طيوب عربية

الرحيل شرقاً

رواية الرحيل شرقاً


أن تكتب نقداً، هو ان تعيد كتابة النص المنقود بطريقة مغايرة و بلغة أخرى مختلفة، فيها من الجدية والصرامة و التحديد ما أمكن، وعندما تشدكَ القراءةُ تستهويك الكتابةُ،  فن كتابة الرواية عمل يحتاج الى كاتب يكون قد بلغ الأربعين أو تجاوزها، على حد قول (عبدالرحمن منيف)، لأن الرواية عمل عقلي و رشيد بالدرجة الأولى، مبيت و مخطط له، وما عدا ذلك يعد مكملات ثانوية لاستيفاء مواصفات هذا الجنس الأدبي المرموق، كالشاعرية والفنتازيا أو التسحير… الخ، و تختلف كثيراً عن كتابة الشعر في هذا المنحى، فالشاعر قد يكون في عمر أقل بكثير، والقصيدة لا تعتمد في جوهرها على العقل، بل تعتمد على إعمال العاطفة و تفعيل المتخيل المستحيل وهي عفوية تلقائية تحط من غيابها بالذاكرة وتصيغها الذائقة بما أوتيت من جمال في مصفوفة. لنأتي الى روايتنا التي بين ايدينا ونحن بصددها الآن (الرحيل شرقاً) للروائي التونسي/ احمد السالمي، والتي على ما يبدو انها اول رواية له، وقد صدرت في العام 2009م  ببداية موفقة لروائي نخشى علية من النكوص بعد تفاؤل هائل بموهبته، و لا تكون محاولته هذه مجرد مغامرة عابرة كتبت تحث ظروف خاصة طارئة، والنضج الفني هو ما يهم في العملية الابداعية و ليست غزارة الانتاج، فكتبَ (احمد السالمي) رواية بصوت واعد و من صنف مميز و حول  موضوع يواكب المجريات والأحداث التي تشغل الآن العالم برمته، و يطول مناطق حساسة منه ويسمها بالتوتر اللامحدود، الا وهو الهجرة غير الشرعية وتداعياتها على الجميع المهاجر(الهارب) و المَهْجَر (المكان)، سواء بين ضفتي المتوسط، أو الحدود بين الولايات المتحدة الامريكية و المكسيك بدافع البحث عن الجنان الموعودة التي تلوح بها حضارة الغرب و يحلم بها الحالمون الفقراء من بني البشر، وسط تدني مستوى المعيشة و تفشي العوز و الفاقة بشكل ملفت، او في هجرات اقليمية اخرى بسبب الحروب الطارئة، فالمغامرة – التي من هذا النوع – هي بنت الحلم من جهة وأم الموت من ناحية أخرى، وليس الموتُ سليلَ كل حلم، وكأن الطيور المهاجرة القادمة من أوربا كل سنة والتي يستقبلها (نادي الساف) تبادل أهل الجنوب الهجرة وتحرّض عليها، بدأت احداثها بذلك الوعد الذي اسرَّ به العميل الاسرائيلي (باسكوال) وهو برفقة صديقه سالم في (الهوارية) الى الشاب التونسي (ماهر) بطل هذا العمل، لماذا لا تنْظمّ معنا ؟ أموال كثيرة تنتظرك، كثيرة جداً.. هذا السؤال الذي بقي عالقاً بذاكرة ( ماهر) وغير واضح المغزى في البداية، وهذا النوع من الأسئلة التي تحمل أنصاف اجاباتها عادة ما يبدأ بها هذا الصنف من العملاء عروضهم على ضحاياهم بغرض جس التفكير والقابلية، (باسكوال) الذي سعى في البداية لإخراجه من تونس أولاً، ثم الانفراد به في ايطاليا ليوضح له المطالب و المهام بتوسع أكثر. ابتدأتْ رحلة الهجرة بالخروج من سواحل الشمال التونسي الى ايطاليا، كوسفو، قبرص، الدول العربية، دخول اسرائيل. جاء على لسان البطل / ماهر المغربي، عند عودته بعد غياب الى وطنه الأم تونس ونزوله بميناء (قابس) وكانت في انتظاره امه وبنت اخيه التي تتبع جدتها دون تفكير :- كانت أمي ملتصقة بباب الممر، بدت لي قصيرة، نحيلة، ما هذا؟ انها بقايا انسان، نسيتُ انني انا أيضا بقايا انسان عاد بأسوأ من(مثلما طار وقع) وهذه الحقيقة التي قالتها الرواية لنا بوضوح. تمكنت المخابرات الاسرائيلية من اختراق الجدران الامنية الواقية لكثير من الدول العربية وغير العربية التي تحولت الى مصائد للطامعين، و أعاثوا فيها فسادا بنشاطات محمومة ومدروسة بدقة كإجراء احترازي للدفاع عن هذا الكيان الذي تهدده الأخطار، وقد حدث ذلك بصفة مباشرة بسبب الفقر والعوز وحاجة بعض الشباب العربي و غير العربي الى اشباع حاجاتهم المادية (الضرورية)، فأصبحوا بهذا لقمة سائغة لهذه الاجهزة الاستخباراتية المتمكنة والمتربصة بهم، وجندتهم ليكونوا في خدمتها، ولكن حتى وان اخترقت الحدود الجغرافية يجب الا تخترق عقل وضمير هذا المواطن المعروف عنه من اجداده الصلابة و الصرامة و الثبات على القيم النبيلة التي لا تقبل المساومة!.

