النقد

السخرية في أدب علي مصطفى المصراتي ونماذجها في قصة (قداش هالمعلاق)

عبدالسلام حسن الفقهي

الكاتب علي مصطفى المصراتي تصوير: فتحي العريبي.

مما لا شك فيه أن مفهوم السخرية في الأدب بأبعاده الدلالية لا يصل بمجساته عند المعنى المسطح للفكرة، والنظر إلى مستوياتها كهدف لحظي بتلاشي إذا ما تم خوض غمار التشخيص بحثاً عن المعني والمضمون، وإنما يقترب من ذلك كله عبر لمسات خاصة لها نكهتها وكينونتها إلى مفازات أعمق تتدرج في تناولها من الخطوط القصيرة المصبوغة بلون السرعة إلى أخرى تنحدر بشكل رأسي متأنٍ ودقيق، تترصد خلفيات عاملها النفسية وانعكاساته السيكولوجية على شخوصه، وترسم بما يوائم تطور الحدث جدلية تستمد نضوجها من محيط المكان والزمان وفلسفة الأشياء فيه.

وبذا فدائرة السخرية تتسع ويتبلور مخاض دفاعها ليطفو على سطح الحدث كنتيجة ولادة عسيرة تعرف بجغرافية الإنسان، وتبرز بمقدار قوة الإسقاط الرمزي واتخاذه من دعامات البنية الخيالية والسردية أداة مهمة للوصول إلى قلب المشهد، وذلك بتطويعها وفق إيقاع تصويري وفني يستوعب عمق اللحظة ويستكشف من خلال طبقات الشعور الإنساني محنة المعاناة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع، ويستحضرها بمداد الذاكرة الوجدانية والحسية وتكثيف الفكرة دون الوقوع في شراك التضخيم والمبالغة، إنها حرفة القصاص والروائي وهو يسعى إلى تطعيمها بأنفاس واقعه المعيش كعنصر من عناصر البحث والتقويم والكشف عن مواطن السلب والقصور في المجتمع.

الكاتب والأديب الليبي علي مصطفى المصراتي استطاع إلى حد كبير خلال رحلته الإذاعية توظيف أسلوب السخرية كفن في كتاباته القصصية مما جعل ذلك الأسلوب بمنزلة البطاقة الشخصية لنتاجه، إضافة إلى أن هذا الأسلوب  كان أحد الخطوط الداعمة لمحاولة القفز بالقصة القصيرة من التراكيب اللغوية وتقريريتها الجامدة والنافرة عن الشكل الفني وذلك ما مثله جيل المرحلة الأولى  إلى الاهتمام بالموضوع والمضمون والدفع في اتجاه الفكرة للارتقاء بالمعنى إلى مستوى يليق بفلسفة الطرح، وذلك ما جسده نتاج جيل المرحلة الثانية متمثلاً في كتابات علي مصطفى المصراتي خصوصاً في مجموعته القصصية (الشراع الممزق) الصادرة سنة 1963 وما تعج به من روح المناداة بالاستقلال ومناهضة الاستحواذ والخنوع.

ومع كون قصص الكاتب اختارت زاوية تطورها باقترابها من هموم المواطن البسيط ومحاكاة الشخصية الليبية باستدارجها عن طريق لغة المشاكسة بغية استبطان صراعاتها النفسية وخلفيات فضولها الموسوم بحب الاستطلاع والمغامرة في حدود التجريب، نرى أن ما يضعف من وهج بريق السخرية فيها وقوة استجابتها لميكانيزمية الموقف هو منهجية الأسلوب ومعاناته من الوصف الخارجي الذي يحوم حول الشخصية مكتفيا بملامسة حدود قشرتها ولا يتجاوزها في العمق إلا نادراً، إضافة إلى السرد الطويل الذي يؤدي إلى اتساع الدوائر البينية المعول عليها في المحافظة على التماسك الفني لهيكل القصة، وبالتالي فتح مجال التكرار في الحوار والوصول إلى المعنى بشكل لا يتناسب مع طبيعة البناء السردي العام، وعلى الرغم من أن ميزة القصة لديه استطاعت الخروج من القالب القديم المتمثل في سطوة القدر والتصوير السطحي لموضوع العلاقة بين الرجل والمرأة، إلا أن اللقطة الشعرية ونكتة الموقف المستندة إلى التصوير اللحظي تفتقده إلى حد ما تلك الأعمال.

