حوارات

الروائي محمد الأصفر/ الفوضى هي الحرية

الروائي الليبي محمد الأصفر

الفوضى هي الحرية

أنا في خصام مع المثقف الليبي

حاورته: خلود الفلاح

القاص: محمد الأصفر

يقول ريلكه (أنا لا أفكر في العمل، بل فقط في استعادة صحتي تدريجياً بواسطة القراءة وإعادة القراءة و التأمل)

ومحمد الأصفر هذا الروائي الذي أثارت رواياته الكثير من الجدل في المشهد الثقافي الليبي بين هل هي رواية تحمل المواصفات العامة للرواية وبين انه مجرد عرض لمجموعة من الأحداث دون توظيف و لكنه الأصفر لا يلتفت كثيرا لذلك ومستمر في إنتاجه الروائي الزخم الذي هو بحد ذاته يمكن القول عنه ظاهرة.. يذكرني عدم التفات الأصفر لكل ما يقال مقطع للشاعر ولت ويتمان في أحد أشعاره:

إن أردت أن تفهمني،

فأذهب إلى الهضاب أو إلى ساحل البحر.

صدر لمحمد الأصفر: حجر رشيد _ المداسة _ شرمولة _ نواح الريق _ تقودني نجمة

ولديه قيد الطبع : سرة الكون _ يانا عليّ – المدينة الدايخة

* ما الذي تريد رواية محمد الأصفر اكتشافه.. أي جانب من الوجود البشري تحاول تسليط الضوء عليه.. وكيف يمكن أن يتم تسليط الضوء وسط كل هذه الفوضى التي يحدثها محمد الأصفر؟

– ومضاتك الشعرية يا أخت خلود قصيرة.. كلمات قليلة.. لكن سؤالك النقدي هذا طويل ومركب من عدة أسئلة.. ولكي لا تكون هناك فوضى سأجب بنظام :

ما الذي تريد رواية محمد الأصفر اكتشافه؟.. بإمكانك سؤال الرواية بتكرار قراءتها واكتشافها وقراءة ما يكتب عنها من قبل النقاد وما يطلقه القراء حولها من أراء.. أعتقد أن تحريك الذائقة وتحفيزها للاكتشاف هو مكسب واكتشاف بحد ذاته.. رواياتي لا تمر مرور الكرام دون أن يلتفت إليها أحد.. حتى الضباع أجعلها تلتـفت.. كل من يقرأ لي رواية يبحث عن أخواتها.. ومعنى ذلك أنني أكتشف الذائقات الجميلة العذبة المحبّة للكلمة الصادقة خفيفة الظل وفي نفس الوقت أكشف الذائقات المريضة فأقدّم لها الأمصال واللقاحات الإبداعية كي تشفى من أدران الأدب المتكلس النمطي المقولب السلفي المؤدلج المستسلم الخاضع باستكانة إلى مشارط النقد الصدئة والملوثة بالخراء.. رواياتي لا تذهب للنقد النقد هو الذي يأتي متمسحا ومتوسلا فهمها.