      رواية قصيرة، ناقدة للأوضاع وغير متساهلة (متمردة) تفضح الواقع المرير للمواطن العربي و تنبه الى ضرورة الالتفات بموضوعية الى مختلف أوضاعه المختلة و معالجتها دون إبطاء، حتى نتمكن من الحفاظ عليه من التلاعب بعواطفه، ونحميه من المساومات الرخيصة التي تستهدفه، تميزت بأسلوبها الممتع والشيّق و برشاقة لغتها وخفتها، وجملها القصيرة المتفردة وغير المبتذلة، واستندت على الاستعمال البكر للمفردة في العديد من مواضعها و فقراتها، انها من ذلك اللون الوصفي الهادئ الذي لا يعتمد على الادهاش المفتعل، تنوعت مشاهدها واختلفت أمكنتها، و على امتدادها حافظت ايضاً على تماسك بنيانها وترابط خيط احداثها بشكل محكم يمنحها سلاسة و تميزاً ملفتاً/ عند الولوج الى هذا النص يقابلك من عتباته الاولى الصراع المحموم والمبهم في لعبة التجسس والاستخبار، كالذي يقع في العراق حتى الآن من تطاحن واقتتال بمشاهده الدامية التي طالت تفجيراتها حياة النساء والاطفال والشيوخ، وتهريب الاسلحة لإمداد الحرب بعتادها الذي يساهم في استمرارها واستعار أوارها أكثر فأكثر.  

– حمولتنا الليلة تكفي لقصف مدينة كاملة.                                                                – أشعر في قرارة نفسي أن الإنسانية واحدة.                                                                  – هذه فلسفتك تعود اليك.                                                                                              – لا ادري، ما هو اسمها، لكنها ليست بعيدة كثيراً عن الحقيقة.                                                        – حقيقتك أنت!.                                                                                                       – بل حقيقتنا جميعاً.                                                                                                                                   