روح السخرية:

في مجموعته القصصية الأخيرة (صندوق التفاح) الصادرة سنة 2003 نرى أن تلك الميزة مازالت تلف طابع المجموعة بدءا بقصة (شفاها الله) وانتهاء بقصة (ثور وثيران) إلا أن ما يرفع من قيمتها الفنية هو محاورة الشخوص بلغة المشاكسة والمداعبة وروح السخرية والتي يتخلق منها سهم مدبب يصوب رأساً إلى جوهر القضية بما لا يلغي معادلة التصوير الواقعي للهم اليومي وتجسيد مشهدية الموقف، ومن واقع ذلك نلحظ في قصة (قداش هالمعلاق) تقصد الدخول المباشر في روح الحدث والاحتكاك بالشخصية بسرد حكاية (عبدالصبور ثابت) المحرك العضوي والذهني للقصة، والتصوير الساخر لسبب خروجه من المنزل في أحد الأيام.. النص (أوصى عبدالصبور ثابت، منذ أيام جزار الحومة أن يحجز له معلاقاً وإلخ ذلك.. وكرر التوصية لأن زوجته كانت حاملاً تتوحم وجاءها الوحم على كرشه ومعلاق  وعصبان.. وهو أيضاً يرجو أن يأكل عصباناً ويشوي كبدة ويتمزمز ) ص115، غير أن التشخيص المبكر لسببية الحركة يفعل من فتيلة التسريع السردي ويحيل جمالية الغموض الفني إلى فضاء يتسع مقدار تباعد رمزية الصورة فيه، ويتكشف بسهولة محاولة تمرير النكتة من بؤرة السرد مما أدى إلى سحب فنية الإسقاط اللغوي وكذا إمكانية الاستحواذ على الوميض اللحظي الساخر، وبالتالي تراجع البناء الفني من جسم القصة إلى حد ما، ولذا لا يمكننا اعتبار الحدث هنا إشارة إلى توليفة تخريجية  تختفي خلف ستاره الزجاجي أو إلى صراع حاد يلوح في الأفق بمقدار ما يكرس لانطباع أحادي يرسو على شاطئ الموقف ولا يحرك مجذافه إلا بصعوبة وضرورة تقررها حاجة إقناعنا بالشخصية وإمكانية السير على الخط المرسوم لها دون الوقوع في فخ التكلف. النص  (وعبدالصبور ثابت بطبيعته من ذلك النوع عصبي المزاج حاد الطبع يسكر من زبيبه وإن كان ليس من هواة أنواع الزبيب.. إنما أنواع أخرى عرفتها شفتاه أيام كان يتردد على المشارب) ص 116.

وتتكرر الوقفات عند شخصية عبدالصبور في وصف مزاياها وتبيان عيوبها، واستعراض يطول ويقصر عند لحظات انفعالها وسرعة توترها مما يؤدي إلى تمدد السرد كما أشرنا ويفتح باب الاستطراد طلباً لإشباع آخر في بنية الشخصية، مما يخل من معادلة التكثيف والاختزال ويدفع الفكرة إلى مسافة قريبة من حدود التشويه  النص (وقد عرف منه أصحابه وخلان الصفا حدة الطبع وسرعة الانفعال والتوتر إلى درجة قد تدفع به إلى رمي ما في يده) ص 116، وفي محطة أخرى..النص (وقد ينكمش لائذاً بصمته وكأنه يندم أو يحاسب نفسه ويعاقبها على ما بدر منه فيتحوقل) ص 116، وتتم الاستعانة بعنصر المداعبة لتوفير هامش من المرونة وإعطاء مبرر لاشتباك مع بقية الشخوص في القصة.. النص (كم من قميص تمزق تضطر الزوجية المسكينة إلى ترقيعه..  لهذا أعدت للاحتياط إبرة وخيوطاً وقمصاناً مغسولة مكواة.. للطوارئ.. وعند اللزوم.. وكم من كوب تكسر.. وطبق تدحرج.. وكرسي انقلب أو تفككت مفاصله) ص 117، وبذلك نرى أن التحليق على ارتفاع المستوى النفسي للشخصية يحفز بقية الشخوص المشاركة والاصطدام معها ويولد سيلا من الإشكاليات لتترجم من خلال ذلك فلسفة لاستفادة من خبرة الاحتكاك بالواقع وتسويق المعاناة في شكل ساخر عبر مفازات الحدث وإمكانية تقديم المفيد.. النص (إنه بطيء الغضب ونادره وقليلة يكون عادة عنيفاً حاداً، إذا استثير وتحركت زوابعه، من هنا جاءت العبارة المحذرة ” اتقوا غضبة الحليم ” أما هذا الانفعالي الفشوش هو من طراز عرفه أهل السوق.. وكثيراً ما يستفزونه ويحركونه دعابة ومزاحا، وقد تتقلب الدعاية ويصبح المزاح شيئاً ثقيلاً) ص 117.