* أي جانب من الوجود البشري تحاول تسليط الضوء عليه؟

– أنا لا أحاول لكنني سلطت الضوء فعلا.. عدة قضايا تطرقت إليها رواياتي.. قضايا محلية ودولية.. تابعت اللحظة الراهنة بكل ما تحمل من مشاكل ومعاناة وتداعيات.. تكلمت على القمع بأنواعه الجسدي والسياسي والنفسي..الخ.. تكلمت عن الاستلاب.. عن الزيف والإدعاء والنفاق.. عرّيت حتى العُرِي نفسه.. روايتي بها عمق لا تصل إليه مدارك الآن المكبلة بسلطة الماضي المعرفية.. من يتحرر من إرثه الثقافي يمكنه أن يراني.. لكن لا أحد ستخلى عن هذه البطولة التي منحها له الزمن الميت.. الأحداث في الرواية والأسماء ومادة الرواية اللغوية أو التخيلية هي إشارات فقط وعلامات ترشد إلى دخول النص.. أما نصي فهو بسيط و عصي.. ومهما ينظّـر النقاد ويكتب الكتاب وتطرح الرؤى إن لم أوافقهم في ما ارتأوا فكلامهم سيكون هراء لأنني خالق النص ونافخ الحياة فيه.. وبالطبع لن أوافقهم أبدا.. فنصي للمستقبل.. والاستدعاءات التي أجلبها من الطفولة أو من الخيال الماضوي هي أحجار أقذفها في جنة لم تخلق بعد لكنها قادمة من هناك.. سجلت في كتاباتي بعض ذكرياتي في كل مكان دسته والتي ليست بالضرورة ذكرياتي لكنها ذكريات كل البشر فمحمد الأصفر يوجد منه في كل الشعوب.. وفي كل الأزمان والأذهان.. وفي المستقبل ستمس كلماتي كل الجوانب.. وسيعيش النص غير الملتزم بشيء.. كل القضايا الراهنة والقادمة تمسها كلماتي.. منها من تربت عليها ومنها من تصفعها ومنها من تحكها بظفر النار ومنها من توخزها وتـغد الفرار.

* وكيف يمكن أن يتم تسليط الضوء وسط كل هذه الفوضى التي يحدثها محمد الأصفر؟

– يمكن ذلك.. لا أعرف شيئا اسمه مستحيل.. الخيال هو فن الممكن وليس السياسة كما يزعمون.. الضوء الفوضوي هو البرق جالب المعرفة.. المعرفة تنبت الحياة وليس المطر.. الفوضى فن من الفنون.. ومدرسة من المدارس.. مراسم الفنانين الكبار مكتظة بالفوضى.. زري مرسم رضوان بوشويشة مثلا.. العقل نفسه مجموعة علاقات فوضوية.. أنا مع لا ترابط.. الفوضى هي الحرية.. الفوضى هي لا سجن.. لا تنميط.. لا أشياء مرئية.. هلام شفاف يسيح على خدود الأحلام.. في الرواية أقاتل على جميع الجبهات.. انتقل من سطر إلى سطر.. ومن فصل إلى آخر.. لست مرتبطا بأحد ولم يقرأ أي ناقد أو قارئ أو مخلوق فاتحتي حتى يلزمني بطبخ الإفطار في منتصف النص أو غسل صحون النهاية أو فرش مائدة البداية ورشها بالعطر.. الضوء الذي استخدمه في التسليط ليس ضوء لفت النظر أو نشر الفضيلة والحكم أو الترويج لشيء ما تحتاج له الحياة الراهنة.. الفوضى هي قمة التهندس.. ومنتهى الغواية والافتتان.. الفوضى هو أن يهرب خيالي بخيال القارئ إلى بعيد لم يطرقه.. خيال يتعامل مع خيال محدثين فوضى متبادلة تضحك على المستغربين.. أشتت خيال القارئ هنا وأقذف به هناك وأغرقه في الضحك ثم أبكيه.. ألعب بعواطفه كما يلعب الساسة بعواطف الشعوب المغلوبة على أمرها وحتى الغالبة أمرها.. يقرأ ويقول لم استفد شيئا.. لم أتعلم.. أي أنني أترك القارئ على سجيته.. على الفطرة.. كما وُلِد جنينا بالضبط.. لا يقرأني إلا بالصراخ والألم والعطش والحاجة إلى حلمة لبن تنز.. لا أشحنه بشيء.. يكفي ما به من شحنات كهربائية وعصبية وميتافيزيقية.. استلمه وأودعه دون أن أضيف على كاهله شيء.. سوى شيء واحد هو المتعة التي لا تستنفذ منه أي جهد.. أحلى الملذات هي التي تكتنفنا دون جهد.. الجهد تلوُّيث لنقاء الفطرة واستقطار عرق عنوة.