و قد لاقت الشخصية المحورية في بداية الرحلة  رعباً مركباً و واجه مخاوف جمة عندما استقل القارب مع رفاقه، الذين يفوق عددهم حمولة القارب بكثير مما هدد بغرقه في عرض البحر، و لو لم يكن من ذلك النوع من الرجال الذين لا يترددون في الدفاع عن انفسهم بشراسة و عنف اذا ما أحسوا بالخطر، لكان وليمة لأسماك البحر قبل ان يصل، أو انتهكت حرمة و طهارة جسده من قبل الريس / حمدان قائد القارب اللعين الذي كشف عن رغائبه الخاصة. ومن بعدها عاش بطل الرواية في العراق، منتحلا لشخصية مواطن مغربي قد بترت رجله في احدى التفجيرات العشوائية الانتقامية العمياء/ و عَبَرَ هذه المحطات المتعددة حتى وصل هذا المهاجر(الحارق) من المغرب العربي الى المشرق العربي في حنين أمومي جارف الى بغداد، وكانت تنقلاته المشبوهة في العراق واحتجازه وانتحاله لشخصية مغربي لقرب التشابه في الشخصية بين المغربي والتونسي والجزائري من حيث الملامح و اللهجة، و بعد اجراء تغيير طفيف في مظهر شخصيته، ويحاول الانسان في هذا العالم الظالم انتزاع لقمة عيشه بشتى الطرق والوسائل، التي لا تكفلها له الدساتير ولا القوانين الا بتلميحات غير مؤكدة بغرض تمويهه وذر الرماد في العيون/ فهذه الرحلة بين الميلاد والموت يعيشها الانسان في شقاء اذا كان غنياً حيث يظل يلهث وراءها دون توقف، يحدوه الطمع والجشع، أو يعيشها في بؤس وعوز اذا كان فقيراً محتاجاً. لقد ادرك بطل قصتنا في كثير من الندم على الارتماء غير المحسوب في الخيانة ان الله هو الملاذ الأخير! كيف اخون وطني؟ كيف ازوّر تاريخي؟ كيف انبئ عن امكنة المقاومين؟ كيف انساق وراء الدولارات التي لا تسمن ولا تغني من جوع؟ الذكي من يستفيد من أخطائه و أخطاء غيره، بينما الغبي لا يستفيد حتى من أخطائه.. رغم ان الرواية لم تعرض و توضح لنا كيف تمت تصرفات واجراءات الجوسسة عملياً، ولكن اكتفت بالتنويه اليها وتأكيد وقوعها فقط في الخفاء. ساءت الأحوال كثيراً في العراق وبصورة غير متوقعة الحدوث لإرغامه على القبول بالأسوأ، وتداخلت جهات داخلية كثيرة متعارضة في صناعة هذا الوضع الدموي المتردي، وتدخلت أطراف خارجية متناقضة المصالح أحياناً ومتفقة المصالح حيناً في شأن هذا البلد الجريح وبالأخص الولايات المتحدة التي لها أطماع (برجماتية) وأهداف احتكارية وايران التي تريد الهيمنة و التوسع بلا توقف على حساب العراق والدول العربية الأخرى.                                                                  