ومن خلال سبر أغوار عوالم شخصية عبدالصبور النفسية تحاول المعادلة تحقيق شروطها بخلق إطار فكاهي انتقادي ساخر يكشف مأساة المفاضلة الظالمة بين مواطن بسيط تجسده شخصية (عبدالصبور) وبين عميد البلدية أو شيخ الطريقة النقشبندية الذي لا يحمل من لقب الشيخ إلا اسمه. النص (واعتذر الجزار بأن المعلاق حجزه عميد البلدية وفي اليوم الثالث.. اعتذر.. أخذه شيخ الطريقة العيساوية ويوماً آخر تأسف له. فقد أخذه شيخ الطريقة النقشبندية أو المدنية.. بركتك يا سيدي المدني) ص 118.

وبالتالي نرى أن الدلالة المباشرة للتسميات تثبت إلى مفهوم طغيان المصالح الشخصية على حساب مصلحة المجتمع ويتضح بعمق آليات العزف على الوتر البراغماتي.. النص (أخذ المعلاق صبيحة اليوم حضرة مدير العام للرقابة والمخالفات بطوبته) 118،  ومن مدير الرقابة إلى الواعظ ورئيس وزراء الصين.. حتى كان الاصطدام بالحاجّة زينة ومحاولة رسم شخصيتها بشكل يوائم الاتجاه الآخر للقصة وهو مس أبعاد القصور المعرفي فيما يتعلق بالثقافة الاجتماعية وفلسفة التعامل مع الناس وترحيله بشكل غير مباشر إلى الموروث وهو مجال لاتتحرك فيه السببية إلا لتعود إليه، إنها مأساة مجتمع كبلته عقدة العادة والتقاليد، النص  (ولا يعرف أحد في المنطقة تاريخ ميلادها وهي غير مسجلة في البلدية، ولكن تعرف كل السمجلين في المنطقة كباراً وصغاراً ومستورين وغير مستورين والطيبين  والبلاعيط، وكانت زينة الزغرادة البلعوطة زمزامة في الأعراس وإحياء الليالي الملاح) ص 126 وفي نص آخر (وشوه المعلاق فراشيتها الناصعة البياض التي عطرتها وبخرتها في هذه الصبحية لإزالة حسد العين) ص 127 بالإضافة إلى تشبيهها بالثخينة وبقفة المصارين، ولعل الحاجّة زينة تشكل مع عثمان دنقلي أهم محطتين في السياق الفني الساخر للقصة  مع وجود عنصر داعم للغة السخرية متمثل في كوكبة من ألفاظ تتزاحم وتتشابك وتشكل سحابة من المفردات العامية والمصرية يقدمه حوار عبدالصور مع أحد الشخوص (إزاي ماتعرفش عكاشة ساكن هنا) وفي حديث يطول مع عثمان دنقلي (شنو عمرك ماريت معلاق وإلا قرمان) وفي لفظ ساخر  (كاد يتكعبل في ثوبه) ونرى أن الألفاظ العامية جاءت هنا لتحاكي بساطة الشخصيات كما في كلمة (بلعوطة) و(زمزامة) و(زغرادة) و(إزاي) و(يتكعبل) والقائمة تطول.

غير أن الصعود والنزول عبر جغرافية السرد وفي خضم هذه النماذج المختارة والمشبعة بروح الفضول تلحظ بعض الجمل التي تقتفي أثر العثور على مفتاح الدخول الشخصية.. النص (وكادت عمامته الكبيرة تهوي من علوها الشاهق) إذاً فمحاولة الوثوب إلى بواطن الشخصية يتضح من خلال السخرية لا من خلال استنطاق الذاكرة أو الرجوع إلى حادثة قديمة وذلك ما يتراءى لنا في محاكاة الشخوص، وإن كان سيل الوقفات تلك خلال رحلة عبدالصبمور مع المعلاق هو تجميع حروف الكلمة الضائعة التي تظهر من خلال استحضار تلك النماذج لتبرير سياق ذلك التطويل، فكانت بذلك محنة عبدالصبور ثابت التي بدأت من أمل الظفر بمعلاق تلبية لرغبة زوجته إلى عاصفة من المضايقات بدأت من مماطلة الجزار له واصطدامه بأربعة عشر شخصية لينتهي برميه على أحد أصحاب السيارات الفخمة بعد أن طفح به الكيل ورجوعه إلى البيت صفر اليدين.