* نلاحظ تشابه رواية محمد الأصفر من حيث المبنى والمعنى وتشابه شخصيات رواية محمد الأصفر من حيث قوة وهشاشة بناءها، وهناك تشابه في تقنيات كتابة الرواية يتضح في كل رواياتك.. ألا ترى أنك لا تكتب بل تتكلم وتعيد قول ما سبق وإن قلته؟

– ليس هناك تشابه بين رواية وأخرى.. الأسلوب بدأ يتكرّس ويُسجِّد الذائقات المتعالية ذات الأحكام المسبقة.. أي من يقرأ لي وسبق أن قرأني سيعرفني دون حتى أن أضع اسمي.. أي صار لي لون خاص بي ونكهة شرمولية أعرف بها.. المداسة مختلفة عن تقودني نجمة.. شرمولة مختلفة عن نواح الريق.. سرة الكون مختلفة عن يا نا عليْ.. أحيانا يتكرر المكان في عدة روايات.. وتكرار الفضاء المكاني لا يعني التشابه.. أحيانا يتكرر الكلام نفسه.. نفس الرمل والإسمنت والماء.. فصل من المداسة أجلبه وأضعه في سرة الكون.. هو نفس الكلام.. البعض يعتبره تكرارا وأنا أراه ليس تكرارا.. ولنأخذ مثلا.. كلمة ” السلام عليكم ” عندما تدخل إلى مجلس تقولها فتعنى مرحبا أو أهلا وسهلا وعندما تغادر المجلس تقولها فتعني إلى اللقاء أو وداعا.. وعندما تفاجئ شخص تطلب منه مالا وتقولها له تعني أين المال أيها المماطل؟.. هي نفس الكلمة لكن بانتقالها من مكان إلى مكان ومن ظرف إلى ظرف ومن زمن إلى زمن تتغير معانيها.. أي هناك معان مجازية في الأدب يجب مراعاتها حين القراءة.. في نفس الوقت الرواية مثل بيتي أو قلبي أو حياتي.. موهبة كتابتها لم يمنحها لي أحد وأفعل بداخلها ما أريد.. هي انتخبتني ملاكا عليها إلى الأبد.. الكاتب الذي يفرط في الحرية ولو بعضها يفترسه الظلام وأنا أصفر أقرب لون إلى الشمس.

بالنسبة للشطر الأخير فعلا أنا أتكلم.. والكلام الذي أتكلمه أنفذه أي أكتبه.. والرواية أصلها كلام.. حكي دوّن من أجل إعادة قراءته.. هناك من يتكلم كثيرا ولا يكتب شيئا.. أنا لا أتكلم كثيرا.. وفي المقاهي لا أجلس مع أحد.. أجلس لوحدي.. وإن كانت معي قصيدة أكلمها بالعيون فقط.. والحقيقة أنني أحرص كل الحرص على أن أجعل نصوصي قابلة للقراءة بصوت مسموع.. لأن العالم يحب الصخب.. أحاول الاقتراب من أجواء الحكواتي ومن أجواء الشعراء.. بعض الفصول في رواياتي هي قصائد نثر.. جملها ذات إيقاع و قابلة للوزن والزرع والرقص.. ويمكن أن تغنـّى أيضا.. سأتكلم أكثر وأكثر ولو قدرت أزغرد ولا أكتب فسأفعل.

* هل تريد رواية الأصفر أن تعالج مشكلة ما، اجتماعية، اقتصادية، سياسية،.. وهل هذه مهمة الأدب، أم أنه يسعى لعلاج مشكلة مبادئ وأخلاق من خلال فضح ممارسات لا أخلاقية؟