وكي نستفيد من المعمار في البناء المعنوي للنص و البناء الشكلي الذي يعتمد على فسيفساء الملء لتكوين كيانه المتجانس (وحدة الموضوع) أو (الرابط الخفي) الذي يمسك الأجزاء بعضها لبعض، يجب فتح مغاليق النص وما ينطوي عليه من ادراجات و ايماءات لتجيبك بسؤال مبتور وبلا قاع حيث الهوة بين المغرب والمشرق تتسع بلا توقف، ان يكون المرء عربياً في هذا الزمان، يعني انه قبل بكل الإهانات، لقد وجد نفسه – ربما الضائعة – في الشرق وفي بغداد المنصور تحديداً، انها المكان الذي سيطر على احساس وتفكير البطل، وحن اليه قبل ان تطأه قدماه وان كان يعرفه حق المعرفة لأنه جزء من تكوينه كما يبدو للقارىء، وجاء على لسانه:-  بغداد هي الأصل والغاية. هنا احس انني اعود الى أمي! الواقع ان بغداد هي ام العرب أجمعين. وقد تساءل ذات موقف هل تونس – بلد البطل – غرب في الشرق أم شرق في الغرب ؟ / الخفة الرشاقة رشاقة القلم الايماءة السريعة و التلميحة المليحة نجدها بوفرة بين مفاصل الرواية/ لقلمه السلس سطوة آسرة، يبهر بها قارئه ويقتاده بمتعة أخّادة بما يحشده من صور ورؤىً / يؤطر بها زمن الرواية التي تتسارع أحداثها في اتجاه واحد وعلى استقامته، تخلو من المناورة النصية التكرارية التذكيرية، أو الإضاءات على الماضي و الاعادات التأكيدية التي نلمسها في الكثير من الأعمال الروائية الجيدة، وتسير الى غاياتها بصواب/ لقد تبادلت استقباله أمّان، أمُ المعنى والمثال في المشرق العربي حيث قلب العالم الروحي منذ بداية وعي الانسان بالحياة، وأمُ الرحم في قرية (الهوارية) و اسم هذه البلدة لا يخلو من دلالة عميقة و عريقة لأهل المنطقة، مثلما يشير في مفهوم آخر الى تقاذفه مثل كرة تنس الطاولة / شوقه لم ينتهي الى بغداد وحنينه لم يتوقف الى تونس / لقد مر في ترحاله هذا بأمكنة كثيرة و مرت عليه في هذه الأمكنة نساء عديدات/ وقد كلف بالعديد من المهمات في بغداد و خاصة انضمامه الى عصابات تهريب السلاح المنظمة/ لقد خرج من بلاده انسانا كاملاً معافى ليعود اليها (نصف انسان) بقدم واحدة حيث بثرت الأخرى في انفجار احد الكمائن اللعينة التي وضعها احد الارهابيين، فالحرب انتقلت الى داخل بلداننا ونحن لا ندري بعد، والتي تطورت كثيرا حتى اتخذت اشكالا غامضة وغير ظاهرة مثل التنظيمات المسلحة الإرهابية التي اخترقت البلدان في العقود الماضية، مثل تنظيم القاعدة و داعش، فمن اسلوب تجسس بهم عليهم، طورت القوى المتحكمة في العالم أدواتها الى اسلوب قاتلهم برجالهم دون ان تخسر هذه القوى شيئاً (التكلفة الصفرية)، حدثت هذه النقلة بذكاء ودهاء لا طائل لإدراكه منا ربما حتى الآن!. انها رواية رشيقة متخففة من اعباء الركاكة وتقليدية السرد المملة، معتمدة على البداهة و السليقة السليمة و متحررة من الابتدال والحشو، محتلة مكانة تليق بتصنيفها الادبي (جنسها). / لا نتمنى ان يكون سبب كتابتها عبارة عن مغامرة محضة، بل بدافع موهبة أصيلة و متأصلة في الكاتب ومتواصلة معه و ملحاحة عليه ايضاً، لا تنتهي بانتهاء العمل الاول و لا تتوقف عند تعثره اذا ما حصل، كما حدث لكثير من أدباء كتابة الرواية/ وقد انبنت الرواية في جزئية كبيرة منها على فكرة تجنيد أبناء البلاد أو القوم كعملاء و جواسيس لضمان نجاح المهام التي ستوكل اليهم من قبل العدو أو الخصم الذي يتربص بكل حراكهم/ كل ما يأتي من خارج النص وبدافع من نفس النص، أي ما يسر به النص لقارئه، معتمداً في مصداقيته على صواب و سلامة الذائقة التي سمحت بتسرب الفكرة/ ان تشحن الكلمات بطاقة ابداعية من روحك فهذا ما تمكنت من ادراكه بين طيات هذه الرواية التي اختلط فيها السياسي بالاجتماعي/ عرّجت على لبنات عديدة و تضمينات قد تخللت بناء الرواية على امتدادها لتمنحها حق المنطق الابداعي والسردي/ عاد من رحلته وهو يحمل ذكريات لم يكن راضياً عنها، عاد كسير الخاطر والجناح، نادماً ويشعر بالخزي مع زمهرير الكلمات الهوجاء التي يوحي بها ضميره اليه أخيراً، نص محبوك الى حد ما وان كانت سياقاته معتدلة القوام ومتساوقة مع بعض في انتظام و غير عميقة، مما يضعف النسيج المعنوي ويجعل من حبكته عادية لا يسمها تحديث بنائي. تشير في تبرّم وتحذير ملفت الى ضعف النفس العربية، التي اصبحت لأبسط الاغراءات تخون وما مرد هذا الا الى الجهل الذي أصبح متفشياً و يزداد تفشياً أكثر كل يوم، وان هذا المواطن لسوء الانحطاط اصبح يفضل الموت على حياة الفقر التي يعيشها معدماً، فهل هذا يعني ان الطمع مع قلة القناعة و التشبه بحياة الأغنياء وترفهم دفعت بهذا المواطن الى هذا التردي، فما معنى أن يموت الإنسان بلا ثمن؟.  زمن كتابة الرواية ( ما قبل العام 2009م) يجعل منها رواية استباقية حذرت من أخطار لازالت في بدايات تكوينها آنذاك لو تفاقمت لأوقعت الهلاك بهذه المجتمعات، وهذا مالم ننتبه اليه و لا أعطيناه الموالاة التي يستحق حتى وقع الفأس في الرأس.

مقالات ذات علاقة

برعم التين الوليد

آكد الجبوري (العراق)

في تأمّل تجربة الكتابة نحن الضيوف وأنتُما ربّ ذاك المنزل

فراس حج محمد (فلسطين)

فلسطين انهضي فينا

زيد الطهراوي (الأردن)

اترك تعليق