النقد

الراقـصون الجـدد

الراقص يستمد سلطته على المتفرجين فقط حين يكون على خشبة المسرح هذا أولا وثانيا وهو المهم أن يكون داخل بقعة الضوء والتي لم توجد بشكل الهي فالمخرج المسؤول عن العرض منحه هذه البقعة والراقص بدوره يرفض أن يشاركه فيها احد ، ولا يوجد بصيص ضوء في الأرجاء، فهو يحتكر الضوء ، يحتكر رؤيتنا له ، فالراقصين القدامى واعني اسم لمرحلة تاريخية مهمة في الثقافة العربية وهي ما أطلق عليها تجربة السبعنيات والتي تصدر مشهدها الثقافي العام المشهد الشعري ، هؤلاء الراقصين كانوا فعلا تجربة متكاملة ويقينية وفي تصوري لهذا السبب لم تمتد الى ابعد من هذه الفترة ، فالرؤى المستقبلية واضحة على الصعيد السياسي ستتحقق الاشتراكية والانتصار الباهر على الرأسمالية التي كانت على حسب تصورهم خائنة وإحدى دعائم التخلف الذي يعيشونه وعلى صعيد المجتمع ستتحقق الدولة العلمانية ويسود القانون المستقل وتصبح الصحافة سلطة رابعة فعلاً ، كل هذه الأحلام ما تبقى من روئ الستينيات التي فتت بعد هزيمة 67 فأصبحت الرؤى الكبيرة أحلاما صغيرة ضعيفة مسؤولة عن الرقص في الأفق ليستمر الراقصون في مواصلة الحياة وانعكست هذه الأحلام على نصوص هذه الفترة مع إضافة نكهة الاصطدام المباشر بالسلطة هذا من ناحية الخطاب أما فيما يخص الشكل فلم يحظ إلا بخروج طفيف عن شكل النص التقليدي ، فاستبدلوا العمود بالتفعيلة وظلت الأذن هي الحكم ، غير أن المخرج ولضرورة تغيير الذائقة الفنية لدى المتلقي سمح بوجود أكثر من بقعة ضوء لتصبح مجموعة من البقع الصغيرة المضيئة على خشبة المسرح وانعاكس هذا على رؤية المتفرجين وسط قاعة المسرح ، الكل يشاهد ما يريد مشاهدته ، وكذلك اختار كل راقص من الراقصين الرقصة التي تناسبه وتناسب لياقته البدنية.

فاغلب الراقصين المصابين ببدانة جسدهم فضلوا الخروج عن الوزن نهائيا بينما تحشد الراقصون الأكثر لياقة للوزن وهذا ليس لضرورات فنية بقدر ما تمليه الحاجة الأيدلوجية عليهم ، هؤلاء الراقصون قبل أن يتقاسموا بقعة الضوء الكبيرة كانوا يتجمعون فوق بقعة ضوء كبيرة تستوعب كل ما يمارس من حركات بهلوانية معبرة او غير معبرة ، لكن بمجرد أن أطفأ المخرج منظومة الإضاءة تلاشت بقع الواقفين عليها ، فأصبحوا من دون خجل جزءاً من الظلام الذي يحيط بالمسرح ، وتتساوى الرؤية بين المتفرج الجالس في منتصف صالة المسرح والذي لم يشعر بالتغير عند انطفاء النور لأنه في الأساس ومن شروط إقامة عرض ناجح أن يكون المتفرج في الجزء المظلم ، والراقص الذي فقد كل سلطته دفعة واحدة ، يقف على الطرف الآخر من الخط المستقيم الممتد من وسط الصالة إلى قلب المسرح ، وهذا ما حدث فعلا للراقصين القدامى ، أنقطع الضوء فجأة ، أما بالنسبة للتسعينيين فهي تجربة شابة ومن حقهم الرقص بطريقة مختلفة فهم أبناء الخيارات المتعددة ابتداء من قنوات التلفاز إلى اختيار الألوان التي تتمشى مع الموضة لأخذيتهم .لكنهم وعلى الضفة الأخرى من كل هذا البذخ لا يستطيعون الجلوس لأكثر من ساعة مع أصدقائهم ليناقشوا على سبيل الترف تطور قصيدة النثر أو دور الشاعر داخل المجتمع سيخرجون ربطات عنقهم الأنيقة ويضعون العطر المناسب لهذه النقاشات، سوزان برنار ، جاك ادريد ، مشيل فوكو ، ريكور ، جوليا اكريستفا ، رولان بارت ، محمد مفتاح ، وآخرون ربما لا تكفي الساعة لذكرهم كلهم