– هذا سؤال فلسفي يحتاج إلى هيغل أو أرسطو أو افلاطون.. لكن لا بأس سأجب عنه.. الروائي من وجهة نظري هو طارح سؤال بوسيلة إبداعية تظهره وكأنه إجابة.. رواياتي لا تعالج المشاكل بل تجلب المشاكل.. أحيانا المشكلة تعالج المشكلة.. مثلما الحديد يفل الحديد.. والنار تكوي النار.. والجرح يشفي الجرح.. والحب الجديد يشفي الحب القديم.. السؤال الآخر وهل هذه مهمة الأدب، أم أنه يسعى لعلاج مشكلة مبادئ وأخلاق من خلال فضح ممارسات لا أخلاقية؟ أقول لك أنني أبحث عن دين ليس به إيمان.. الإيمان هو الذي جلب الدمار للعالم.. كل الحروب التي كوت البشرية قامت نتيجة الإيمان.. أجعل أعمالي دائما متخلخلة غير مترابطة متهاششة لهدم أي أفكار قد يبنيها عقل القارئ أو عقلي.. أنا لا أومن بشيء اسمه مبادئ أو أخلاق أو قيم أو حكم أو أمثال.. من خلال التجربة وجدت كل هذه الأشياء نفاق في نفاق.. والبشرية تستخدمها من أجل تمرير أيدلوجيات ومآرب أنانية لتسويغ النهب والسرقة والاستبداد بكافة أنواعه.. في نظري أن الإنسان وما يساوي ماديا ومعنويا.. من خلال قيمتك ماديا أو معنويا يعاملك هؤلاء البشر.. أحرص على أن أكون سعيدا راضيا كريما متصالحا مع نفسي.. البقية لا تعنيني في شيء.. على كل إنسان أن يتدبر أمره.. الرواية لن تنقذه.. تنعش مداركه ربما.. لكن لن تحل له أي مشكلة.. دائما المعضلة في النفس.. في الداخل.. من الداخل بإمكانك أن تكون سعيدا أو شقيا.. وعندما تكون النفوس أغلبها سعيدة فحتما سيضيء العالم.

* هل يعتبر الأصفر أن روايته تعرّف بالإنسان الليبي وخاصة المثقف الليبي، وتوضح كم يعاني من السطحية وانعدام التوازن المعرفي، وهل تقول رواياتك ما يجب معرفته عن هذا المثقف؟

– أنا في خصام مع المثقف الليبي لأنني عندما بدأت الكتابة أواخر عام 1999م هاجمني بعضهم على أوراق الجرائد.. ولأنهم يتحكمون في وسائل النشر وكأنها ملكهم الخاص وليست ملك المجتمع.. فينشرون لمن أرادوا ويهمشون من أرادوا.. ويدفعون لمن أرادوا.. الخ من الأفعال الأنانية الانتهازية.. بل بعض رؤساء التحرير يستخدم المطبوعة للدعاية له ولكتبه ولشعره ولشلته.. والحقيقة من وجهة نظري أن المثقفين الليبيين قليلون جدا.. والمحسوبون الآن على الثقافة وتعج بهم الساحة حتى من الأسماء المشهورة هم في الواقع مدّعين ولا علاقة لهم بالأدب.. أضف إلى مرض إدمان التملق الذي لو غاب عنهم دقيقة لانتحروا.. المثقف الليبي أوظفه في نصوصي الروائية توظيفا إنسانيا إي أطرح عبره مشكلة إنسانية تخص كل العالم.. وبالمناسبة أغلب المثقفين الليبيين المكرسين و المعروفين لا يعانون من السطحية.. السطحية هي التي تعاني منهم.. الكل مستفيد بصورة أو بأخرى.. الأموال تجري في أيديهم والنشر متاح لهم في كافة المطبوعات.. والسفر دائما أكثر من مرة في العام.. والمجلات والجرائد والإذاعات محتلينها يقتاتون منها مع شللهم على هواهم.. الافتتاحية محجوزة الورقة الأخيرة محجوزة.. المنتصف محجوز.. باب القراء محجوز.. صفحة الرياضة محجوزة.. صفحة الأبراج وطب العرب محجوزة.. صفحة الوفيات محجوزة.. بل بعض المطبوعات تكاد أن تخصخص عائليا.. كتبهم تطبع على حساب مؤسسات الدولة.. حتى الدار الجماهيرية للنشر وهى تلفظ أنفاسها صوب الإفلاس أصدرت كتبا لشخصيات نافذة أدبيا وإعلاميا.. أين هو التسطيح؟.. هؤلاء قوم تأكل وتعوّي.. تأكل الغلة وتلعن الملّة.. لا يعرفون قول الحمد لله البتة.. وأي مسطح أعطيني اسمه لأعرف أولا هل هو مبدع أم دعيْ ثم نطلب له من عيادة التسطيح تعميق جبهته ببقعة اهتمام.

