الكاتب الصادق النيهوم
المقالة

الساخرُ اللاذع

رحل كاتبُنا الكبير الصادق النيهوم، بعد مسيرة طويلة من الصراع الفكري والألم الجسدي والضياع النفسي في ليالي الغربة القاسية المؤلمة، بكل عذاباتها المحزنة. ولكن ها هو النيهوم لا يزال موجوداً فينا حباً وفكراً، يعيش في ذاكرتنا، ويتربع على صفحات جرائدنا، حيث تواصل حروفها نحت صورته كأحد المبدعين في دنيا الكلمة.

الكاتب الصادق النيهوم

فما أجمل أن يكون الميتُ حياً! يستذكره ويستحضره الأحياء في كل حين. وما أجمل أن يكون ذلك صعباً أيضاً! لأنه إذا كان الدخول إلى “عوالم” النيهوم صعباً في حياته، فما أصعب ذلك بعد غيابه! لأنه سيظل الرمز للفكر الحديث المتحرر من قيود الماضي المتراكمة عبر عصور دينية وسياسية متفاوتة، والمتمرد على الإرث الاجتماعي المتخلف، وأيضاً لأنه -أي النيهوم- رحل دون أن يفك رموزه، ويجيب عن علامات الاستفهام، التي مازالت تطلقها الأقلام التي عجزت عن فهم ما يطرحه. فما أصعب ذلك حقاً، الآن بعد رحيله!

أبكيك أيها المفكر الذي أثرى حياتنا بالمناقشات والمجادلات المشاكسة، التي كانت تنبش في جسد الموروث الديني والفكر الاجتماعي عموماً، وتسعى لإضاءة دروب المستقبل أمام الجميع. أبكيك وأنا أكتبك وأستذكرك، فلقد تعرفتُ في منتصف السبعينيات مع بداية تكوّن الارهاصات الأدبية، على حروف النيهوم وكلماته، وحلقتُ مع تعبيراته الجميلة الرصينة الواثقة في فضاءات العشق للفكرة والنقد الموضوعي، وعوالم التحفيز والاستفزاز الحضاري للتدبر والتفكر والتحلي بالصبر -دون غيره- لتحقيق الأهداف والوصول إلى الغايات النبيلة.

استهوتني تصويراته الساخرة اللاذعة والناقدة لنمط الحياة اليومي في مجتمعنا، حتى وإن كانت بشكلٍ متعالٍ، يستخفُ بالسلوكيات والممارسات السلبية، فرسمت كلماته وتعبيراته ابتسامة دائمة على شفتيّ، وفجرّت ضحكاتٍ عميقة في عمق القلب، وأدارت محركات العقل في الاتجاه الذي خلقه الله لها.

وهكذا صرتُ أعاشرُ “الحاج الزروق”، ودعوات “الحاجة امدللة” تلاحقني، وأصادق “مسعود الطبال”، وأزحف مع “بلعيد الحافي” لاحتلال الاذاعة احتجاجاً على برامجها الملعونة من الله والمشاهدين. أصبحتُ أسيراً لأسلوب النيهوم، الذي قد أختلفُ معه في بعض الأفكار والآراء، ولكن كان الحرف عنده ساحراً، وكانت التركيبة اللغوية لكلماته ممتعة جداً، تدهشني بتصويراتها التعبيرية، وانسيابها، ورنينها، وسخريتها المتسلسلة، وهي تغوص في أعماق الواقعية، حتى يُخيل للبعض أن هذا النيهوم هو إنسان متعالٍ على الجميع، ويسخر من الجميع، وأنه إنسان محبط نتيجة معاناة حياتية صعبة، وكتاباته ما هي إلا انعكاس طبيعي وردة فعل هذه المعاناة، التي كان يعيشها بشيء من اليأس، يجعله يؤكد أنه لا أمل لنا في أن نكون أبناء “خير أمة أخرجت للناس” مادمنا نسكن هذه الأرض حاملين صناديق مقفلة، نسميها رؤوساً أو عقولاً فارغة، ونعيش بأفكار ملوثة بالجهل والمتناقضات والأحلام المزدوجة الشخصية. قد تفهم كتابات النيهوم بهذا الشكل، أو قد تفهم بعكس ذلك، وقد لا تفهم أصلاً !! ليس لقصور القاريء، ولكن لأن النيهوم يظلُ كاتباً مبدعاً متميزاً في كل شيء، قرر ألاّ ينظر تحت قدميه، منذ أن اتخذ قراره، وهو لايزال معيداً بكلية الآداب ببنغازي، بأن يصعد سلم المجد ويعانق نجوم السماء، يقتبس من أنوارها قناديل الفرح والحب ويمزجها بالفكر والتاريخ، ليهديها إلينا، ونحن نتربع متقوقعين في جلساتنا اليومية العادية جداً! لقتل الوقت والفكر بطرق متعددة والتنذر بعباد الله في جلسات شرب الشاي.. وغيره!!

