث تستمر قتلاً حتى بعد وقف الحرب بين الأعداء».

من أين جاءت الفكرة؟
يقول عبدالسلام المدني (كاتب سيناريو الفيلم) إن فكرة تحويل رواية الكوني إلى شريط سينمائي جاءت من خلال خطة وضعتها الشركة العامة للخيالة لإنتاج أعمال، موضحاً: «تم إنتاجه بعد العديد من المحاولات والمطالبة من قبل إدارة الإنتاج التي كانت ترى بأن تنفيذ فيلم روائي سيصب في صالح تاريخ الشركة العامة للخيالة ويدعم مكانتها، فقمت بكتابة السيناريو الأدبي والتقطيع للقصة التي تحمل الاسم نفسه (الشظية) وهو الاسم الحقيقي كما في الشريط ليكون عملاً روائياً تسجيلياً في بداية الثمانينات وسلمته للتلفزيون الذي علق على السيناريو بأنه عمل سينمائي من اختصاص الشركة العامة للخيالة، وعليه تمت إحالة العمل في ذلك الوقت إلى مدير عام الشركة، والذي سلمه بدوره وبدعم منه إلى المخرج الراحل محمد الفرجاني، الذي تبنى العمل ورحب بالفكرة مع إجراء بعض التعديلات عليه. وتم تنفيذ العمل سنة 1984/85..».

وتدور أحداث الفيلم حول لقاء يجمع بين الحطاب سالم (على العريبي) والبهلول (الطاهر القبلاوي)، وهو قاتل هارب من ثأر، إذ تجبرهما الظروف على التواجد في صحراء مليئة بالألغام.

يشوب التوجس علاقة سالم والبهلول في بداية الفيلم (وقصة الكوني) رغم أن الأول ينقذ الأخير من الموت مرتين، بسبب العطش واللغم، وخلال ليلتهما الأولى في مغارة موحشة محاطة بالذئاب والألغام، يبدأ كل منهما يشعر بأن مصيره مرتبط بالآخر، فيحكي كل منهما حكايته لرفيقه.

سالم رجل فقد زوجته واسمها سالمة (كريمان جبر) إثر انفجار لغم أودى بحياتها وبأغنامه، ونلاحظ هنا دلالة الاسم، فرغم أنها سالمة إلا أنها لم تسلم من الموت بهذا الخطر الكامن تحت الرمال، وهي هنا دلالة تضاد، تعكس إسقاطاً مهماً على واقع مرير.

وفي المقابل، فإن «البهلول» هو عاشق هارب بعدما قتل غريمه في ليلة عرسه من محبوبة بطل قصتنا، والذي رفض عمه أن يزوجه ابنته رغم قصة الحب الكبيرة بينهما، وذلك فقط لأن العريس رجل ميسور الحال.

ويدخل الفيلم مرحلة جديدة، عندما يقرر بعض أبناء قبيلة سالم البحث عنه، بعد تأخره في العودة للنجع فيقتلون في حقل الألغام، وينتهى فيلم «الشظية» بفشل البطل في التخلص من لغم يقضي عليه وعلى «البهلول».

تميز الفيلم الذي أخرجه محمد الفرجاني، وكان أول عرض له بمهرجان دمشق السينمائي العام 1985، باعتماده على التصوير في أماكن طبيعية بعيداً عن الاستوديوهات والأماكن المغلقة، كما تناول على هامش القضية الرئيسة (الألغام) بعضاً من مظاهر العادات والتراث الليبي خصوصاً في الأفراح والأعراس والغناء.

ومنذ «الشظية» لم تحظ السينما الليبية بعمل يناطح تلك القامة والقيمة، إذ فشلت الشركة العامة للخيالة المملوكة للدولة آنذاك في تنفيذ أعمال سينمائية بمستوى فيلم إلى أن توقف نشاطها تماماً ‬في العام 2003 بعد تراكم الديوان.

وإبراهيم الكوني يكتب الرواية والدراسات الأدبية والنقدية واللغوية والتاريخ والسياسة، اختارته مجلة «لير» الفرنسية كأحد أبرز 50 روائياً عالمياً معاصراً، ووضع السويسريون اسمه في كتاب يخلد أبرز الشخصيات التي تقيم على أراضيهم. وهو أول أجنبي اختير عضو شرف في وفد يرأسه الرئيس السويسري سنة 1998م عندما كانت سويسرا ضيف شرف في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب في عيده اليوبيل الخمسين، العيد الذهبي. وترجمت معظم كتبه إلى نحو 40 لغة.

ولد الكوني في غدامس 1948، وأنهى دراسته الإعدادية والثانوية في الجنوب الليبي، وبعد دراسة أدبية في بلاده، قصد معهد غوركي للآداب بموسكو، حيث حصل على الليسانس ثم الماجستير في العلوم الأدبيّة والنقدية العام 1977.

وأبرز ما يميز الأديب الليبي الكبير أنه تمكن من تغيير نظرة الكثيرين تجاه الرواية باعتبارها أدب مديني، إذ كتب الرواية التي تتخذ من الصحراء مسرحاً لها، وإنتاج رواية في الصحراء تحدٍ كبير، فكما يرى الكوني فإن نظرية الرواية تقول منذ بداية القرن العشرين إنها عمل مديني، ولذلك يسأل «كيف تستطيع أن تكتب رواية عن اللاواقع؟» ليتابع إن شرط الرواية ليس المكان وإنما العلاقة، وفي الصحراء علاقات بالحد الأدنى، كما الحال في «الشظية».

______________________

نشر بموقع بوابة الوسط

 

مقالات ذات علاقة

في اليوم العالمي للترجمة…العرب الأكثر تخلفا

مهنّد سليمان

حوش الصابون تُسترد فيه الحياة من جديد

مهند سليمان

كل يوم في مدينة ليبية: (3) مدينة درنة

حسين بن مادي

اترك تعليق