روايتي فعلا تعرّف بالإنسان الليبي وتظهره للعالم واضحا بكافة جوانبه الحسنة والسيئة.. التقط شخصيات عدة من الأحياء الشعبية.. من المدن.. من التاريخ الليبي.. أدوّن أغاني ليبية ورقصات ومباريات رياضية وشيطنات ليبية.. أتنقل بعدستي بين المدن والقرى والواحات والصحاري نابشا الجمال الليبي حيثما وجد.. لا فرق عندي بين غرب أو شرق أو جنوب.. لا أنفض يدي من شيء.. أغوص في ليبيتي حتى النخاع.. أستخدم اللهجة الليبية لأفرضها على العالم فهي أقرب اللهجات العربية للفصحى.. أحب هذا الإنسان الليبي البسيط الحقير وأكتب له من أعماقي.. في الحافلة أعرض على أناس عاديين مقاطع من أعمالي لأرى رد فعلهم وأقيس درجة القبول.. استفيد كثيرا من الوسط غير الأدبي لأنه أقرب للحياة من الخيالات المنافقة.

وهل تقول رواياتك ما يجب معرفته عن هذا المثقف؟ سبق أن قلت إنني لا أعتقد بوجود مثقف ليبي حقيقي.. مازال الدرب طويل وشائك.. أعترف باثنين ” إبراهيم الكوني وصادق النيهوم “.. البقية عاديون.. والبنزين العادي يفسد طائرتي ويجعلها تهبط اضطراريا

* ماذا لو قلنا أننا نجد كل شيء في رواية محمد الأصفر ما عدا الرواية أنها في مكان آخر أي في فضاء الأصفر المتخيّل أمّا المكتوب فهو بعيد عن تقنيات الرواية وأقل نظرة إلى العمليات السردية وبرمجتها والزمن وتقطيعه توضح ذلك؟

– قلي كما تريدين.. منذ قليل في أسئلتك السابقة تصفين كتاباتي من خلال صوغك للأسئلة بالرواية.. الآن تقولين الرواية في مكان آخر.. أنتِ التي في مكان آخر.. بالنسبة لي التجنيس لا يعنيني.. يعنيني ما بين دفتي الكتاب.. لم أضع كلمة رواية.. أكتب النص ثم أكتب تحته محمد الأصفر.. دار النشر تقرأ وتضع كلمة رواية.. بعض النقاد يصف أعمالي بالروائية.. بعضهم يصفها بأنها سرد مفتوح.. التسمية لا تهم.. لا يوجد خلل في الزمن أنا متأكد من ذلك حبري أضبطه دائما قبل البدء.. عملياتي السردية سائرة على ما يرام والدليل أنها تشد القارئ.. النص الأدبي كالجنين الحي يولد صارخا دون اسم.. نصوصي جميعها حيّة صارخة وهذا هو المهم.. لا أريد أن أتفلسف وأقنعك بأنني أكتب رواية.. سأترككم تعومون.. تتكئون على طنافس الماضي وتشخرون.. هكذا أفضل لي ولكتاباتي.. سعيد بأن البعض لا يعتبرني روائيا.. والبعض لا يعتبرني كاتبا أو مثقفا بالأساس.. سعيد بأنني شوكة ماس في حلق الأغلبية.. سعيد بأن رواياتي مقروءة وتصوّر على الفولسكاب وتنتقل من يد إلى يد ومن قلب إلى قلب.. سعيد بأنني أستطيع الكتابة أو الكلام حسب وجهة نظرك في أي وقت.. العمليات السردية والبرمجة النقدية والتقنية البيانية وتقطيع الزمن وهرسه وتبشميطه و تغليفه بالسولفان ورشرشته على شوارب ونظارات وصلعات وغفف النقاد بقدر لا تعنيني.. والنقد والمجتمع والقول والمبادئ والفن للحياة أو للفن والتنظيرات وكافة الكلام بـأشكاله وألوانه ومرضه لا تعنيني بشيء.. أنا كاتب حر.. كاتب شرمولي.. منسحق من هذا الوجود الذي أعياني فهمه.. قرأت كثيرا من الكتب.. منذ الصف الثاني الابتدائي لم انقطع عن القراءة.. سافرت إلى كثير من البلدان.. عاشرت كثيرا من المخلوقات.. مارست عدة حرف ووظائف.. انخرطت في المسرح والمعسكرات الشبابية.. مارست الرياضة في الشوارع والنوادي.. عشت الحياة بكافة أشكالها.. عشت ونسيت وعندما انفجر النسيان أواخر عام 1999 م تكلمت.