غير أن النهاية التي أقفلت بها القصة متمثلة في كره عبدالصبور ثابت الحم ورائحته لاينسجم مع تطور القصة فيما لو تم مقارنتها بحجم الوعاء الذي أدرجت فيه، لعلنا نستحضر على سبيل المثال قياساً فنياً لامضموناً النسيج السردي في قصة ” مسمار لموسليني ” وبغض النظر عن الطابع السياسي الذي تناولته القصة ضمن مجموعة تحمل عنوان  (حفنة من رماد) الصادرة سنة 1964 نجد أن القاص قد اختار اللحظة العامة المعبرة من حياة بطله (فرغاس) غير أنه شتتها بمقدمة طويلة عن الاحتلال الإيطالي وعن شخصية فرعاس حتى وصوله إلى نهاية لا تتناسب ومستوى التصوير العام للقصة، وهو ذات النسق الذي تبناه في قصة (قداس هالمعلاق) وذلك في الاشتغال على وتيرة الوقوف المطول وتمطيط النكتة التي تستلزم الإشارة الخاطفة والمرور السريع على الحادثة.

إن شخصية عبدالصبور شخصية من النوع الجاهز تظهر في القصة مع بقية الشخوص دون أن يحدث في تكوينها النفسي أي تغيير وهو ما يشبه نوعا يسمى  “البيكارسك” اشتهرت به قصص القرن السادس عشر ومازال موجوداً إلى حد الآن، وإذا ما تجاوزنا جاهزية الشخوص نرى في المقابل أن السخرية وظفت لوضع لمسات بينية على محيط الواقع تعريفاً بإشكالية عدم الوعي والفهم غير المدروس على أسس سليمة لعلاقة الرجل بالمرأة، ومن خلال بؤرة التشخيص نرى أن الأدوات تضافرت هنا لطرح القضية بتقديمها دون محاول الخروج بحل لها وهو طرح مقصود، فالاكتفاء بالتصوير الصحيح يفي بالغرض إذا ما تم الاشتغال عليه بشكل جيد وذلك يقول كاتب القصة القصيرة الشهير الروسي (تشيكوف) “إن هناك فرقاً بين حل المشكلة ووضعها وضعاً صحيحاً فيكفي الفنان كما قال أن يصور مشكلته تصويراً صحيحاً، ومن ذلك نرى محاولة الكاتب الخروج بنص أدبي يعد نسخة طبق الأصل عن الواقع المعيش كما في قصة  (عمك في باريس) في المجموعة القصصية  (الجنرال في محطة فيكتوريا) الصادرة سنة 1991 وتصويرها لسخرية الأقدار وحلم الباحث عن الثراء في بلاد الغرب، وكيف أن حلمه استحال إلى سراب ظل يركض خلفه في زاوية من زوايا الريف الفرنسي.

ختاماً نقول إن فن السخرية لدى الأديب علي مصطفى المصراتي يستمد دفقه من محيط التكوين المعرفي للكاتب المتمثل في ثالوث يشكل أولى لبناته من الأدب العربي في شخصية أبي عثمان الجاحظ وسخريته الفنية، وإبراهيم عبدالقادر المازني ومارون عبود من المدرسة المعاصرة، إضافة إلى هذا الثالوث الساخر نجد البيئة الشعرية التي نشأ فيها بالقاهرة والمشهورة بالفكاهة والسخرية وحب النكتة.

_______________________________________________

المصادر  :

1-  كتاب (علي مصطفى المصراتي بأقلام عربية)- عبدالله سالم مليطان.
2-  الأدب وفنونه- د/ عزالدين إسماعيل.
3-التفضيل الجمالي (دراسة في سيكولوجية الذوق الفني)- د/ شاكر عبدالحميد.
4-  دراسات في الأدب- سلسة كتاب الشعب.
5-  صندوق التفاح – مجموعة قصصية للأستاذ علي مصطفى المصراتي.

مجلة المؤتمر- تصدر عن مركز أبحاث ودراسات الكتاب الأخضر- السنة: 03- العدد: 31- التاريخ: 09/2004- شهرية

مقالات ذات علاقة

حساسية التّراكيب اللّغوية بين شفرة النّص والمضمون الشّعري

المشرف العام

فضاء «العماري».. أحجية الاغتراب

عبدالسلام الفقهي

الوظيفة السامية للتخريف

محمد الترهوني

اترك تعليق