قد يبدو الصادق رجب النيهوم كاتباً غريباً بالنسبة إلينا، لأننا لم نتعرف في وسطنا الأدبي والثقافي بكاتب جريء مثله من قبل، كاتب يتوجه بكلماته إلى الله مباشرة، دون وسيط، أو تدخل من أحد الأولياء الشيوخ أو أصحاب النفوذ، أو المقربين من المسؤولين، كاتب يطالب بإعادة الدور المفقود الذي كان من المفروض أن يؤديه “الجامع”، كمؤسسة دينية دنيوية، وليس مجرد هيئة تؤدى بها طقوس تعبدية، وتقدم معلومات عن الله والآخرة، في خطب فضيلة الإمام، التي تسبق صلوات الجمعة والعيدين ! كما ينادي بإلغاء “الشعوبية” ويفند النظريات القائمة عليها، وعلاقتها المريبة داعياً في الأساس، إلى تحرير الفكر من أنصاف المتعلمين الحكوميين لإيجاد مفاهيم عصرية لمعاني “القومية” و”البحث الإسلامي” وغيرها من المفردات التي تمثل إشكالية فكرية في الوضع الراهن مع الأطروحات الإنسانية الخالدة للأديان، وتعارضها أو بالأحرى عدم توافقها مع العقلية السائدة في المجتمع العربي حالياً سياسياً ودينياً، والذي يشهد واقعية قاتمة لمستقبل بلا لون!

يبدو النيهوم غريباً وسط مجتمعنا، في أسلوب حياته وشخصيته، وفي سيرته الذاتية، ومواضيع قصصه وحكاياته، وفي شخوصه الروائية الرمزية، وفي سخريته الموضوعية. ولكنه رغم هذا كله، يظل الأديب الأكثر تقديراً، لأنه التزم فكراً وأسلوباً متميزاً اختاره نهجاً لحياته، وتحمل كل تبعات هذا الاختيار بكل شجاعة، ويظل أيضاً القلم الأكثر احتراماً، لأنه كان صادقاً، وجريئاً وموضوعياً في تعاطيه مع كل المسائل السياسية والاجتماعية، بخطاب عقلاني ولغة عصرية. ويظل النيهوم طبعاً الكاتب الأكثر قراء في بلادنا والأوسع انتشاراً، لأنه كان ذكياً في كسب قراء في الخارج، قبل الداخل، حيث فرض نفسه كأحد أبرز الكتاب على الساحات العربية المختلفة، بطرح مواضيع عامة بأسلوب استفزازي وإبداعي. وتجاوز حدود المحلية كان أحد أهداف النيهوم، منذ ظهور نبوغه في بداية مسيرته الأدبية، وقد حقق هذا الهدف واستحق بذلك هذا النجاح العريض والتقدير والاعتزاز الكبيرين.

قد يبدو النيهوم غريباً بالنسبة إلينا لكنه يظل مبدعاً رائعاً، سجل حياتنا بدقة متناهية، وتفاصيل متعمقة ساخرة، وخط بقلمه قصصاً انسابت كلماتها داخل عقولنا مباشرة، ولكن عجزت أفكارنا عن استيعاب رموزها ومضامينها وطرحها الفني بأسلوب إبداعي جميل، تمثل في اختيار المقاطع وانتقاء العبارات وتكرار الفواصل وغيرها. ففي قصته “الحكاية” مثلاً، يبدأ بسؤال وتعجب رمزي يقول فيه:

(أتدرون؟ أن المهاتما غاندي تناسخت روحه، وتناسخت حتى حلت ذات مرة في بيدق على رقعة الشطرنج… تدرون؟ إنه دخل الرقعة ورأى عنزته، وهو يحمل مغزله ويغزل، ووقف خطأً في مربع الشاه، فأمسكه الحراس غاضبين، ورموه على خط النار)… ويواصل النيهوم بث الحياة ومفاهيمها الفكرية في شخصيات قصته، حيث يدور الحوار بين المهاتما وأحد البيادق: (- “مستحيل” قال المهاتما محتجاً. “هذه المرة مستحيل. إنني أرفض أن أموت فداء للشاه، وأرفض أن أقتل من أجله أيضاً”. – “يا مسكين” قال له بيدق واقف بجانبه. “ما دمت قد جئت إلى رقعة الشطرنج، فلا مفر لك من الشاه. هذا سر اللعبة أصلاً). وأخيراً، انطفأ الموقد، بعد صدور قرار إلهي بعدم تواجد جسده معنا في رحلة الدنيا. وأخيراً، خمد الموقد. ولكن أنواره الباهرة، مازالت تسطع في دنيانا باشعاعها الفكري الحضاري الدائم، تنير دروب الباحثين والعاشقين للحياة، وفهم معانيها الخالدة.

مقالات ذات علاقة

قشة فى مهب الريح

تهاني دربي

رؤية.. تحولات الشعر الليبي

ناصر سالم المقرحي

ذكريات طرابلسية (6)

مهند سليمان

اترك تعليق