في فضائي المتخيل لا اعتبر ما كتبته روايات اعتبره شرمولة سوداء.. اعتبره حياوات تتأرجح على هدير الزمن لا تنشد سوى البهجة واللعب والتهكم على كل شيء مرئي أو خفي في هذا الوجود.

وللعلم يا خلود هناك روايات غير مكتوبة على الورق.. اليوم منذ الصباح وحتى المساء رواية.. شروق الشمس.. الضحى.. ازدحام الظهيرة.. سقوط الأمطار في العشية.. آذان المغرب.. غروب الشمس.. الجغرافي.. التاريخ.. الانثربولوجيا.. هذا اللقاء أيضا رواية ففيه كل مقومات الرواية الفنية والتي تتكون من زمن ومكان عدة شخصيات متصارعة لكنها غير مرئية لكل من هب ودب وما أكثر الهبيب والدبيب حولي.

* من وجهة نظرك هل يكفي أن تقرأ ألف رواية لتكتب رواية، أم يمكن لمن لم يقرأ رواية مطلقا أن يكتب رواية، كيف ترى روايتك على طرفي هذه المعادلة أو المفارقة؟

– أولا هناك فرق بين المعادلة والمفارقة.. بالنسبة لي أقرأ يوميا.. أغلب الروايات المنشورة العربية والمترجمة قرأتها ويوميا أقرأ الجديد مستعينا بشبكة الانترنيت.. هناك اختلاف في طريقة القراءة.. هناك من يقرأ كتاب من ألف صفحة في يوم.. كل ساعة أقرأ ثلاثين صفحة فقط.. أي كتاب لا أفهمه أو لا أرغبه لا أقرأه.. لا أقرأ لمجرد الإطلاع لكن من أجل الهضم.. كتابة النص الإبداعي لا تحكمها كثرة أو قلة أو انعدام القراءات.. هناك الموهبة هي الأساس.. القراءة تصقل الموهبة وقد تخدشها إن قدمت لها التفاهات.. اختيار الكتب التي تقرأها فن وذكاء وإبداع.. القراءة لدي حالة مثل الكتابة.. لا أتعامل معها كفرض أو واجب أو عمل عليّ القيام به.. أتعامل معها مثل القهوة والسجائر والحب والماء متى شعرت برغبة تناولت الكتاب.. النقد لا أقرأه لأنني أرفض أن أتعلم.. الإبداع القادم من المعرفة هو حياة مزيفة.. إبداع الفطرة هو الأنقى والأطهر.. أقرأ لكتاب كبار معروفين بكثرة الإطلاع وممارسة النقد والتنظير مثل امبرتو ايكو وميلان كونديرا وبورخيس.. أقرأ نصا لهؤلاء لأحس بـآخر ما وصلت إليه العلوم النقدية.. أحس فقط لكن لا أتبع إلا إحساس نفسي.. كثرة القراءة ليست هي المهمة لكن كما قلت المهم هو نوع القراءة والاستفادة من هذه القراءة