هكذا النقاش في اغلب الأحيان ، أنيق ومؤثر ، خارج هذا النقاش كان المجتمع ينمو دون أن ينتبه لهم ، ولم ينتبهوا له ، وعلى النقيض نجدهم يستطيعون الجلوس كأغنام وسط أمراح القبيلة دون ملل مهم كان الشكل الذي تقوم عليه هذه القبيلة سواء كانت رابطة الدم او رابط المهنة ، هذا الانشطار في حالة الوعي أنعكس على فقدان الرؤئ السياسية ، أما الرؤئ الاجتماعية فعندما نظروا حولهم وجدوا أن القرآن شريعة المجمتع وبهذا تحققت الدولة الإسلامية والتي كانت حلم مرحلة الثمانيات بعد اختفاء أحلام السبعينيات

وعلى صعيد العدالة الاجتماعية والاقتصادية وجدوا أنفسهم مشبعين بمقولة شركاء لا إجراء وبهذا اختفت مسبقاً الرأسمالية احد أهم دعائم التخلف ! وجدوا أنفسهم عراة من دون حلم ، فهم في بلاد تحققت فيها كل الأحلام ، وكل الأسئلة علقت الإجابة على عنقها وخرجت من البلاد نهائياً فهم في بلاد لا معنى للسؤال فيها ! ماذا سيبقى لهم ؟ لاشيء وهم عراة من دون حلم ، من دون أسئلة ، سيفرون إلى أعماقهم ليخرجوا منها تجاربهم الحياتية البسيطة ولا يهم في اي شكل ستخرج هذه التجارب فالمهم أن تخرج حتى وأن كانت بشكل يبدو كأنه دليل سياحي لتاريخ البلاد ، هم يرقصون في الظلام وعليهم أن يتحركوا كثيرا كي نراهم نحن المتفرجون الموجودون في ظلام وسط المسرح ، هذه الحركات تخلق ضجيجا بالأقدام ولا نرى الراقصين فعلا بسبب الظلام لكننا متأكدون من وجودهم فصوت حركاتهم واضح ، فعندما ينفد رصيد التجارب الحياتية البسيطة ، سيتجهون إلى الصحافة ، ومنها إلى كل المجالات الثقافية ، هم يبذلون جدا كبير لكنهم ولسوء حظهم النور مطفأ .في تصوري تسمية التسعينيات جاءت محملة على أكتاف أكلاشيه لفيلم سينمائي بارد العواطف ، فلم نر لهم غير التسمية ، دون أي فعل ، لم نعرف وجهة نظرهم حول تاريخ أي مشهد من مشاهد الثقافة الليبية ، ما مدى اتصالهم به وانقطاعهم عنه ، وما هي إضافتهم له ، لم يكن إلا تجمع لأسماء تقاسمت بقعة من المفترض أن تكون مضاءة فوق خشبة المسرح ، واخذوا يرقصون على طريقتهم ، شعر ، صحافة ، كتابة السيناريو، إعداد برامج ثقافية لا تخلو من الملل ، زاوية أسبوعية في جرائد تقريبا لا تقرأ وقريبا جدا يتوقفون عن كل هذه النشاطات ويتفرغون للمشاركات الخارجية التي تتيح لهم فرصة الالتقاء براقصين من دول عربية أخرى . الراقصون الجدد ، عليهم فقط أن ينظروا للماضي بتسامح لكي يحققوا قفزتهم التي ننتظر ، والأهم عليهم إعادة الضوء إلى خشبة المسرح .

مقالات ذات علاقة

قوة السرد في أدب صالح السنوسي

المشرف العام

رحلة باطوس .. رحلة تشويق ونشوة وامتاع

المشرف العام

الهايكو ليس شعراً

علي جمعة اسبيق

2 تعليقات

amal hamal 11 نوفمبر, 2012 at 23:10

اهلا حسن
تسلم اين انت

رد
أمل جمال 11 نوفمبر, 2012 at 23:13

أهلا حسن
الحمد لله انك بخير انت و صالح قادر بوه و جيمعكم سألنا عنكم كثيرا يا صاح
موقعي هذ الأيام معطل.
مودتي لكل ليبيا شعبا و أرضا

رد

اترك تعليق