إبداعيا.. وكذلك بالأساس الموهبة الحقيقية.. هناك من في رأسه أسفار مكتبة بابل والإسكندرية ولديه عدّة لغات يرطن بها لكن لا يستطيع كتابة خمسة سطور جيدة.. قراءة الروايات أو غيرها ليست شرطا من أجل كتابة رواية.. أكثر جداتنا راويات على مستوى عال جدا.. وهن أميّات.. رواة طنجة المرابط والعياشي تقريبا الذين يروون لبول بولز أميّون.. القراءة ليست هي قراءة الكتب.. الكتب جزء من عالم القراءة الشسيع.. الإنسان يولد قارئا.. البصر قراءة.. السمع قراءة.. اللمس قراءة.. الجنس قراءة.. الغناء قراءة.. كرة القدم قراءة.. تأمل الأطفال الرضع قراءة.. الأحلام قراءة.. ممارسة الحياة وخوض غمارها قراءة.. الخيال وتوقده قراءة.. القبض على الإلهام وذبحه شعرا أو نثرا أو تشكيلا الخ قراءة.. بالنسبة لروايتي بها من النوعين.. بها الوعي والثفافة والعلم والمتانة.. وبها الهشاشة والجهل والتخلف.. بها القمامة والصابون.. روايتي مثل الحياة تسع الكل ولا تـُـنـفِّـر من رجائها أحدا.. أنا لست مع النص المحكم الخالي من الأخطاء والمتين والمراعي لكافة قواعد و نظريات الإبداع.. أنا مع التنوع.. مع النص المجتهد المنتهج التجريب والتمرد.. الحياة دائما تتغير وإن لم يواكبها الأدب في التغير فسوف تتجاوزه.. والأدب الذي تتجاوزه الحياة هو أدب مريض عليه أن يزيد من سرعته ليواكب وتيرة الحياة ويتطابق معها ولا يتجاوزها كي لا تمرض هي بالمقابل.. أحيانا الركاكة والتقريرية تمنح العمل قوة.. وفي الإبداع كل شيء نسبي.. والذائقة تتغير من زمن إلى زمن.. الأفضل أن يبتعد الكاتب عن كل سلطة ويكتب بحرية كما يملي عليه إلهامه منحازا إلى الصدق والتلقائية والبساطة وعدم التعقيد.. كل الكتب خفيفة الظل مثل ألف ليلة وليلة والدون كيخوته عاشت.. و كل الكتب التي اتبعت مسارا معروفا ولم تغامر في دروب البهجة ماتت و تمّ تجاوزها.. فالمعرفة هي أكبر الأموات والحكمة الباكية ليست أبدا أفضل من الحكمة التي تبتسم.

* هل يكفي أن تقول أني أكتب فقط ولكم أن تنظروا إلى ما أكتب أولا، هل حريتنا كافية كمبرر لكي تكتب، وهل حقا أنت غير مهتم بقارئ أنت تدفع ثمن طبع رواياتك كي تصل إليه.؟

– أولا من أنتم؟ إن تقصدين النقاد فأنا لا أهتم بهم وكلما خالفتهم شعرت بالسعادة وأحبّوني أكثر.. فالناقد الجيد يحترم من يتمرد عليه.. وعندما أتمرد على النقاد أحفزهم لتطوير مستواهم وترقيع شباكهم المثقوبة من جحيم الإبداع لا المتوقع.. وإن كنت تقصدين القراء فنعم.. أكتب وعليهم أن يقبلوا أو يرفضوا أعمالي.. نجاحي دائما داخل نفسي لا يمنحه لي أحد ولا أترك حكم نجاحي أو فشلي للغير يقرره لي.. وسؤالك وهل حقا أنت غير مهتم بقارئ أنت تدفع ثمن طبع رواياتك كي تصل إليه؟ نعم أنا غير مهتم بأي قارئ والدليل أنني لا أمنح أي رواية مجانا.. لا أعرف شيء اسمه إهداء.. لابد من دفع خمسة دنانير.. مثلما يشترون في السجائر والخمر والحشيش والسندوتشات وبطاقات الهاتف الجوّال عليهم أن يدفعوا ثمن غذائهم الروحي.. أطبع الكتب على نفقتي الخاصة لأنني لا أحب تحوير ما أكتب أو تعديل عجلتي على سكك القطارات.. والكتاب الذي لا يجلب لي مكسبا ويعيد لي رأس مالي لا أطبعه.. أفرطه مقالات قصيرة للمجلات والجرائد الراغبة في الدفع.. تستطيعين القول أنني كاتب محترف.. لكن محترف مثل جورج بست وماردونا ورونالدينهو وأحمد البهجة وليس كما سيدوروف و زيدان أو غيرهما من التكتيكيين الملتزمين بتطبيق خطط اللعب.. رواياتي كلها طبعتها على حسابي لأنني غير معروف ولابد من التضحية ودور النشر هي مؤسسات تجارية أو حكومية لها معايير وحسابات تحسبها مع أي كتاب يأتيها.. هناك الكثير من كتب قراطيس الزريعة تطبعها ديار النشر المشهورة وديار النشر التابعة لمؤسسات الدول العربية والأجنبية.. أنا سعيد بذلك لطباعتي كتبي على نفقتي الخاصة وبحرمان أسرتي حتى من سرير تنام عليه.. لا أحد يملك حقوق طبع أي من كتبي.. وكتبي التي تصلني أبيعها بسعادة.. لأول مرة أشعر أنني آكل من عمل يدي.. الآن بدأت بعض دور النشر ترغب في طباعة رواياتي وأعرف أنه ليس محبة في وجه محمد الأصفر لكن لأنها مطلوبة وتباع وتجلب لهم المكاسب.. شرمولة بسبع دينار.. نواح الريق بعشرة.. وبالإهداء بخمسة عشر.. وفي المغرب لي قراء كثيرين أعجبتهم المداسة وأعجبتهم رواية شرمولة كثيرا وقلت لهم محمد شكري قدم لكم الخبز الحافي ومحمد الأصفر قدم لكم شرمولة فغمِّسوا بالهناء والشفاء.

جميل جدا أن أصل إلى القارئ بواسطة إبداعي وليس بوسائط أخرى.. الأديب نبيل سليمان وجد رواية نواح الريق يتبادلها الأصدقاء في مقاهي تونس فقرأها في القطار خلال ست ساعات متواصلة وكتب عنها كلاما جميلا.. د حادة قادر قرأت فصل من روايتي الجديدة المدينة الدايخة على شبكة النت فراسلتني وطلبت أعمالي وستترجم رواية المداسة إلى الفرنسية.. ليس لدي كتب تباع على الرصيف.. قرائي يحفظون كتبي في القلب.. ويمسحونها من الغبار ثم يبتسمون.. وفي النهاية أعتبر هذا اللقاء لو عالجته بسطرين أو ثلاثة رواية قصيرة تستعرض فيه شخصية نرجسية عدوانية فيلسوفة شاعرة موجودة في كل المجتمعات كل أوهامها وأمراضها وسعادتها وتعاستها وتصوّر ما تعانيه من ألم ومن لذة.. الأسئلة تكيل الاتهامات والأجوبة ترد بعنف وتضرب فوق الحزام.. والنار تأكل وقت من قرأ هذا اللقاء وتجعله يعيد القراءة ثم يحتفظ بالمطبوعة ليراجعها ويعود إليها ويسعى للحصول على الروايات ولو من على شاشة الشبكة العنكبوتية.. سيصرخ كل من قرأ هذا اللقاء أريد شرمولة الأصفر ونواح ريقه ونجمته التي تقوده ومداسته لقد شوقتني كلماته في هذا الحوار لقراءته وأقول له أنا لكم جميعا شرمولة حارة لكنها طازجة على الدوام ونظيفة وبخضراوات غسلتها أشعة الشمس مرارا.. أعتقد أنني روجت لكتاباتي جيدا في هذا الحوار.

أنت بارع في ذلك….

مقالات ذات علاقة

التشكيلية منيرة اشتيوي:العملية الإبداعية وسيلة الفنان للهروب من المواجهة

مهند سليمان

الغزالي: لهذه الأسباب الليبيون خارج سباق جوائز الأدب العالميّة

المشرف العام

عاشور الطويبى شعرية الصمت والسكون !

أحمد الفيتوري

اترك تعليق